أ.د.بشرى البستاني
اذا كان النقد من قبل كلاما على كلام حسب أبي حيان التوحيدي ، وكان لذلك الكلام مهمات الكشف عما هو ايجابي وسلبي في النص معللا بالذوق والموهبة والمعرفة معا ، بحيث تكون العملية النقدية بمجرياتها ونتائجها هي المحددة لنهاية ما يطرحه النص ، فإن النقد الحداثي هو الكاسر لتلك الحواجز المحددة للدلالة من خلال جعله النص منطلقا لعمله وانفتاح رؤاه وليس النهاية التي يقف عندها ليقول خلاصةً فيها ، ولذلك كان لهذا النقد ذي الرؤية الخاصة والمغايرة اشتراطاته في النص الأدبي المدروس ، في سماته الفنية من جهة ، وفي تأشيراته الجمالية التي يستلمها القارئ المثابر فاتحا من خلالها آفاق الدلالة على تعددية خصبة ، فالنص المغلق أو ذو البعد الواحد او المباشر الذي تتسم بنيته السطحية بشفافية لا تخفي وراءها عمقا ، لا يصلح ان يكون مادة لاشتغال هذا النقد ، لأنه يعطينا كل مفاتيحه في أول قراءة كون فعله الدلالي لا يشتغل إلا في بنيته التركيبية الأفقية ، من هنا يمكن القول ان النقد الحداثي هو فعل تأويلي لا يستقبل في مشغله المركب الا النصوص التي تتسم بقيمتها الفنية سواء كانت هذه النصوص حديثة ، معاصرة أو قديمة نابضة ،
ذلك أن الفن الذي استطاع أن يعبر الزمن ويتجاوز العصور إلينا لا يعد ماضيا ، لأن الماضي - بدلالة الفعل ( مضى ) بمعنى انقضى - زمنٌ منتهٍ ليس له الطاقة على مخاطبة أرواحنا والتفاعل مع مشاعرنا التي طالتها تعقيدات الحياة المعاصرة وحضارتها المركبة ، وعليه فان الشعر الذي جاءنا عبر العصور وأحببناه إنما هو شعر الحاضر المتوهج بفاعلية الحياة ، ففي الفن لا يوجد الا زمن ممتد عبر فضاء تتسع آفاقه لتنتمي إليه كل النصوص القادرة على البقاء بما تحمل من خصب وتألق ، لأنها تخاطب شيئا ما في دواخلنا ، ولان موجاتها الفنية التي شكلتها تموجات روح صاخبة بالإبداع تلتقي بتموجات أرواحنا المستقبلة لذلك الإبداع الذي يحمل شعلة تمتلك القدرة على الإضاءة وملامسة النفس الإنسانية في كل زمان ومكان ، فالنص الخالد لم يصل إلينا بقدرة تنبؤية بل بطاقة قادرة على استشراف غور وجودنا وملامسة الكينونة المشكلة لهذا الوجود، فالوجود الإنساني واحد ، لكن تشكلاته وطرائق مخاطبته هي المختلفة ، ولذلك ظل شعر المتنبي حيا فينا ، كما بقي شعر ابي تمام وابي نواس والمعري وشعر التصوف ونصوصه النثرية ، وكذا هو شأن شعر المعلقات وشعر الحب القديم والرثاء والحكمة ، وكل الفنون التي حملت هواجس الفقدان مذ نفي الإنسان من فردوسه الأول حتى غيابه المأساوي الأخير . ولذلك فان اي تصور للحداثة بعيدا عن جذور أصالتها التاريخية إنما هو تصور مبتور يسعى الى فصل الحياة المعاصرة عن مجراها الطبيعي وتلك محاولة عقيمة دون شك .
يقول الشاعر والناقد الفرنسي فوركاد « توجد فينا حتما حاجة حميمة لشعر كل الأزمنة « وكأن ذلك التوهج الذي يشعل جذور الفن الأصيل عبر العصور ما هو الا منحة إلهية لتشكيل علاقة اتصال بين الأزمنة الإنسانية وجوهر عطائها وجهد تحضرها وفنونها مع الحاضر ، وإلا من يقف اليوم عاجزا عن التواصل مع أبيات متمم بن نويرة وهو يقف على قبور مجهولة متذكراً أخاه مالكا بعيدا عن قبره ، ومن لا يتعاطف مع أبي صخر الهذلي وهو يصور تناقض لواعج الحب في الذات الإنسانية في حالتي البعد والقرب ، ومع المعري وهو يضع القيمة معيارا في صميم اشتباك الهوية بالوجود . فالنص الحداثي مهما اختلفت تعريفاته إنما هو فعل جمالي انتقل بالنص من نمط الكلام القائم على نمذجة بلاغية الى إيحاء الكلمات عبر تحولات التشاكل والتناقض والانبثاق معا في علاقة اقتدارية متمكنة من التحويل الدائم وتفجير البؤر وتجاوز الاساليب الجمالية القديمة الى مستويات فنية اشكالية تتشكل عبر صيرورة مستمرة لا تتسم بالاستقرار والثبوت ،من خلال علاقات بنائية جديدة ذات كثافة دلالية ومحمولات ابداعية ترتكز على الكشف والاستبدال والتلوين وانفراط العلاقات المعجمية والتداولية بين الدال والمدلول ، والاحتفاء بطفولة اللغة وتحررها من التكرار والركود . هكذا صار النص الحداثي نص الحدس والكشف والرؤيا كما يؤكد أدونيس وإثارة الأسئلة والتشظي وتعدد الدلالات وكسر القيود والإطاحة بالنمط الواحد سعيا إلى تأكيد انفتاح النص والحياة معا ، لان النص الأدبي ونقده لا يكونان حداثيين بجمالهما فقط ، بل بمدى قدرتهما على تحديث الفكر والحياة وجوهر الإنسان ، انطلاقا من رؤية هيدجر التي حررت البشرية من الماهية الثابتة مؤمنة بالكينونة التاريخية ، ومن رؤية جادامير التي حررت الفلسفة من وهم الوقوف عند المنهجية العلمية مؤكدا أن تجربة الفن أوسع مدى من كل المنهجيات التي تحاول تقييدها ، مهتما بحضور التاريخ عبر جهازه المصطلحي المهم في انصهار الأفق التاريخي من خلال التفاعل بين افق القارئ وافق النص وافق المبدع حيث يعمل تفاعل المشتركات بين القارئ والنص من خلال تجربة الحياة لدى كل منهما ، على السعي نحو تحقيق الفهم بحيث لا يكون القارئ منفعلا حسب ، بل فاعلا حقيقيا ومستفيدا من الآراء المسبقة في العملية النقدية القائمة على التأويل لتقريب النص ودلالاته من القارئ ، شرط تفعيل التراث وليس الموروث الاعتيادي بالحوارية بين العناصر المتفاعلة ، وأهمية مصطلحي الفهم والحقيقة في تأويليته النقدية المهمة ان اهمية مصطلح الفهم هي التي دفعت طلاب جادامير « آيزر وياوس « ومن ثم «ستانلي فيش» الى طرح إجراءاتهم المهمة في الفجوات والفراغات وأفق التوقع وسلطة الجماعات المفسرة للوصول الى إزاحة الاغتراب الذي يشعر به القارئ تجاه النص من اجل الكشف عن عوامل حجبه وغموضه لجعله مألوفا وممكن التأويل ، ذلك الاغتراب الذي يتأتى من الايديولوجيات والتراكمات التي تتلبسه وتحيط به ، والعمل على تخليصه منها يؤدي الى ظهوره بذاته كاشفا عن مراداته وحقيقته ، لكن ما الحقيقة ...؟ أهي سر المعنى الكامن في النص ، أم هي المعاني الكامنة في تعدد القراءات حسب نظريات القراءة ، أم هي الحقيقة غير المواتية والمؤجلة دوما عبر الاختلاف وغياب الأصل وتهشيم المرجع ، أم هي الدلالة المتقلبة في لعبة الدوال المراوغة عبر مصطلح التلاعب الحر باللغة والاستمرار في إرجاء المعنى في التفكيك لان كل قراءة هي إساءة قراءة ، وسر النص مؤجل مرجأ ، والحقيقة الوحيدة في هذه التوجهات النقدية التي رست في معطيات خطاب ما بعد الحداثة هي عدم وجود حقيقة على الإطلاق ، ولا أصل أبدا ، بل أثر على أثر على أثر ومن مجموع هذه الآثار يتشكل النص ، لأن كل شئ هش ومنسرب ومشكوك فيه وعرضة للتفلت الدائم .
من هنا يتضح لنا أن الحداثة الحقيقية - فنا ونقدا - لا تنبع من فراغ ولا تنبثق من مجهول ، بل هي تنطلق من جدلية البؤر المتألقة العابرةِ عصورها بحكم الطاقة الخلاقة الكامنة فيها وهي تلامس التطور الجاري في كل جوانب الحياة المعاصرة لتتفاعل معه تفاعل استشراف وحوارية معرفية وحدس وسؤال وإيمان بالتعددية والاختلاف والانفتاح وتجاور المتناقضات ، تفاعلا يمتلك القدرة على التصدي للنموذج الواحد المتمركز والحاجب والمهيمن ، ولذلك كان التحول سمة أصيلة من سمات الحداثة ، لكنّ لهذا التحول اشتراطات يحكمها الوعي القادر على التمييز بين الموجة العبثية التي تمر مرورا عابرا وزائلا ، لايؤسس قيما تستغرق مداها وتتطور بحكم الطاقة الكامنة فيها وبين الحداثة المرتكزة على كل ما هو معرفي رصين وجاد وحيوي على طريق التحولات المتجددة والمدهشة التي تمنح الفنون سمات التشكل القادر على الارتقاء بالأدب ونقده معا . وقبل المغادرة يطيب لي أن أختتم للنص بمثل سومري قيل قبل أكثر من ستة آلاف عام مؤكدا أن « ما يصدر عن القلب يتعرف عليه القلب « ، فالأمر ليس هو اللعب البحت باللغة ومعرفة قواعدها ورصف كلماتها لتكون نصا أدبيا ، بل هو أبعد من ذلك وأعمق بكثير ، وأن أختتم للنقد بما أكده سقراط من أن « النقد أساس المعرفة « كونه مجدد المعارف ومذكيا شرارة الحياة فيها ، ولا تتوقف المعرفة وتذوي الفنون وتكرر نفسها ، وتذبل الحضارات أو تنتهي إلا حينما يتوقف النقد عن أداء مهماته في الفحص وتأشير عوامل السلب لمعالجتها ورفدها بعوامل الحيوية العارمة ، وفتح أبواب الرؤى الهادفة الى دحض الجمود وتحريك الساكن نهوضا بعوامل الإيجاب وبث النبض الفاعل المتجدد في كل جوانب الحياة .
http://www.beladitoday.com/index.php?aa=news&id22=3755
التعليقات (0)