مواضيع اليوم

النهر الخالد ولعنة الأشاوس

كمال غبريال

2010-04-29 08:22:52

0

النهر الخالد ولعنة الأشاوس

كمال غبريال

هو أمر يفوق كل طاقة للاحتمال والصبر وضبط الأعصاب، أن تنتقل "لعنة الأشاوس" من القضية الفلسطينية، ومن تهويمات السياسة الخارجية المصرية، التي تطلق عليها ما لو غباراً أسود يحجب الرؤية ويخنق الأنفاس، إلى قضية مصيرية تهدد وجود مصر وشعبها على هذه البقعة من العالم.
لعنة العداء لما يسمى الصهيونية والإمبريالية الأمريكية، والتي يتخيل الأشاوس عفريتها يظهر لهم في كل خرابة في أنحاء حياتنا العامرة بالخراب. . ندير ظهورنا لأخطائنا وخطايانا ازاء كل ما يلم بنا من نكبات وكوارث، ونتفرغ للشجب والتنديد بالشيطان الأكبر وربيبه الشيطان الأصغر، الذين لا هم لهما إلا الكيد لنا، وإحباط سعينا المزعوم نحو تطور نعاديه، ونحو نجاح لا نمتلك أياً من مقوماته.
قلنا نُصَبِّر أنفسنا، وهم يعوقون بتهوساتهم سعي الإدارة المصرية نحو سلام المنطقة وحل القضية الفلسطينية، أن تأثيرهم الحقيقي على السياسة المصرية محدود، وأن السياسة الخارجية المصرية بطبيعتها عرجاء، ولن يفرق كثيراً في خطواتها إصابتها بالمزيد من الإعاقة!!. . وقلنا مداً لحبال الصبر إلى منتهاها أنه لابأس من قليل إضافي من الأضرار التي تلحق بحل مأمول للقضية الفلسطينية بسبب هلوسات هؤلاء الأشاوس، مادام أصحاب القضية أنفسهم يستمرؤون بقاء تلك القضية معلقة أبد الآبدين، ليمارسوا على شطآنها النحيب والولولة وابتزاز الدولارات، ولو تضررت شعوب الجوار والعالم أجمع من هذا الوضع أضعافاً مضاعفة لما يتضررونه هم بالفعل!!
لكن أن يمتد الضباب الأسود الذي تنفثه أقلام وحناجر الأشاوس إلى قضية محورية لا يدانيها لدى الشعب المصري أهمية وهي قضية مياه النيل، فهذا أمر لا يحتمل الصبر أو الصمت، خاصة بعد تفاقم انعدام التفاهم الخطير بين دولتي مصب النيل مصر والسودان من جانب، وبين دول المنبع من الجانب الآخر، ووصل الحال إلى انصراف تلك الدول المصحوب بتهديد بقيامهم بتوقيع اتفاقية بين الدول المنبع حول نهر النيل، دون اعتداد بموقف دولتي المصب.
القضية هكذا لا تحتمل الهزر ولا الزيغان والمزايدات والمتاجرات التي احترفها الأشاوس، كما لا تحتمل القعود عن السعي الجدي للعثور على حلول علمية وعملية لها، والاكتفاء بإلقاء التبعة واللوم والشجب والتنديد على شماعتنا الأثير المعتادة، وهي مؤامرات إسرائيل وأمريكا، أو ما نرمز له أحياناً "بالأيدي الخفية"، التي هي خلف كل ما نرزح فيه من بؤس وفشل، أو كل ما نواجهه من مشاكل، نعجز ونعزف عن التعامل العلمي والواقعي معها، مفضلين الفرار من مواجهة الواقع، لنضيع في أوهام التآمر على "أمة سخرت من جهلها الأمم"!!
عذراً إن كانت نبرة الانفعال هي المسيطرة على هذه السطور، فعلاوة على حيوية الأمر وخطورته البالغة، فلقد استفزني أيما استفزاز أن أستمع يوم الاثنين 26/4/ 2010 إلى حديث تليفزيوني للسيد/ الصادق المهدي رئيس حزب الأمة السوداني يتناول هذا الموضوع، لأستيقظ في صباح اليوم التالي، لأطالع مقالاً لكاتب نكن له كل الاحترام والتقدير، نشره في جريدة مستقلة شهيرة، يتناول فيه ضمن ما تناول هذا الموضوع. . شتان بين المعالجتين، معالجة السياسي السوداني الذي وإن كانت بلاده تعتمد على نهر النيل، إلا أنه على الأقل هناك أمطار تسقط على السودان، ولا تعتمد مثل مصر تماماً على النيل، وبين معالجة الكاتب الجليل رئيس تحرير جريدة لها احترامها في عالم اليوم، وربما هذا هو ما يجلب الحزن أو حتى اليأس حقيقة، أن تردد مثل هذه الشخصية الجليلة بحق تلك الترهات، وتدرج نفسها ربما بلا وعي ضمن قائمة الأشاوس، أو على الأقل ضمن ضحاياهم، وهو أمر لا يغتفر لكاتبنا الكبير بالتأكيد!!
بالطبع موضوع نهر النيل والاختلاف بين دول حوضه والمقاربات العلمية لإحلال التوافق عوضاً عن الخلاف، ليس مجاله هذا المقال، وسوف نعود إليه فيما بعد بالتأكيد، مستعينين برؤى العلماء والخبراء المتخصصين في هذا المجال، والذين لا يجدون لأفكارهم ورؤاهم العلمية المخلصة للعلم وللوطن مجالاً في وسائل إعلامنا مدمنة التهييس والهتاف والصراخ. . لكننا نكتفي هنا مؤقتاً بإبراز الاختلاف في المنهج وأسلوب التفكير، بين السيد/ الصادق المهدي، وبين كاتبنا الكبير، الذي آثرت ألا أذكر اسمه صراحة، خشية أن أسبب له ألماً شخصياً وذاتياً، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يهدف إليه كاتب هذه السطور في معالجة أي مما يتناوله من قضايا!
جاءت مقاربة كاتبنا لتركز على أهمية الخلاف القديم الذي تفاقم حديثاً بين دول المنبع ودول المصب، وتشير لتقاعس الدولة المصرية عن التصدي لحل هذه الإشكالية، وهذا جميل بلاشك، لكن رؤيته للأمر والمتوافقة مع رؤية السيد المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، كانت تحذيراً من خطورة الاندفاع وراء "ادعاءات زائفة لا أساس لها من الصحة تروجها أيد خفية فى بعض دول المنبع". . هكذا دفعة واحدة تم وصم موقف دول المنبع بأنها " ادعاءات زائفة"، وأن هذه الدول ألعوبة "أيد خفية"، ليكون علينا بعد ذلك كما جاء في مقال صاحبنا أن ندير ظهورنا لتلك الدول ولما تقول، وأن نتحول مباشرة لسؤال: " كيف نواجه "مؤامرات" هذه "الأيادي الخفية"؟". . ولا يفوت المقال بالطبع أن يضع النقط فوق الحروف، وكأننا لا نعرف جيداً شماعتنا الأزلية الأبدية، فيؤكد "وهذه الخطط الأمريكية والإسرائيلية لم تكن خافية"، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
نأتي الآن إلى مقاربة السيد/ الصادق المهدي، والذي ظهر جلياً خلال الحديث الذي تناول شئون السودان في جوانب شتى، مدى ما يتمتع به الرجل من عقلانية وقدرة على التحليل والرؤية الثاقبة الحداثية للعالم ولأحوال بلاده المضطربة في جميع جوانبها، ما جعلني لا أتمكن من منع نفسي أثناء حديثه، من إجراء مقارنة بين شخصية وعقلية هذا الرجل الذي يبدو في مظهره في منتهى البساطة، وبين رموزنا المصرية سواء داخل الحكم أو خارجه!!
قال الرجل بكلمات بسيطة وحاسمة كحد السيف: ما يقال عن مؤامرات خارجية حول حوض النيل هو محض كلام فارغ، والحقيقة أن دول المنبع لديها مشكلة مياه، وعلينا أن نشكل لجنة من "القديرين" في مصر والسودان، لكي نتفاهم معهم، ونصل إلى الحلول والتصورات التي تريح الجميع!!
كلمات بسيطة ومؤثرة بعقلانيتها وإخلاصها، لأعود وأسائل نفسي، أين نحن في مصر من هذا المنهج البسيط، ونحن ببساطة أيضاً نفتقد لكل من العقلانية الإخلاص؟!!
مصر- الإسكندرية




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !