إن من المفاهيم الحساسة و الخطيرة التي نستعملها في حياتنا اليومية ، مفهوم النقد بنوعيه : البنّاء و الهدام .
و خطورة و حساسية مفهوم النقد ، تكمن في شقيه السابقين ، البناء و الهدم ، و عدم القدرة أحياناً على التمييز بين هذين الوجهين من قبل الشخص المنتَقِد ، و ذلك حسب وعيه و ثقافته و نفسيته و توجهه السياسي و البيئة التي يعيش فيها . فعملية النقد بمنظورنا تشبه تماماً مفهوم التشخيص الطبي أو العمل الجراحي الذي من المفترض به أن ينطلق من غاية وحيدة هي العلاج المناسب و الأمثل لحالة مرضية معينة . إذن في هذه الحالة و من باب مقاربة مفهوم النقد مع التشخيص الطبي ، فإن ذلك يفترض أموراً ثلاث :
1ـ وجود حالة مرضية معينة في الحالة الطبية ، يقابلها حالة خلل أو خطأ معين في مجال النقد ، سواء أكان فكرياً أم غير ذلك .
2ـ ينحصر التشخيص الطبي فقط في تحديد المرض أو العلة البيولوجية ، تمهيداً لإعطاء الدواء المناسب أو العمل الجراحي الملائم و المؤدي فقط إلى شفاء المريض و إيقاف المرض . و ذلك ما يقابله النقد البناء المنطلق حصراً من وجود علة أو خلل أو خطأ واضح متفق عليه عقلياً و منطقياً ، و تحديد ذلك الخطأ تمهيداً لإزالته .
3ـ يستلزم التشخيص الطبي وجود طبيب مختص متحصل على الكفاءة العلمية التي تخوله القيام بعملية التشخيص و تحديد علة و سبب المرض . و ملتزم أيضاً بأخلاقيات المهنة و العمل و ما يعرف بالقسم الطبي . ذاك ما يقابله في الجانب الآخر ، وجود الوعي العقلي السليم و الفكر المنطقي المنفلت من عقال الغريزة و العاطفة ، مع وجود الضمير و الأخلاقيات النافية لأية غاية أخرى نفعية كانت أم كيدية أم مرضية ... الخ .
إن النقد المتداول في أيامنا هذه و الشائع في الحياة اليومية أو الوسائط الإعلامية المسموعة أو المرئية أو المقروءة أو في الشارع العمومي . غالباً ما يتم طرحه على أنه نقد بناء و بالأخص من قبل أصحابه و معتمديه ، و تنفى عنه صفة السلبية أو الهدم . علماً أن ليس بالضرورة أن يكون حتماً كما يدعي أصحابه حتى و إن توافرت فيه شروط حسن النية و الأخلاق . فهنالك أنواع كثيرة من النقد يطلقها أصحابها و يدعون في مقدمتها أنها بناء و لا يقصدون من خلالها إلا الإصلاح ، بينما تدل مضامينها و حيثياتها على خلاف ذلك تماماً ، و تكون عبارة عن إهانة أو فضح لمجرد الإهانة و الفضح ، أو سباب و شتم و ما إلى ذلك .
إن عملية النقد كحالة نفسية ، تمثل بحد ذاتها راحة للشخص المنتقد بغض النظر عما يتجه به نقده ، إلى البناء أن الهدم . و عما يتصف به ، الإيجابية أم السلبية . و في معرض ضغوط الحياة اليومية ، نرى أن الناس على اختلاف مشاربهم و فئاتهم ، من الأمي و حتى الأكاديمي ينحون إلى النقد كتعبير نفسي ، من ( حمود ابن مُرَيمة ) إلى ( إينشتاين ) .
و نحن في معرض بحثنا هذا لن نتعرض لشرح معنى نواحي النقد ، البناءة أو الهدامة لأنها على الأرجح معروفة للقراء . و لن نتعرض لشرح آليتها و كيفيتها لأن ذلك قد يطول على سبيل الأمثلة و الشرح ، بالإضافة إلى كونه قد أضحى واضحاً هو الآخر من خلال كثرة ما قيل عن ذلك و ما كتب عنه . و لكننا سنتعرض إلى ثالث الأثافي في مفهوم النقد ، ألا و هو الشخص المنتقد و نحدد من خلال شخصيته ، نوع نقده و وجوبه .
بناء مما تقدم نقول .. إن المنتقدون هم أشخاص أربعة : شخص ينتقد نقداً بنّاء عن وعي و موضوعية و إدراك ، و شخص ينتقد نقداً بناءً و لكن من دون وعي و إدراك ، و شخص ينتقد نقداً هداماً دون وعي و إدراك ، و شخص ينتقد نقداً هداماً و لكن عن وعي و إدراك .
ـ الشخص الأول الذي ينتقد نقداً موضوعياً بنّاءعن معرفة و وعي و إدراك : هذا الشخص يرى الخطأ أو المشكلة و يستطيع بثقافته و خبرته و معرفته أن يحدد أبعادها و حقيقتها و ماهيتها و هل هي موجودة فعلاً أم أنها وهمية أو غير صحيحة ؟؟ و إلى أي مدى هي موجودة فعلاً ؟؟ و ما مدى تأثيرها و ضررها وآثارها ؟؟ ، ثم بعد ذلك و من خلال وعيه الوطني و الذاتي و أخلاقياته ، يحدد نوعية النقد وكيفيته و هل توقيته مناسب ؟؟ و ما هو الضرر الذي قد يحدثه ذلك النقد نفسه ؟؟ هل هو أكبر من المشكلة ذاتها أم أقل من ضررها ؟؟؟ تماماً مثل العمل الجراحي ، فكلما كان الطبيب ماهراً و بارعاً و مطّلعاً في مهنته ، كلما كان أقدر على تشخيص الداء والعلة و العلاج الأمثل ، فربما يكون الداء يستوجب عملاً جراحياً ، و لكن حالة الجسم لا تسمح بذلك ، فيؤخذ دواء و علاج آخر . و هذا النوع من الأشخاص هو الذي يكون المجتمع و الدولة بحاجة إليه .
ـ الشخص الثاني : هو الشخص الذي ينتقد نقداً بناءً ، ولكنه نقد غير موضوعي و ليس عن وعي و إدراك .. ربما ليلفت إليه الأنظار على أنه مواطن صالح أو مثقف أو ما شابه ، فهو قد يرى المشكلة و لكنه لا يستطيع أن يحدد أبعادها الحقيقية و ماهيتها بدقة وما مدى تأثيرها . أو لا يستطيع تحديدها هي نفسها بالأصل . و هذا الشخص يجب عليه الوقوف في نقده عند حدود معرفته و وعيه و أن لا يغامر بالغوص و الدخول في متاهات نقده البناء ، كي لا يتحول إلى نقد هدام . و هو هنا كالطبيب المبتدئ في بدايةالدراسة .
ـ الشخص الثالث : هو الشخص الذي يمارس النقد الـهدام ، و لكن من دون وعي و إدراك ، فيردد كل ما يسمعه و يصدقه من غير أن يكلف نفسه عناء البحث و التدبر فيه و إسقاطه على محك الواقع و المنطق و التمييز العقلاني ، أو انه يرى الخطأ الصغير بعبعاً كبيراً و جريمة فظيعة ، فيعطيه حجم أكبر من حجمه و يعالجه على طريقة الذي يستخدم مدفعاً لقتل فأراً أو كالطبيب الذي يعطي كمية دواء أكثر من العيارالمطلوب ، فيؤدي إلى مضاعفات خطيرة . و بدلاً من أن يعطي النتيجة المرجوة ، و يقضي على المرض ، فإنه يقضي على المريض نفسه . و ربما يكون هذا الخطأ وهمياً ، أو هذا المرض لا وجود له ، فيعطى الدواء والجسم سليم تماماً و ليس بحاجة له . هذا الشخص يجب توعيته و تنبيهه إلى خطئه هذا و شرح الملابسات و الحقائق له بشكل واضح .
ـ الشخص الرابع : هو الشخص الذيينتقد نقداً هداماً عن وعي و إدراك ، فهو عدو الشعب و المجتمع لأنه يعمل على تخريب الشعب و المجتمع من خلال بث الفوضى و تزييف الحقائق و إطلاق الأكاذيب ، و في الغالب يكون هذا الشخص حاقداً معقداً مريضاً ، و بالدرجة الأولى حسوداً لا يحب الخير لمجتمعه و لا لوطنه و هو إما أنه ينتقد لمجرد النقد على مبدأ ( خالف تُعرف ) أو ينتقد لغايات و عقد دفينة في نفسه ، فلا يهمه الأذى الذي يلحقه بالمجتمع بقدر مايهمه غاياته و أهـدافه ، حتى و لو كانت خاطئة و غير مقبولة و لا تمثل مصالح المجتمع و تطلعاته . و هذا النوع يجب تجنبه تماماً بعد كشفه ، و محاربته ، فهو من النوع الذي ينتقد أي شيء لأي شيء و دائماً تكون أفكاره و طروحاته غريبة و مستهجنة و غيرمنطقية و لا يعجبه شيء و لا يرضى بشيء . يتحين الفرصة مترقباً متحفزاً لظهور و لو خطأ صغير بسيط ، ليشن هجوماً كاسحاً لا هـوادة فيه ، مشرحاً و مقطعاً الأوصال . و هذا الشخص ( ليس لرضاه موضع تعرفه .. و لا لسخطه مكان تحذره ) .
إن هؤلاء الذين يمثلون هذا الصنف أو الفئة من المنتقدين ، يماثلون تماماً حالة ذلك الرجل الذي رأى امرأته على السلم فقال لها : أنت طالق إن صعدت و طالق إن نزلت وطالق إن بقيت في مكانك . و مفهوم الطلاق بالثلاثة للحالات الثلاثة نراه للأسف الشديد منتشراً في بعض الأوساط و بعض الإذاعات و المحطات الخاصة ، و ليس له غاية إلا تدمير المجتمع من خلال تدمير الدولة أو الأشخاص ، و حتماً عن سوء نية .
من معرض ما تقدم نقول .. إن عملية النقد تستلزم في سياق طرحها ، عملية أخرى و مفهوم آخر و هو المساءلة التي هي من أهم مبادئ و أساسيات النجاح، سواء للفرد أو الأسرة أو المؤسسة أو المجتمع و الدولة ، المساءلة هي غيرالنقد ، و لكنها السبب أو الأداة التي ينبثق منها النقد و يخرج من رحمها . فالمساءلة هي عملية تقييم للأداء و السلوك و العمل ، هل هو صحيح أم خاطئ ؟؟ هل هوناجح أم فاشل ؟؟ جيد أم سيء ؟؟ . بينما النقد هو عملية الإشارة إلى الخطأ الظاهر عنعملية المساءلة و توضيحه و تبيان أسبابه و عوامله . بأن النقد يجب أن يكون ناتجاً عن المساءلة التي يجب أن تكون موضوعية و جادة . و المساءلة يجب أن تبدأ من المواطن الذي هو أصغر وحدة في المجتمع . و عبارة أصغر وحدة في المجتمع تحمل في طياتها مفهوم الإصلاح الجذري الدقيق و المفهوم الميكانيكي الحساس ، فعندما نريد إنتاج حاسوب أوإصلاحه ، يجب أن نعرف أصغر وحدة أو قطعة فيه و ندخل إليها .. عندما نريد إصلاح أوحتى إنتاج سيارة ، يجب أن يكون لدينا إلمام بأصغر قطعة ميكانيكية أو كهربائية فيها.. عندما نريد علاج شخص ما ، يجب أن يكون لدينا على الأقل معرفة بتكوين أصغر وحدة فيه و هي الخلية .
و بناء عليه فإننا إذا أردنا إصلاح مجتمع ما ، فيجب أن نبدأمن أصغر وحدة فيه و هي الفرد ، و بما أن الفرد الذي هو في المجتمع أصغر وحدة فيه ،يختلف عن أصغر وحدة في أي شيء أو جسم آخر ، بأن له عقل ، فيجب أولاً و بداية أن يكون الإصلاح ذاتياً ، أي أن يقوم كل فرد من هذا المجتمع بإصلاح نفسه ، انتقالاً إلى الوحدة الأكبر و هي الأسرة ، فالأكبر و الأكبر ، وصولاً إلى أكبر وحدة . و من هنا يأتي الكلام عن بداية المساءلة من أصغر وحدة في المجتمع و قيام كل مواطنبمساءلة نفسه ، و ربط ذلك بالضمير و الوجدان ، لأن الأمر يتعلق بأصغر وحدة في المجتمع أولاً ، و ثانياً لأن من صفاتها أنها تمتلك العقل ، و وجود العقل يستوجب رقابة الضمير . و في ذلك مربط الفرس .
ذلك كله يقودنا في سلسلة منطقية عقلانية ، إلى مفهوم آخر يمكن من خلاله أن نعبر إلى منهج الانتقاد و المساءلة الصحيحين .. و هذا المفهوم هو الشفافية .... فهل أنا أتصرف بشفافية ؟؟؟؟
سوآل لو سأله كل فرد في المجتمع لنفسه و أجاب عنه بكل صراحة و صدق ، لتوضحت أسباب و عوامل المشاكل الحياتية اليومية ، لأن الشفافية هي الصراحة و الأمانة و الوضوح و الدقة ، هي تعنيالواقع بذاته ... تعبر عنه و تجرده من أية عواطف و ميول و توجهات ، و عكسها الغموض و الضبابية . عندما نقول زجاج شفاف أي أنه يرينا ما خلفه و ما يستره بوضوح ، وكلما كان الزجاج شفاف ، كلما أرانا ما خلفه بوضوح ، حتى نعتقد أنه لا يوجد أمامنا زجاج ، و العكس صحيح أيضاً ، فكلما كان الزجاج مزخرفاً و متموجاً ، كلما ازدادت غشاوته و صعوبة تمييز ما خلفه ، فنضطر للدخول في متاهات التأويل و التخمين والاستنتاجات التي قد تصح و قد لا تصح .
لذلك نقول إن الشفافية هي أن يجرد المرء نفسه أمام نفسه .. يخلع الأقنعة المتعددة التي تغطي وجهه ، و كل قناع مخصص لمناسبة أو لغاية وغرض ، ويخلع القشور التي يغلف بها نفسه .
و الشفافية بالدرجة الأولى هي شفافية الضمير و نقول هنا ، الضمير و ليس العقل ، لأن العقل ليس من الضرورة أن يحرم الحرام و يحلل الحلال ، بل هو في الأساس للتمييز و الإدراك و خلق الأفكار . هو قد يميزالخطأ من الصواب ، و الحلال من الحرام ، و لكن ليس من الضرورة أن يحلل و يحرم .. يقوّم و يصوّب ، بل ربما يقدم الأفكار الجهنمية و لكنها خبيثة و ضارة أبلغ الضرر . بينما الضمير بالإضافة إلى دوره في تمييز الخطأ من الصواب ، فإنه يمنع ارتكاب الخطأ و في حالة تم ارتكاب الخطأ فإنه يبدأ بالوخز و اللوم التنبيه و التقريع ليلاً نهاراً حتى يتم العدول عن هذا الخطأ . و كلما كان الضمير شفافاًَ ، كلما كانت قدرته على تنقية الشوائب و الأخطاء ( الأخلاقية ) الآتية من العقل أكبر .
وعندما يبدأ الفرد منا بالشفافية مع ضميره و نفسه ، فإنه تلقائياً سيتحول إلى الوسط المحيط به ، فالوسط الذي يليه وهكذا . و لا يجوز أن نبدأ بالشفافية مع غيرنا قبل أن نبدأها مع أنفسنا ، و لا يجوز أن ننتقد غيرنا قبل أن ننتقد أنفسنا ، مطبقين الحكمة القائلة " من نصب نفسه للناس إماماً ، فليبدأ بتعليم نفسه و تأديبها قبل تعليم الناس و تأديبهم ، ومعلم نفسه و مؤدبها أحق بالطاعة من معلم الناس و مؤدبهم " .
بناء عليه ، لا يجوز لمن يرتكب الخطأ مع نفسه أو مع غيره أو مع مجتمعه ، أن يـوجه النقد للدولة أو المؤسسات ... لا يجوز لمن يرمي كيس النفايات أمام حاوية النفايات على الشارع ، أن ينتقد . لا يجوز لمن يهدر المياه و هو يسمع و يرى الإعلانات في التلفاز تنبه على ضرورة المياه ، أن ينتقد . لا يجوز لمن يسرق الطاقة الكهربائية أو المائية لبيته و مكان عمله محملاً الدولة الخسائر ، أن ينتقد الدولة ... لا يجوز لمن يسيء إلى المرافق العامة و الخدمات التي تضعها الدولة ، أن ينتقد . لا يجوز لمن يتهرب من دفع الضرائب للدولة أن ينتقد . لا يجوز لمن يخل بأمن الدولة و الشعب ، أن ينتقد و لا بأي شكل من الأشكال .. لا يجوز لكل مستهتر و غير مبال أن ينتقد . فلنعمم هذه الأسئلة و غيرها على أنفسنا و نحاول الإجابة عليها بصدق و شفافية ، فنكون بذلك قد بدأنا الخطوة الأولى .
نزار يوسف
التعليقات (0)