النفس والمعرفة عند سقراط.
تنزل المعرفة منزلة عظيمة عند الفلاسفة اليونان، فقد سجل سقراط تحولا كبيرا في الثقافة اليونانية عندما حول طريق المعرفة نحو الفضيلة الأخلاقية، محدثا بذلك قطيعة مع عهد التراجيديا والكوميديا اللتين وسمتا هذه الثقافة منذ القدم. فهو يقر بأن المعرفة ليس عبارة عن تجارب حسية نتعلمها من تفاصيل الحياة كما كان يعتقد الشعراء والسفسطائيون، إنها لا تحصل من الرأي " DOXA " ، ولا عن الرأي المدعوم بالحجة العقلية؛ لهذا يصعب على من لا يعرف ماهية المعرفة أن يتجرد ويعرف معناها.
إن تحديد هذه الأخيرة، يستند منطقيا إلى التعريف الجامع الذي يمكن أن نصل إليه بالماهية عن طريق القيام باستقراء للتعاريف السابقة وبحث نواقصها وعللها ثم الانطلاق إلى التعريف الكلي.
تعتبر هذه الطريقة أسلوب سقراط المفضل في المحاورات، وهذا ما يفسر اهتمامه الشديد باستقراء التعاريف قصد توخي الدقة في تقديم المفهوم الذي يدور حوله الحوار. وبهذه الطريقة " فن الحوار " يتفادى سقراط التعميم والتجريد الكبيرين، فهو ينطلق من المقدمة التي يتفق معه فيها المحاور، ثم يتطرق منها إلى ما كان يراه صوابا، فإذا تبين له فساد تلك المقدمة، قاد محاوره إلى الاستعاضة عنها بمقدمة أخرى وهكذا.
إضافة إلى التدرج، يعتمد سقراط في محاوراته أسلوب السخرية والتهكم مع محاوريه المعارضين؛ فكانت السخرية مدخلا إلى كسب ثقة المحاور، لا سيما الخصوم منهم، فيتجنب التكبر والاستعلاء.
والمعرفة عند سقراط، إنما هي نابعة من النفس في أصالتها، فهو يؤمن بالأسطورة القديمة التي تقول بهبوط النفس إلى العالم الحسي، بعدما كانت توجد في عالم مثالي، كانت تتصف فيه بالتجرد عن الجسد والحس. وكانت موضوعات إدراكاتها عبارة عن مثل، كالجمال والخير والعدالة المطلقة وغيرها. فما أن حلت في أجساد البشر، حتى أصيبت بالنسيان في إطار انغماسها بالحياة، ولهذا لم يتبقى لها من سبيل نحو مثلها السابقة سوى التذكر.
فالمعرفة إذن، تذكر واسترجاع لما كان في النفس سابقا من مثل تعرفها بشكل جيد وحقيقي. إن المعرفة الأصلية هي تذكار للمثل التي تستمد منها جميع الموجودات حقيقتها، وبها تقاس مدارك الإنسان.
لذلك فالمعرفة التي يتجرد لها الفيلسوف ( محب الحكمة )، لا تتأتى إلا بالانتصار على نزوات الجسد بالتطهير الذاتي؛ لذا يستحيل على أي نفس لم تمارس الفلسفة ( التطهير الذاتي ) أن تبلغ حال النفس الأصلية الموقوفة على الفيلسوف. فالفلسفة إذن نخبوية بهذا المعنى، ولن تصبح شعبية ما لم نتجاوز تصور سقراط، الذي أمقته نيتشه أيما مقت.
وليس يخفى أن هدف سقراط من ذلك، هو وضع رباط وثيق بين نظرية المثل المطلقة، وهي أزلية قائمة في عالم أخر هو عالم العقل، وبين النفس الخالدة كدليل منطقي على خلودها الأبدي. وهذا هدف ميتافيزيقي، يسعى إلى تأسيس الأضداد المركبة ( الثنائيات الميتافيزيقية )، التي طالما جثمت على تاريخ الفلسفة الغربية.
يستنتج من هذا، أن النفس أشبه ما تكون بإلهية، خالدة وعقلية ومتجانسة وغير قابلة للانحلال والتحول؛ عكس الجسد المركب والمتحول الفاني. وهكذا يتأتى له القول بأن المعرفة فضيلة أخلاقية، وهي أم الفضائل الأخرى.
التعليقات (0)