النظام العالمي الجديد وايديولوجيا المعرفة
يعيش العالم اليوم عصر العولمة كما ان هذه التحول لم ياتي الا نتيجة التغير الذي حصل في المنظومة الفكرية (لايديولوجية العقلانية) التي تعتمد على طغيان العقل في ظل تفرد العلمانية في السيطرة على الايديولوجيات التي حكمت المجتمعات منذ القرن التاسع عشر الى نهاية التسعينات من القرن العشرين.
ان بداية التغيير الذي حدث في نهايات القرن العشرين بدأ من التغير في عالم الفكر الفلسفي الذي حدث في مفهوم البراغماتية الحديثة في النزعة اللاماهوية و النزعة اللاتمثيلية و النزعة اللاتأسيسية.والفكر المعروض بثقافة جديدة تنطوي على مضامين إنسانية أهمّها، التعدّدية بدل القطب الواحد، والتسامح مع المختلف بدل إلغائه، والحوار مع الآخر بدل إخضاعه.
ان هذا التغير ادى الى نشوء منظومة جديدة من العلاقات بين العناصر المشكلة لايديولوجية القرن الحادي والعشرين والتي ندعوها ايديولوجية المعرفة البراغماتية التي هي المرحلة المتقدمة من مرحلة ايديولوجية العلمانية.
ان الخوف من العلمانية لاداعي له بعد الان لانها اصبحت مرحلة متاخرة من مراحل تطور الحضارات, وهنا نضم اليها الميتا فيزيقية , فبينما تستمر العلمانية والميتافيزيقية في نقاشها العقيم في محطة الحضارات, نجد قطار ايديولوجية المعرفة البراغماتية يمر سريعا من امامهم, ملوحا لهم باللحاق به ضمن تعريفات جديدة وعناصر تشكيلية جديدة مكونة لمجموعة الافكار الانسانية المشكلة للحضارة.
ان على المجتمعات الاسلامية ان تتجاوز مرحلة النقاشات العقيمة وان تبدأ بالمشاركة في تشكيل الايديولوجيا الجديدة التي تعتبر الدين جزءا من مكوناتها لانها تستند في تعريف عناصرها الى الواقع الموجود واعتماد الطريقة الاستقرائية لا الوصفية التعسفية لعناصر الفكر الموجودة في عالم الواقع.
في البداية ستكون هناك صعوبات في استيعاب وتفهم الا يديولوجية الجديدة وستكون هناك بعض المتناقضات التي علينا ان نجمعها في عقلنا الجمعي بمتنا قضاتها ريثما يكتب لها الحل عي عالم الواقع بمرور عامل الزمن.
ان اهم ماتتميز به الايديولوجية الجديدة رغم خلافها مع مفاهيم الدين هو احتواء تعريفها موضوع الاعتراف بالاخر رغم مخالفته ومحاولة التأقلم مع العناصر الجديدة المطروحة للانضمام الى المجموعة المشكلة للمجموعة الايديولوجية.
ان الغياب وعدم الحضور في تاسيس الايديولوجيا الجديدة يعني مراحل اخرى من الانعزال عن تطور الفكر الانساني وغياب حضورنا وفقد الفرصة في اثبات الذات وفسح المجال للدين الاسلامي في التطور لملائمة العصر,كما نجد من الدعوات المكررة للاسلام في المشاركة في بناء الحضارة الانسانية الجديدة.
وسواء كانت هذه الدعوات من مدعي عولمة الفكر صادقة ام محاولة لاستغلال الدين من اجل مصالحها فاننا لن نخسر شيئا لاننا علينا ان نركب القطار لكي نصل الى المستوى المطلوب منا لمواكبة الحضارة ومن ثم الابداع في انشاء الحضارة المناسبة لواقعنا ولمبادئنا, ويومها لن يتكرر النقاش العقيم الذي نتجادل به مع العلمانية,لان عليها هي ايضا ان تلحق بموكب الايديولوجية الجديدة.
ان اهم العوامل المساعدة لنا للمشاركة في انشاء الحضارة هي رغبة الغرب في القضاء على التطرف والحاجة الى الاعتدال الديني ليكون سدا في وجه التطرف الذي كانت ايديولوجيا العلمانية السبب في نشوئه,ونشوء الفوضى الدينية التي بدأت تهدد الغرب في عقرداره. وهذه هي الفرصة التاريخية للاسلام الذي استفاد من الغرب عندما لجأ الى الاسلام ليكون سدا منيعا في وجه المد الشيوعي.
والسؤال الان ما هي العوامل في نشوء ايديولوجيا المعرفية الجديدة ؟ .
اذا تابعنا موضوع الفكر ونتاجه فاننا نستطيع القول ان الفكر الانساني هو اوسع وأصل الافكار التي انتجها الانسان وهي تشمل وتحتوي جميع الافكار الاخرى لانها تحمل طابع العمومية والشمولية فبقية الافكار هي جزء منها لانها نتاج عنها.
وبالتالي فان هذه الافكار تتحول الى ايديولوجية عندما تطبق في عالم الواقع, وكل ايديولوجية تستمر في عالم الواقع بقدر ما تشكل عناصرها جزءا حقيقيا منه , والا فان هذه الايديولوجية بتغيير التركيبة التكوينية في عناصرها عرضة للتغيير والنقض ليحل محلها ايديولوجية اخرى بفكر جديد تتناسب مع عالم الواقع , ومن جانب اخر ان استمرار هذه الايديولوجية في عمر المجتمعات دليل على واقعيتها وصدق مطابقتها لعناصر مجموعتها في عالم الواقع.
ان عدم مطابقة التعريف لعالم الواقع يعني انشاء فكر جديد لايديولوجية جديدة تمثل مرحلة جديده لتطبقها في ذلك الواقع الجديد والذي نعني به الايديولوجية البراغماتية (الواقعية)
وتعقيبا فان متابعة تاريخ الفكر الانساني و تاريخ الحضارات الانسانية تجد الديانات و الهويات ملهمة للإبداعات وحقلا خصبا للتلاقح وإسهاما بديعا في جمال الكون وعامل إثراء للرصيد الإنساني بتنوعه, وقد تحولت في ظل تهميش «الإنسانية المشتركة» كصمام أمان، إلى تحريض على التباغض والعنف والتحقير.
وذلك لان استمرار كل حضارة مرهون بقدر مطابقة افكارها لعالم الواقع.الذي تعيش فيه . و استبعاد الهوية الانسانية عن الهوية القومية أو الدينية، وتهميش الاشتراك في الإنسانية بسبب الهوية او الدين هو الذي يصنع (التطرف والاحتجاج والرفض «.والذي سيخلق الفوضى الدينية التس ستكون السبب في تغير ايديولوجيات
النظام العالمي الجديد
افلاس العلمانية
فاذا قلنا ان العلمانية هي فكرة تحرير الانسان من مرتبة الهوية الدينية/العرقية/الثقافية وما شاكلها من تصنيفات فئوية ونوعية وإقليمية ,فان هذا التحرير يحتاج الى واقع يعيش فيه, مما يعني انه يحمل في طياته ايديولوجية جديدة تستند الى العقل الذي لم يرتبط بحدود اوتعريفات .,ويكون العنصر الوحيد فيها هو العقل وهنا ينتج ما نسميه وحدانية العقل او(انانية العقل), كما ان هذه الايديولوجيا نسميها الايديولوجية العقلانية
واذا كانت النقلة العلمانية تعني ان يخرج الانسان إلى الفضاء الرحب، ليصوغ حاضره ومستقبله بيديه، مستعيناً بقدرته على التفكير والإبداع، وبذخيرة خبراته المتراكمة على مدى مسيرة تحضره.
والأمر الثاني الذي يجب ان تحققه النقلة العلمانية، هو تسلح الإنسان بآلية العلم، للتعامل بها مع حقائق الحياة، والتخلص من الأوهام والتصورات الساذجة، الموروثة من مراحل طفولة وظلام العقل الإنساني
ولكن هذا لم يحدث بسبب عدم وجود التصور الشامل لعناصر المجموعة والاكتفاء بالعلم التجريبي كاساس للايديولوجية العلمانية الجديدة والذي ادى الى تأخر الانتقال في الحقيقة إلى عالم الحرية بعد ان تحررمن الغيبية الدينية وقوالبها الثابتة، بل انتقل قبلها الى انانية العقل بسبب عدم تحديد عناصر المجموعة التي يحتويها, بالاضافة الى ىسيطرة العنصر واحد, فقد تم تمجيد العقل في القرن الثامن عشر وما تلاه،و تصرف كطاغية يتصور لنفسه القوة والقدرة على الهيمنة، ما أدى به لأن يماثل أو يفوق أنساق الطغيان السابقة.
كما ان انانية العقل اخرت تقدم الشعوب التي اعتنقت العلمانية منذ القرن التاسع عشر، ولم تفض النقلة العلمانية بالإنسان إلى الانتقال المباشر والسهل إلى عالم الحرية والإبداع , بسبب جمودها وتاخرها عن التطور..
وهنا تحضرنا الفكرة التالية الناشئة, ان عجز الافكار على مجاراة التطور، وتحولها إلى حجر عثرة في طريق التطور الانساني ، أو ربما إلى سد يمنع تماماً استمراره , وتطوره عن الحالة الذي نبتت في سياقه تلك المرجعيات، جمد المسيرة الإنسانية اللا نهائية الامتداد.
وللوصول الى حالة الاستمرار في الامتداد هذه فان الامر يقتضي التطور و المحاولة الدائمة للإفلات من أنساق الأمس، بحثاً عن نظم وعلاقات جديدة، تكون أكثر اتساقاً مع ما يحدثه هذا التفكير والابداع في محيطه الحيوي من تغيير,وهنا ينشأ ما ندعوه (بالعلمانية البراغماتية ).والتي تحمل في طياتها الناقض لنقيض الامس, حسب مبدا الفعل ورد الفعل.وحسب مبادئ العلم التجريبي.
تحول العلمانية الى ايديولوجيا
وهنا تبدو النتيجة تحول العلمانية الى ايديولوجية تجمع بين "العلمانية" كموقف أو منهج للحياة، وبين "البرجماتية الواقعية" كفلسفة تعتمد صحة القضية على أساس برهان بعدي تجريبي.
وبصورة اخرى نجد ان العلمانية ارتبطت مرة اخرى بالفلسفة او بتعبير اخر ايديولوجية جديدة تدعى (العقلانية).
أن هذه الأيديولوجيا الجديدة، بدأت تلعب نفس الدور القديم في تكبيل الشعوب، ليكون العقل المطلق ( المستبيح والممهمل لوجود العناصر الاخرى ) هذه المرة هو المتحكم المتسامي الجبار، الذي يسعى لفرض إرادته وتصوراته المفارقة على العالم، كأنما يريد أن يخلقه من جديد.
إن ما نقصده بالأيديولوجيا عموماً، هي المحاولة لوضع رؤية شمولية لحقائق الحياة، وهي محاولة نراها وفيرة المثالب، فهي تريد أن تفرض على العالم اتساقاً مصطنعاً ليس له وجود على أرض الواقع، فهذا الاتساق والشمولية مجرد وهم وهوس إنساني، يرجع إلى حيرة الإنسان واضطرابه في مواجهة التنوع والزخم الوجودي الهائل،
فعالم الايديولوجيا العقلانية اليوم ليس أكثر من عدد هائل من الشذرات، تتمثل في عناصر تعريفية لمجموعة ايديولوجية , وقد ينجح العقل الإنساني نجاحاً جزئياً في إيجاد تصور يضفي على بعضها نوعاً من الانتظام، في مجالات محدودة ولأغراض محددة، وسرعان ما تتلاشى صلاحية ذلك الانتظام إذا ما تجاوزنا تلك العناصر عداً وحصراً، وإذا ما خرجنا ولو قليلاً عن الأغراض التي أثبت التصور الموضوع صلاحيته العملية لها. وذلك بعد مطابقتها تعريف عناصر المحموعة منذ البداية.
وفي ظل تعريف الأيديولوجية العقلانية أيضاً يتخلى العقل الإنساني عن حريته، حين يقتصر المدى أو النشاط الذي يذهب إليه، على مجرد تطبيق النظرية، وفي أحسن الأحوال إعادة تفسيرها أو تأويلها، وهو نفس الوضع الذي ظن الإنسان أنه قد تخلص منه حين انتقل من أسر الميتافيزيقا إلى رحابة العلمانية..
ونحن هنا لن نتعرض للتجاوزات أو الجرائم في حق الإنسان، والتي ارتكبتها النظم الشمولية التي اعتنقت تلك الأيديولوجيات، لأنها في نظر البعض تدخل في نطاق مساوئ التطبيق، وإن كنا نعدها نتاجاً طبيعياً لشمولية النظريات.
الايديولوجيا المعرفية
ان تكيف العلمانية مع عالم الواقع وتغيرها جعلها تضيف عناصر اخرى مغيبة الى المجموعة التعريفية (للايديولوجيا المعرفية) المرتبطة بعالم الواقع التجريبي و التي تتجاوز مرحلة طغيان العقلانية.
والمصطلح المطروح الان هو ايديولوجيا (المعرفة البرجماتية) والذي نقصده هو الشكل الناقض الجديد للعلمانية في الألفية الثالثة، والمختلف تماماً عن علمانية القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فهو تحرر للإنسان من جميع الرؤى التوحيدية الشمولية، سواء كانت ميتافيزيقية أو عقلانية، واعادة صياغة عناصر المجموعة المنتسبة للايديولوجية وهي تحرير للعقل من ذاته ، فهو الذي ابتكر هذه وتلك.. وهي ايديولوجيا تطلق العقل من إسار تكاسله واعتماديته على قوى غيبية، وتطلقه في نفس الوقت من إسار أوهامه الخاصة، ومن تصوراته الخرافية بقدرته على فرض نماذجه المتخيلة على الواقع المادي بمعزل عن ذلك الواقع، "كما تضع العقل الإنساني أمام إمكانياته الحقيقية، غير منقوصة ولا مزيدة، فهو قادر فقط على إدراك وتحليل واكتشاف العلاقات بين عناصر الواقع، وقادر على تكوين أعداد لانهائية من العلاقات الجديدة، عبر تشكيل منظومات تشمل أعداداً مختلفة من العناصر، فتجاور العناصر يزيد من عدد العلاقات، وتجاور العلاقات وتأثيراتها المتبادلة يخلق علاقات جديدة، ليحصل الإنسان دائماً على ثروات لا تنضب من العلاقات المادية/ الإنسانية الممكنة، يوظفها باتجاه التطور والتحديث المستمر، للحصول على غد لابد أن يكون أفضل من الأمس.. لكن معيار الصدق/ الزيف، أو الصواب/ الخطأ، ليس معياراً قبلياً نظرياً، يقيم فيه العقل ذاته، كذئب يمسك بذيله في فمه، ويدور حول نفسه إلى مالانهاية.. فالتجربة والبرهان البعدي هما أساس التقييم الوحيد، والهدف هو المرجعية التي تقاس عليها النتائج، وليس مدى الالتزام بالنظرية المقدسة، علمانية كانت أو ميتافيزيقية.
ترى هل تنجح هذه الايديولوجيا الجديدة وربما نجد في عالم الواقع التجريبي ما يؤدي الى تغيير النظرة الى الاديان بعد اضافته الى هذه المجموعة.
وهذا هو الحاصل اليوم في عالم الواقع ,علينا ان نتابع الواقع الذي لن يغير شيئا من التزامنا بعقيدتنا,او مادعوناه في المرحلة السابقة بتبيئة العولمة.
ربما كان هذا بالتحديد هو ما ينقصنا في الشرق أن نعيه، أن نفك رباطاتنا بكل المرجعيات، وأن نسبقها لنحدد أهدافنا الحياتية، وشكل المستقبل الذي نريده لأبنائنا وأحفادنا، نبحث عن أنسب وأيسر وأقصر الطرق المتاحة للوصول إلى تلك الأهداف.. وخلال ذلك نهجر بصورة مستمر كل الطرق والوسائل غير الفعالة أو الفاشلة.
التعليقات (0)