تعود الأفكار البالية والرؤى المـتآكلة من أزمنة غابرة؛ تعود مطمورة في تراب ما تحت الوقت وغبار ما فات من السنوات ؛ تعود بلا رأس ولا قدمين ؛ كما عودة الميت المدفون في أعماق الذات كما الزومبي يخرج من قبره يتقمص دور الحي الذي مات من سنوات؛ ذلك الحي الذي غادر الحياة بلا رغبة منه.
كان الماضي سجنا والسجن عند بعضهم لحظة إشباع للذات بما تم حرمانها منه في السجن الأكبر الحياة يتم إرواءها بكل ما حُرمت منه؛ ما هو مرفوض وما هو ممنوع وما هو محجر ؛ السجن فسحة لاستعادة حرية مسلوبة في مربع صغير ليس يهم سعة المكان وامتداده وليس يهم الهواء والتنفس بامتلاء فهناك إمكانية للانفلات من الرقابة وتعهد ما تم تحجيره دونما تدبر فيه أو محاولة للتفاوض معه بغية تطويره من الداخل والاشتغال على أهمية تجويده ..إعادة المدفون داخل الذات والمقهور ظاهريا وتهيئته للعودة من جديد ليس التعهد بمعنى المراجعة والمواجهة بإعمال النقد والمحو والإضافة والتحيين ولكن بالإبقاء عليه وكما لو انه حبل الصرة الوحيد بالحياة وكما لو انه لا شيء غير الظلام مضاعفا والسجن مدرسته ...حيث يتم تعهُّد دواعي المنع من البلى والعمل على تجديد الخلايا فيها ..
حرية السجن أخطر من الحرية خارجه...
ليس من ضابط على ما يحدث في هذا المربع الصغير ؛ في الظلام القليل وانعدام شهية البقاء غير ما يسكن الروح من انتقام يتم تربيته ويتم شرعنته وقوننته فليتحول إلى فن هو فن التشفي بجميع الطرق ؛السجن علبة سردين ولكي يتم إنهاء مدة صلوحيتها بسرعة يُمارس عليها جميع أشكال التعذيب بما في ذلك إن المسجون يتدرب على ان يكون بدورها ساديا مازوشيا ...
ليس ثمة قيم في السجن ..
يعرف المسجون ماالذي ينتظره منه السجان الذي لا يعرف ماذا يريد المسجون ؛ هما يتبادلان الإقصاء فكل واحد منهما يعمل على نفي الآخر وكأن شرط بقاء الأول هو رهين امحاء الثاني.. ليس ثمة حياة انه العالم السفلي حيث تسود فلسفة أخرى للبقاء تقوم على نفي الآخر وتقوم أيضا على دوغمائية الفكرة المودعة خلف القضبان ..هناك من سيقوم بمراجعة الأفكار التي من اجلها تم إبعاده عن بقية الناس وسوف يعمل على تطويرها من خلال مقاربتها مقاربة عقلانية هادئة تقوم على التحليل والنقد مع ضخها بكل ما هو جديد ومنسجم مع التطورات في الخارج تغسلها الشمس والهواء المتجدد بعيدا عن المعالجات الإجرائية وما يقتضيه الراهن ولكن هناك من سيتشبث بالفكرة على اعتبار انها الفكرة المقدسة التي لا يمكن ان يغيرها زمن ولا مكان ولا سلطة ما مهما كانت حتى ولو كانت سلطة العقل فهي السلاح الوحيد للتشفِّي من الأعداء والانتقام من الكل حتى من الهواء خارج السجن..
هنا الفرق بين النضال بالفكرة والانتقام من اجل الفكرة.
هكذا سيرى البعض ان الخلل ليس في الفكرة ولكنه في الآخر مهما كان وما السجن إلا معبد لأداء الطقوس للفكرة ؛ دير للرهبنة أي الخوف من ضياع الفكرة تلك الفكرة التي تحولت إلى جرثومة نالت من كل ما هو حيوي في الرأس والتهمت كل خلايا العقل فلم يعد قادرا على البرهنة والحجاج والنظر المتبصر والإدراك السوي وهو فرصة لتجويد أسلوب الانتقام حتى إذا حان وقت الخروج الى الواقع كان على الآخرين ان يدفعوا كل الفاتورات المتخلدة بذمة تواطئهم ضدهم مجازيا واستعاريا وعليهم ان يصفوا جميع الحسابات ويعيدوا ديون العزل لم يعد الامر متعلقا بالدفاع من اجل الحرية والكرامة الوطنية ومن اجل بلد مستقل عن نزوات الاخرين بل هو هي نزوات شخصية قد تكون ايضا ايديولوجية ؛ لم يطالب نيلسون مانديلا الذي قضى اكثر من ربع قرن في السجون ؛ لم يطالب شعب جنوب افريقيا باستعادة شبابه الذي ضاع في غياهب الظلام بل انه واصل مقاومته من اجل رفع حجب الظلام واكتفى بدورة رئاسية واحدة ثم عاد إلى صفوف المواطنة العادية ونفس الشيء فعله فاكلاف هافل التشيكي وليش فاليسا البولوني وغونزاليس الاسباني وغيرهم كثر، لماذا يتغير الأمر عندما يتعلق بالعرب المسلمين؟ هل السلطة مرض عند الحكام العرب ام ان كل من يناضل بايديولوجية يرى من حقه ان يتولى امر البلاد والعباد وان الآخر اذا لم يتفق معه انما هو ضده وعدوه غير ان الآخر أيضا فكرة وهو فكرة تنمو وتتحرك وتتطور وليس مجرد قطيع يتنقل بحكم حاجياته فقط ولكن أيضا بما تفترضه اللحظة وما يتطلبه الراهن؟ ..
هكذا سوف لن يستسلم الحاضر إلى الماضي بسهولة ولن يستسلم الأحياء إلى الأفكار الشبحية ولن يستسلم أهل الشمس إلى أهل الكهف فالماضي هو حي في الحاضر بما يمكن ان يحضر فيه وما قد ثبت منه على مر القرون ولم يبلَ ..هي اذا حالة استبدادية من اجل الفكرة كان للسجن الدور الأكبر رفي ترسيخها وتقديسها وهو ما جعل المغرضون وأعداء الشعوب يستغلونها ايضا ويوظفونها ليس من اجل البلاد ولكن من اجل مصالحهم الضيقة الشخصية والتي لاعلاقة لها بأي فكرة او ايديولوجية بقدر ما هي ذات نزعات انتهازية منفعية ..
غير إن حاجز الخوف قد سقط ..كما حدث تحول نوعي في فهم السياسة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولذلك فعلى كل من يريد ان يعمل السياسة عليه ان يعرف في أي ارض يتقدم الان أو انه بصدد حفر قبره بيده.
التعليقات (0)