مثّل النقد بأشكاله كافة ميداناً خصباً للحوار والأخذ والرد ،وهدف على الدوام التقويم وابراز الممكنات الوظيفية والجمالية على وفق خطاب علمي منهجي بعيد عن الوصف السطحي الذي لا يلامس اشتغالات النص ولا يغوص في اعماقه استحصالا لنتائج تنفع صاحب النص وتعم الفائدة من خلاله، هذا دور النقد مذ بدء، لهذا شغل مكانا رفيعا بين اهم انماط الدراسات وفي ارقى الجامعات، كما لم يكن محصورا في العلوم الانسانية، انما في العلوم الصرفة كذلك، التي تشبع بالحوار والنقاش قبل اجراء التجارب العلمية وبعدها ،لان دائرة النقد غير منقطعة وهي مستمرة مادام المنجز في حال اشتغال سواء اكان انسانيا أو علميا، لكنه عرف واشتهر في مجالات الثقافة والادب والفن، حيث امتد وتوسع وعدت له مناهج ومدارس ونظريات، وبرز كثير من النقاد الذين اشتغلوا وتمرسوا في هذا الفن، نقول "فن" لانه كذلك في مختلف سياقاته، وعد علما لانه يعمل في بيئة منهجية متكاملة، اي انه ليس حكاية أو انشاء مدرسي، بل هو اوسع من ذلك، وحفل العراق بخيرة مهمة من جيل النقاد في ضروب انشطة الادب والثقافة الذين اخذوا على عاتقهم مهمة التصدي للمنجز الادبي والثقافي العراقي بروح المقوم والدال على مواطن الضعف والقوة والناصح، واتخذوه وسيلة من وسائل التعديل والتصحيح واثارة التساؤلات، وليس بابا للاصطياد والشخصنة والتجريح والتصغير أو تحويله الى منطقة للتناحر الفكري، بل الى منطقة للابداع، من خلال اعادة قراءة المنجز و وضعه تحت التحليل والتركيب وهما ديدن عمل من يتصدى للنقد من خلال معرفة دقيقة بهما، وبالمقابل فعلى صاحب المنجز ان لا يتوقع مديحا فقط، بل الى غيره على وفق رؤى علمية ومنهجية، برغم ان كثيراً ممن يدعون العمل في هذا الفن الادبي يبرزون المواطن السلبية ويعظمون من شأنها ويتغافلون عن الجيد، ويحلو لبعضهم ان ينفي وجود منجز اصلا محملا اياه حمولات اكثر من حجم ومساحة المنجز نفسه، حيث يكون للدواع الشخصية حضور واضح، وهنا نخسر المنجز ويضيع بين طيات الكتب والمكتبات، ان مهمة الناقد ينبغي ان تتحلى بالموضوعية وبالعلمية والحياد والقراءة الدقيقة التي تخلو من التسقيط، وبالمقابل ينبغي على صاحب المنجز ان لا يتطير وينزعج بسبب الملاحظات التي تؤشر، لأن قبول الملاحظة الايجابية والتحاور بشأنها يعد لوحده منطلقا محترما لا بدّ من تعظيمه، ولان دائرة العلم والادب قابلة للاخذ والرد الذي ينعكس ايجابا على المنجز، أو هكذا ينبغي ان يكون ويسري هذا الامر على صنوف انشطة الحياة ذات البعد الابداعي المرتبط بالانسان، ان التركيز على تفعيل النقد في طروحاتنا يأتي لتطوير البنية التحتية للابداع وليس لغايات اخرى، كما تقع على من يتصدى للمنجز مسؤولية القراءة والتمعن في ما استجلبه من طروحات وأفكار للاهمية التي ربما ستحمل فائدة، ويؤشر واقع الحال في العراق اليوم غيابا وضعفا واضحا لما يسمى بالعمل النقدي في مجالاته، ومنها ما يتعلق بالحراك السياسي حيث تغيب القراءة المعمقة للاحداث وبعض ممن يحمل صفة محلل أو ناقد للاحداث يردد صدى ما يتحدث به الشارع وكأن الامر ببغاوي بحت، أما المشهد الثقافي فهو الآخر شحيح نقديا ،في الوقت الذي نحن في حاجة ماسة الى تطوير قدرات الكاتب و وضعه أمام مسؤولياته الفكرية بعيدا عن الشطط والانبهار الذاتي، كما تقع مسؤولية مضافة على من يعنيه الأمر في تفعيل وتشجيع النقاد ومنهم جيل الشباب و وضعهم على الطريق الصحيح ولا يأتي هذا الا من خلال دعم المؤسسات ذات العلاقة ونتمنى ان نرى نقادا جيدين في التصميم والعمارة والبناء وفي تخطيط المدن وفي التصنيع، فضلا عن المساحات الثقافية الاخرى التي تعمل في هذا الضرب من الفنون الابداعية، ان العمل النقدي هو عمل مهم ينبغي ان يشغل مكانه ويأخذ مساحته سواء قبل الطرف الموجه اليه النقد أم لم يرغب، فالهدف الذي يسعى اليه هو بلا شك هدف بنائي معرفي محترم.
أ.د.نصيف جاسم
http://www.beladitoday.com/index.php?aa=news&id22=2936
التعليقات (0)