النكتة و الحكاية الشعبية في " قوس قزح" لحسن برطال
إن القارئ للمجموعة القصصية قوس قزح ، للأديب حسن برطال ، يجد نفسه أمام كشكول من القصص القصيرة جدا المكونة من 144 أقصودة ، تجمع بين متعة الحكي الذي يعتمد على السخرية وبساطة اللغة المؤديان لهذا الحكي .
وهذا الكشكول الفكاهي الساخر لا يمكن أن يتصف بهذه الجمالية وبهذه الفنية لو لم يكن متنوعا وقصيرا ، لأن الفكاهة لا تكون فكاهة و لا تؤدي المعنى المقصود منها دون هذا التنوع وهذا القصر .
إن تيمة العنوان توحي بمضمون المجموعة القصصية ، إن قوس قزح على المستوى السيميائي للغلاف ، هو مجموعة من الألوان المختلفة المشكلة لقوس قزح .
ففي الغلاف كل هذه الألوان ، وفي القصص كل ألوان الطيف التي تعرفها الفئات المشكلة للمجتمع ، ففيها قصص عن الفقراء و أخرى عن الأغنياء و ثالثة عن الأطفال ، ورابعة عن الهم القومي و الإنساني ، عن القضية الفلسطينية .... وغيرها من الألوان الظاهرة و الخفية.
وهذه المجموعة القصصية ، تعبر بشكل أو بآخر عن المبدأ الذي اعتمده الأديب حسن برطال ، وصدر به مجموعته ،وهو " كلما كنت قصيرا جدا ....كلما كنت الأقرب إلى الأرض " بمعنى أنه كلما كان دقيقا في اختيار الألفاظ المؤدية إلى المعنى كلما كان أكثر تعبيرا عن الأشكال و النماذج البشرية المشكلة لفئات المجتمع.
ولهذا تجده في قصصه أكثر دقة وأكثر تعمقا في حياة الناس ، لدرجة أن القارئ إذا حذف كلمة واحدة بل حرفا واحدا ، يمكن أن يحدث خللا في المعنى .
ولهذا السبب نجد الكاتب قد استغني عن العكازات اللغوية التي يعتمدها الأدباء ، وهي حروف العطف وحروف الجر وغيرها. نجده اكتفي بالجمل ولا شئ غير الجمل ، و في عالم القصة القصيرة جدا كلما كانت العبارت قصيرة ودقيقة كلما كانت المعاني واسعة وبليغة .
و بأسلوبه هذا يكون قد استفاد بطريقة أو بأخرى من مادة الرياضيات التي يدرسها و التي أشار إليها في كثير من النصوص القصصية ، وهي مادة تريد الوصول إلى النتيجة من أقرب الطرق وبأقل الوسائل .
وهذه الدقة في اختيار الألفاظ و العبارات ، دفعته إلى الفصل بين قصصه و التنويع بينها ، وكأنك أمام قصص متناثرة هنا وهناك .
وهذا هو الأسلوب الذي اعتمده الكاتب فتشعر به وكأنه يلتقط مشاهد درامية من مواقع ساخنة و مختلفة ، و كذلك من زوايا متعددة ، لأن تعدد الصور يساهم في تعدد الرؤى ، وتعدد الرؤى يساهم في تعدد الإمكانيات و الحلول المتاحة لخلق تصور ملائم ، يساهم في انفراج الرؤية و الصورة عند القارئ .
إن القارئ لا يستطيع الربط بين هذه القصص ومواضيعها ، إذ تأخذه إلى عوالم أخرى من الخيال ، في إطار علائقي يجمع بين الواقع و الخيال المفضيان إلى خلق عالم متخيل ، يحافظ على واقعية الواقع وخيال وفنية القصة.
إن من عادة المهتم بالكتابة القصصية أن يميز بين زمنين زمن الوقائع وزمن السرد ، زمن الوقائع هو الزمن الذي حدثت فيه أحداث القصص ، وزمن القص هو الزمن الذي سرد فيه الكاتب أحداث قصصه .
لكننا عندما نعاود قراءة قوس قزح لا نلمس هذا التمييز بين الزمنين ، فالكاتب حسن برطال عنده زمن واحد يجمع بين الزمنين ، بمعنى أنه خلق لنفسه زمنا ثالثا يوحد الأزمة ، مما يجعل هذه القصص قابلة لجميع الفضاءات الممكنة و المتخيلة ، لأن هذه القصص ذات عمق واقعي ، عمق مرتبط بالمتخيل اليومي الذي يعيشه الإنسان ، إنه زمن مرتبط بالمخزون الثقافي الشعبي الذي ترعرع فيه الكاتب وصاغه أدبا ، من خلال تجربة خاصة تعتمد على النكتة و الفكاهة ، في رصد هموم و آلام و أحزان الإنسان البسيط .
إنها طريقة في التعبير ترصد الواقع المعيش للإنسان الشعبي المهموم الذي لا يملك القدرة على التعبير ، لكن الكاتب بدقة أسلوبه ، وبطريقة اختيار ألفاظه ، استطاع كشف متغيرات هذا الواقع الكادح المأزوم ،ونقله إلى الناس وعبر عنه و صاغه أدبا.
لقد جعل من الواقع المعيش قصصا تمشي على الأرض بعدما كانت تحلق بخيالها الصاخب في الخيال ، أضفى إلى المتخيل الشعبي هذه الصفة الإبداعية الجميلة ، التي تجعل من لاشئ نكتة معبرة عن الإنسان في قالب قصصي مبدع.
إن أسلوب السخرية في الأدب قديم قدم الأدب ، عرفناه في الأدب العربي عن طريق الحكي الشفهي ، لأن هذا النوع من الأدب لم يكن يدون ، بل كان منتشرا بين أوساط الفقراء ، ويتداول بينهم عن طريق الحكي اليومي اللاذع ، ولهذا فإن الكتابات المتعلقة بهذا الفن كانت قليلة و إن لم نقل أنها كانت منعدمة.
لأن الأدب الذي وصل إلينا عن طريق التدوين ، واستطاع الانتشار ،هو الكتابات التي كانت تنظم في حضرة الملوك و الأعيان ، أما المحكي اليومي و القصص التي تعبر عن هموم الناس بقيت حبيسة صدور الناس ، تحكى بينهم في أوساط ضيقة ، ضيق صدورهم ، و فقر حالهم .
لقد كانت تعبر عن موقفهم من القهر الذي كانوا يعانون منه ، و إن عبروا عن هذا الهم كانوا يعبرون عنه بأساليب استعارية ، أو بضمير الغائب ، أو بأسماء وهمية خوفا من قمع و بطش الحكام و أذنابهم.
وإن وجدت هذه الومضات فرصة الإلقاء في حضرة الحاكم فالغاية منها إضفاء روح الفرجة و النكتة على المجمع.
وهذا القمع وهذا الرفض لسلطة الآخر عبر عنها الكاتب بلسان الفقراء في نعت كل من يستهين بالناس ، ويعتدي على حقوقهم وحرياتهم بالشيطان ، وقد وظف ذلك في قصة أبابيل التي جاء فيها:
(صوب في اتجاه السماء ، ضغط على الزناد ...النجمة التي أصيبت سقطت على رأسه ليموت آخر الشياطين رجما ../ )
إنها قمة في تصوير كره المستعلي الذي يعتدي على مصالح الناس ، ويدوس على كرامتهم ، لقد نال مصيره من السماء التي أسقطت عليه النجوم مثلما أسقطت أبابيل الحجارة الحارقة على الكفار، وهذا تناص مع النص القرآني بطريقة فنية جميلة وبكثير من الاستحياء .
وهناك إشارات أخرى لمظاهر اجتماعية تغلغلت في أوساط الناس و هي ظاهرة تشبه الرجال بالنساء ، و تشبه النساء بالرجال ، وهي إشارة إلى تغيير الجنس من الذكر إلى الأنثى و العكس صحيح ، أو الحركات و التصرفات التي يقوم بها بعض الناس فلا تستطيع التمييز بين الرجل و المرأة ، إنه يفضح هذه الفئة المخنثة بطريقة ساخرة ، لدرجة أن الابن لا يستطيع التمييز بين أبويه ، أيهما الذكر و أيهما الأنثى ، لما شابهما من تداخل مصطنع أعازه الكاتب إلى عامل الهرمونات التي يتناولونها بشكل يومي في طعامهم المستورد :
(قال المعلم: لافرق بين الخروف و النعجة ...نفس الصوف ، نفس الملامح ووحدها القرون تفرق بين الذكر و الأنثى ، وفي البيت كان الولد ينظر إلى أمه و أبيه ... نفس الملابس نفس الملامح يبحث عن القرون في رأس كل واحد منهما و يتساءل : من منكما الذكر ...؟؟؟)
سخرية غريبة تفرضها طبيعة السرد المختلطة بالحكي الذي يوظفه الكاتب بطريقة دقيقة ، يفضح من خلالها المدرسة باعتبار أنها فاشلة في مناهجها ، لأنها تنطلق من معطيات خاطئة للوصول إلى نتائج خاطئة ، ثم تصف طبيعة التلميذ المغربي في المدرسة ، الذي لا يستطيع التمييز بين الأشياء رغم بساطتها ، وهذا المثال وغيره يعطي أدلة على حمل الكاتب هم التعليم ومشاكله لدرجة التعبير عنه في أعماله القصصية .
و اعتماد الكاتب على السخرية نابع من قربه من هموم الناس ، وسماع نبض الشارع ، كما أنه يحيط عن قرب بالعادات الشعبية التي أصبحت راسخة في المتخيل الشعبي ، توارثتها الأجيال فصاغها قصصا مبدعة مثلما نجد في قصة كلاب الكرنة
(قالت امرأة لجارتها العاقر :
عليك بمائة قديدة وقديدة وسيمتلأ بطنك بإذن الله يا حليمة ...
كانت الجارة على حق ... فهذه الكمية الهائلة من اللحم بإمكانها أن تملأ بطون كل الصين.)
بكثير من السخرية صور المرأة حليمة بأنها حالمة ، تحلم بالمستحيل لأن جمع القديد بهذه الكمية ، يفيد في إشباع البطون ولا يفيد العاقر في الإنجاب ، إنه هنا يشير إلى ظاهرة الشعوذة المتفشية في أوساط عامة الناس ، والجهل المتغلغل في أذهانهم.
هذه التقنية في توظيف الموروث الثقافي الهامشي في قصصه ، تبين مدى ارتباط الأديب حسن برطال بالواقع ، فقصصه كلها واقعية صاغها بأسلوبه الأدبي الذي يمزج بين واقعية الواقع وفنية وجمالية العمل الابداعي.
إنه خيلوطة كما قال في إحدى قصصه المعنونة ب خيلوطة التي قال في نهايتها : (ما أجمل الخيلوطة يا أبي...لماذا لا تحضرها في البيت )
و بالفعل فحسن برطال حضر هذه الخيلوطة في البيت العربي الذي تتقاطع عنده هذه العادات ، واستطاع تصويرها بشكل( تراجيكوميدي) يمزج بين الضحك و البكاك ، يضحكنا بواقع في حقيقة الأمر يبكينا أكثر مما يضحكنا.
وكما هو معروف فإن اللغة مركبة من حامل ومحمول فالكلمة لا تفهم في ذاتها ، بل لابد من ربطها بالسياق اللغوي الذي جاءت فيه ، فالألفاظ في هذه المجموعة القصصية محملة بدلالات متعددة .
فالحروف المقطعة في قصة دو...لا...ري..حروف عادية مأخوذة من المعجم ، ولكن أثناء الاشتقاق اللغوي تعطينا دلالات متعددة ، ومن بين ما تقصده ، هذا الاستهتار و التمييع الذي تعرفه الأغنية العربية ، التي يلجؤ إليها كل من هب ودب ، رغبة في كسب الدولار .
لاحظ هنا كيف تحول المفهوم و الدلالة من حروف مقطعة إلى حروف مترابطة تعطي معاني عميقة ، وأبعاد دلالية ، يفضح من خلالها المتطفلين على ميدان الأغنية و الفن إجمالا.
دائما و أنت تتجول في متحف قوس قزح ، تجد حسن برطال يغوص في هموم الشعب ومشاكله و يفضح المستور بين أفراده ، فقد أشار إلى الفضائح التي تحدث بين الفتيان و الفتيات الذين يلتقون خفية في الزوايا المظلمة ، و الأماكن الخالية ، فينتج عنه افتضاض البكارة ، ويتولد عنها حمل غير شرعي لابد من تدارك عواقبه ، وأقرب طريق لحل هذا المشكل هو عقد الزواج و الحالة المدنية ، اللذان يستران الفتاة وينجيان الفتى من السجن وهذه الصورة التقطها بعدسته الزومية في قصة (حالة مدنية )
(قال أبي : أنت الذي زوجتني أمك مرغما ...
قلت : يوم زواجك لم أكن هنا يا والدي ...قال بل كنت في بطنها...)
إن هذا الحوار الذي يدور بين الوالد و الولد أعطى للقصة أكثر مصداقية وجمالية ، فالكاتب لم يقل الأب ، بل قال : الوالد ، لأنه يعلم علم اليقين بأن هذا المولود من صلبه ، وهذا ما دفعه إلى تسجيله في الحالة المدنية ، التي جاءت عند الكاتب بصيغة التنكير ، وهذا دليل على الأعداد الهائلة التي وقعت في هذا المنزلق الاجتماعي ، الذي يحتاج إلى القيم الأخلاقية و التربوية و يحتاج كذلك إلى تربية جنسية .
كما أن القارئ لقوس قزح يشعر بالوعي السياسي ، و الهم القومي ، عند حسن برطال ، الذي يظهر من خلال تعبيره عن مواقفه من العدوان الإسرائيلي على فلسطين ، وعلى غزة بشكل خاص ، وما تعانيه من حصار وقهر .
وقد صاغ هذه القصص بطريقة مفارقة غريبة حيث أعتبر الإنسان الفلسطيني أقوى من سلطة وقهر الآلة : فالفتاة الفلسطينية التي استشهدت أقوى من الصاروخ ، إنها بقوتها وبعظمتها استطاعت تفتيت الصاروخ :
(سقط صاروخ على الشقيقتين .. واحدة منهما أصيبت فتناثرت أشلاؤها ، و التي نجت قالت لأمها أختي انفجرت وحطمت صاروخا)
وهذا هو مقياس النجاح في غزة ، فالذي ينجح في الامتحان، هو الذي ينجح في الاستشهاد إنه هو الذي يصعد إلى ( ....السماء ليبحث في القسم الأعلى عن الذين نجحوا و انتقلوا..)
إنها مفارقة مذهلة ، ومحيرة ، تنظر إلى الحياة نظرة دونية ، تتأمل إلى غد ينعم فيه الفلسطينيون بالحرية أو الشهادة و الخلود في الجنة .
إن قوس قزح في النهاية تبقى مجموعة قصصية ذات دلالات متعددة ، قابلة للقراءة من أوجه وزوايا مختلفة ، إنها مجموعة قصصية واضحة وضوح الواقع وغامضة غموض من يعيش هذا الواقع.
محمد يوب
20.07.10
التعليقات (0)