النظام الأردني يراهن على الجواد الخاسر . للكاتب / إبراهيم أبو عواد . جريدة القدس العربي اللندنية 9/6/2012
إن السؤال الذي يبرز على الساحة الأردنية في هذا الوقت : ما هي التغيرات الإيجابية التي حدثت في الأردن منذ اندلاع شرارة الربيع العربي ؟ . وقد يبدو الجواب متشائماً ومغرقاً في السوداوية ، لكن التغيرات هزيلة للغاية لا تتعدى زيادة رواتب بعض الفئات ، وإنشاء نقابة هنا أو هناك . وهذه الإجراءات لا تسمن ولا تغني من جوع ، لأن ماهية الإصلاح أكبر من الرواتب والنقابات . إنها متعلقة بإيجاد صيغة منطقية للتعايش بين الشعب والنظام وفق أسس واضحة بعيدة عن المجاملات وتبويس اللحى . فلا بد من إيجاد عَقد سياسي بين الشعب الأردني والملك يقوم على الاحترام المتبادل، ومعرفة واجبات وحقوق كل طرف . أمَّا مهرجانات الولاء والانتماء وقصائد المديح والتطبيل والتزمير فهي موضة عابرة لتحقيق مكاسب شخصية ، وهي لا تصنع وطناً ، ولا تقيم حضارةً .
والمشكلةُ الحقيقية في النظام السياسي العربي أن الحاكم العربي يعتبر الشعبَ والوطنَ مُلكاً شخصياً له ، وأن من حقه إطعام من يشاء ، وتجويع من يشاء . كما أنه يعتبر أي معارض لسياسته خائناً وعميلاً ، وضمن قائمة المندسِّين. وهذه النزعة المتطرفة تزيدها حدةً الحاشية الملتفة حول الحاكم التي تُضلِّله من أجل تحقيق منافع ذاتية ، وتوسيع دائرة نفوذها على حساب البلاد والعباد .
وإذا أردنا بناء دولة القانون والمؤسسات في العالم العربي فلا بد من إنهاء هذه الهلوسة السياسية ، والشروع فوراً في تجذير قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي للسُّلطة . وهذا لا يتحقق إلا بإجراء إصلاح حقيقي في رأس الهرم السياسي لأن " شطف الدرج يبدأ من أعلى " ، فلا بد من اعتبار الحاكم موظفاً عند الشعب يأخذ راتبه نظير رعاية مصالح الشعب لا الاستيلاء على ثرواته .
وللإنصاف فإن الحالة السياسية الأردنية متقدمة جداً على باقي الدول العربية ، ويمكن اعتبار الأردن سويسرا العرب ، لكن هذه المقارنة خطرة ، فمن غير اللائق مقارنة الأعور بالأعمى ، لأنه عندئذ ستختل الموازين ، وتدخل القضايا المصيرية في النسبية واللايقين .
والإشكالية الصادمة في الحياة السياسية الأردنية هي سيطرة فئة معدودة على مقاليد السُّلطة طيلة عقود ، فالوجوهُ لا تتغير ، لكن الأقنعة تتغير . وهؤلاء الحرسُ القديم ينبغي محاسبتهم على السنوات الخالية ، وتقديم المقصِّرين إلى المحاكمة ، وإعادة الباقين إلى بيوتهم، وبدء رحلة البحث عن كفاءات خارقة وقيادات موهوبة قادرة على إدارة البلاد بصورة مبدعة .
وهذا الأمر لا يتأتى إلا باعتماد الملكية الدستورية ، ووضع قانون انتخابات عصري يتيح للبرلمان أن يمارس دوره التشريعي والرقابي بكفاءة عالية . ووفقاً لهذه المعادلة الجديدة يتم اختيار رئيس الوزراء من قبل البرلمان لا الملك . وهذه القضية لا ينبغي المساومة عليها إطلاقاً . فعلى الملك أن يتحول إلى رمز سياسي جامع لمكوِّنات الشعب دون أن يمارس السياسة .
وقد يعتقد كثيرون أن هذا الأمر يُشكِّل خطراً على النظام الملكي . لكن الأمر عكس ذلك تماماً . إذ إن تسليم السُّلطة للشعب بحيث يختارون مُمثِّليهم في البرلمان الذين يختارون_ بدورهم _ رئيس الوزراء ، يُبعد الملكَ عن التجاذبات السياسية والسخط الشعبي . ففي بريطانيا _ مثلاً _ عندما تسوء ظروف الشعب لا أحد يصف الملكة إليزابيث بأنها فاشلة ، بل يعتبرون رئيس الوزراء هو سبب الكوارث، ويَطمحون إلى تغييره لا تغيير النظام الملكي . وهذا الأمر ليس مختصاً بالغرب ، ففي الحالة العربية الراهنة نجد أن النظام السياسي في المغرب قد منح البرلمان حق اختيار رئيس الحكومة ، وعليه فإن أي سخط شعبي سَيُوَجَّه ضد رئيس الوزراء لا الملك .
ومن هذا المنطلق ينبغي الاستفادة من تجارب الآخرين لئلا ندخل في دوامة العنف والفوضى الموجودة في المحيط العربي . فينبغي الحفاظ على النظام الملكي باعتباره الضمانة لاستمرار الكيان السياسي الأردني ، ووحدة التراب الوطني، وتماسك أبنائه من شتى المنابت والأصول. وفي نفس الوقت ينبغي أن يتقاعد الملك من السياسة، ويُسلِّم سُلطاته لرئيس وزراء منتخب من قِبَل الشعب ، فتصبح علاقة المد والجزر بين الشعب ورئيس الوزراء ، وعندئذ يصبح الشعب قادراً على محاسبة رئيس الوزراء وعزله إذا فشل في إدارة البلاد . وهذا الأمر يحفظ مكانةَ الملك ويُبعده عن النقد ، ويُجنِّب الأردن الفوضى السياسية. فالملكُ إذا اتخذ قراراً سياسياً خاطئاً يجب أن يُحاسَب أمام الشعب ، لأن السُّلطة الشعبية أعلى من السُّلطة الملكية. وهذا سَيُحدث بلبلةً في الأردن . لذا فالحل يكمن في تحويل العرش الأردني إلى مؤسسة معنوية لا تَحكم ، ولا تتدخل في الحياة السياسية التي يصنعها الشعبُ الأردني وفق رؤيته واختياراته . فمن مصلحة الملك أن يُرجع السُّلطةَ إلى الشعب لكي يَحكم نفسَه بنفسه دون وصاية من أحد ، وعندئذ يحتضن الشعبُ النظامَ الملكي ، ويتمسك به ، ولا يَنقم عليه .
وقد يقول أحدهم : إن هذا التحول سوف يُحضر الإسلاميين إلى السُّلطة . ونحن نقول له : وأين المشكلة في ذلك ؟ . إذا جاء الإسلاميون إلى السُّلطة بطريق سِلمي وفق صناديق الاقتراع ، فسوف نتقبَّلهم ثم نحكم على أفعالهم ، فإن نجحوا في الحُكم سوف نعيد انتخابهم ، وإن فشلوا سوف نعزلهم ونبحث عن آخرين . أمَّا اتخاذ الإسلاميين فزاعةً وذريعةً لمواصلة الاستبداد ، فهذه ورقة مكشوفة ومحروقة في آن معاً .
وعلى النظام الأردني أن يتحرر من الخوف من الإسلاميين وتخويف الآخرين منهم ، ويكف عن اختراع الكوابيس . وعليه _ كذلك _ أن يتذكر أن الإسلاميين في الأردن لم يحاولوا قلبَ نظام الحُكم ، أو الاستيلاء على السُّلطة ، ولم يتورَّطوا في حمل السلاح ضد السُّلطات _ رغم قدرتهم على ذلك _ . وهذا التاريخُ يَشهد لهم ، خصوصاً أن الأردن مَرَّ في ظروف صعبة للغاية ، وحالات ضعف شديدة ، واضطرابات عديدة ، وكان يَسهل استغلالها وتوظيفها لإسقاط النظام الحاكم ، والقفز على سُدَّة الحُكم .
إذن ، يتوجب على النظام الأردني الكف عن المراوغة ، وكسب الوقت ، والمماطلة في الإصلاح ، والشروع في صناعة برلمان حضاري قادر على إفراز طبقة حاكمة شريفة ذات كفاءة لا طبقة من المرتزقة والمنافقين وسماسرة الوحدة الوطنية .
والمؤسف أن النظام الأردني يراهن على انتهاء زخم الثورات العربية . لذلك نراه يقوم بخطوات تجميلية وترقيعية لامتصاص غضب الشعب ، والهروب إلى الأمام . وبعد أن تهدأ الأجواء ، تعود حليمة إلى عادتها القديمة . وهذه لعبة خطرة للغاية لأن تجاوز الإرادة الشعبية له عواقب كارثية . وهذا النفق المظلم الذي يسير فيه النظام الأردني لا ضوء في آخره . لذا فإن الحل يتجلى في اختيار الطريق الصحيح ، والاستثمار في الموارد البشرية الهائلة . أمَّا التعويل على الحلول الأمنية ، والخطب الرنانة ، وبرقيات الولاء ، فلا يجدي نفعاً . وكما قيل : صديقك مَن صَدَقك لا مَن صَدَّقك ، ومَن خَوَّفك حتى تلقى الأمن أفضل ممن أَمَّنك حتى تلقى الخوف .
التعليقات (0)