مع التطورات المتسارعة في هذا العصر ، لم تعد تكتفي القراءة بالكتب والنصوص، بل تعدَّتْها إلى المجريات والأحداث والتطورات، وباتت تتردد على ألسنة أصحاب العقول والاستراتيجياتالفكرية و علماء المستقبليات. وصارت القراءة فعلاً يتعدى معرفة الحقيقة: بمعنى أنه لم يعد مجرد وصف أو كشف أو اطلاع على الحقائق ، بقدر ما أضحى مشاركةً في لعبة الخلق، عبر اختراع الأسماء واجتراح الدلالات أو خلق الوقائع التي تتغير معها سلاسلُ الإحالة وخرائط الإدراك أو حسابات العقل وعلاقات القوة.
لكن هذا لا يعني أن مفردة "القراءة" تلغي مفردة "الحقيقة". فمن يفكر بمنطق الإلغاء يغرق من جديد في ثنائية ماورائية خانقة تشل طاقةَ الفكر بقدر ما تضعه بين فكي الكماشة: الصح والخطأ، الحق والباطل، المطابقة والهرطقة. ذلك أن المسألة تتعلق بإنشاء علاقات مغايرة مع الحقيقة تُشحَن معها بمعانٍ جديدة تجعلها أقل تجريدًا وتعاليًا ووحدانية، أي أكثر تداوُلية وإجرائية وراهنية، من خلال فَتْحِها على مفردات الخلق والابتكار، أو التجاوز والتركيب، أو الصرف والتحويل، أو الإدارة والتسيير. بهذا المعنى، يشكل فعل المعرفة أو الكشف، بحسب "الفكر المركَّب" ، وجهًا من وجوه فاعلية القراءة، بما هي رهان على إحداث تحول خلاق أو إجراء تغيير بنَّاء.
تبدأ القراءة من لحظةُ تدجين النص مع الحراثة الأولى لمساحاته، الحراثة التي تأتي مع تنامي الرغبة في التواصُل، اللحظة المشحونة بالهمِّ الآني التي تلامس آهاب المتشكل من البنيات الخارجية وتتحرَّى الهيكلية المفصلية للنصِّ، فتأتي لحظة استفزاز مقصودة، لحظة تثوير المعنى بشكله المبسط؛ وربما هي محاولة اختبارية لعوالم النصِّ وتأكيد لأدوات القراءة. ويمكن القول إن المحاولة الأولى هي تدوين الانطباع الأول لحالة لاحقة قد تكون ممكنة أو عسيرة. وترافق حالةَ التنوير هذه حالةٌ تدوينية. فالاكتشاف يمثل حالة تبديد الضباب وتمكين الرؤية من النشوب في آهاب أفق متجدد، ويمثل أيضًا حالة استقرائية لأدوات الكتابة. فالنصُّ المكتوب هو منتج ذهني؛ وهذا المنتج مبني وفق شبكة من الرؤى والعلاقات، ومحكوم بآليات كثيرة. فالقراءة هنا، كحالة أولى، تمثل محاولة لفكِّ رموز هذا التشابك الذي يؤدي إلى إنتاج رؤية محددة تجاه آليات الكتابة؛ وبالتالي تكون القراءة، في سَفَرها الأول، قراءة تكوينية، قراءة استنطاقية لأنساق كتابية، قد تكون لغوية أو فلسفية وحتى نفسية. ولكن يمكن القول إن المعنيَّ الأول بفعل الكتابة هو النسق اللغوي الذي يمثل المنظور الأكثر وضوحًا في حالة الاكتشاف؛ إذ إن النسق اللغوي يؤدي إلى ربط التواصل ببقية الأنساق التي تتشكل من خلاله. ومن خلال اكتشاف البنية السطحية لِلُغة النص نستطيع أن نؤسِّس سلطة القراءة كخطوة أولى؛ فاللغة تمثل مدخلاً حيويًّا لبواطن النص المكتوب.
وهذا يقودنا إلى تأكيد مصطلح القراءة المنهجية، القراءة التي تؤدي إلى المعنى بأقصر الطرق، القراءة التي تستطيع أن تفتح مغاليق النصِّ ضمن انعكاسات مستويات المعنى. فللوصول إلى المعنى الكامن في عمق النصِّ علينا الخوض في عملية القراءة الاستنطاقية بمستواها التفكيكي اللغوي .
ولكي يتم إنتاج تصور شامل عن شبكة البُنى والعلاقات الداخلية والخارجية للنصِّ المكتوب ينبغي أن تتجاوز عمليةُ القراءة حالةَ الاكتشاف البدهي أو حالة القراءة البنيوية للنصِّ في حالة الاكتشاف الأولى، إلى حالة القراءة التفكيكية لمجموعة البنى والعلاقات المشار إليها ضمن بنية النص. طبعًا هذا لا يحدث إلا بعد حدوث القراءة الاستنطاقية البنيوية كشرط لممارسة القراءة التفكيكية بمعناها الكلِّي. فحالة الاكتشاف الأولى هي حالة تنويرية، حالة بناء رؤية لممارسة الفعل التالي لعملية القراءة .
القراءة التفكيكية تمثل القراءة المنتِجة، القراءة التي تستثمر ما أنتجتْه القراءة الاستنطاقية، بمستوييها البنيوي . وعليه، يمكننا أن نصفها بالقراءة الكلِّية، القراءة التي أنتجت نصًا آخر متكئًا على النص المكتوب، أو القراءة الاستنباطية. وفي هذه الحالة تكون القراءة قد تجسَّدت، عبر مراحلها، في صيرورات أو استحالات متتالية لتثوير المعنى المرجو من وراء عملية الكتابة، أي تأكيد جدوى الكتابة كعملية بنائية ذات بُعدٍ دلالي يسهم في المشاركة في تدوين الوعي. إذن، يمكن تعريف القراءة، من حيث هي عملية استكشافية تنويرية تأويلية ذات بعد دلالي مقصود. وبهذا التحديد يمكننا أن نذهب مع المحاولات التي ترمي إلى اعتبار القراءة عملية مكمِّلة لعملية الكتابة؛ فلا قراءة بدون نصٍّ مكتوب. وبالتالي فالقراءة هي فعل ذهني منتِج يؤدي إلى استنباط نصٍّ جديد يعتمد في تشكله على آليات القراءة كعملية ذهنية ذات بُعدٍ مستقل، ربما يستمد بعض سمات تحفزه من النصِّ المكتوب.
تُعتبَر عملية القراءة كأداء معرفية، إذن، عمليةً متكاملة تمرُّ بمجموعة مستويات، تبدأ بالاكتشاف أو التحرِّي الأول، الذي يسمَّى أحيانًا الانطباع الأول، ثم مرحلة الاستنطاق التي تعمل على تحليل البنى الداخلية وتفكيكها، لتمهِّد للقراءة التفكيكية في إعادة تشكيل الوحدات المعرفية إلى مُنتَج نهائي يصف سلوكَ النصِّ المكتوب ودوافعَه. وبهذا التعريف يمكننا القول إن القراءة تتبع تسلسلاً منطقيًّا في التعامل مع المنجز المكتوب – تعاملاً مثاليًّا لا عشوائيًا – في استدراج النص إلى مناطق أكثر إشراقًا. أو، بعبارة أخرى، تعمل القراءة على النصِّ المكتوب عملاً تنقيبيًّا من حيث قصدية واضحة.
لا شك في أن القراءات تتفاوت من حيث أهميتُها وقوتُها على الاجتراح والخرق والتأثير بالتخييل الخلاق والمجازات المبتكَرة والمفاهيم الخارقة. القراءة الخصبة هي جرح لكن هذا لا يعني أن تكون القراءة مجرَّدة ومحايدة، ولا يعني أن نمتنع عن الاستعانة بالأمثلة الفكرية في معالجة مسائل تخصنا وتهمنا في عالم اليوم.
على أية حال، فإن مفردة "القراءة" تحتاج إلى معالجة مستفيضة مخصوصة بحقل معرفي معيَّن. ولن ينفعنا التعميم هنا، ولا اختزال القراءة في الحقول كافة فالكلمة تحيا حياتها في سياق معين، ويتسع معناها باتساع مركِّباتها ومحمولاتها، وباتساع مجالها التداولي وخرقها للمسبَّقات اللغوية والمعرفية، عبر الخلق وإعادة التشييد على مقام معيَّن للفكر، وليس عبر المجاز وحده، نظرًا لأن ليس كل مجاز هو عبور نحو فضاء جديد تنكَّس معه قوالبُ المعرفة وحتميات الواقع. وقد لا يغني المجاز إمكانات الوجود ولا يثري عالم الفهم ولا مفردات اللغة.
في المقابل، فقد حدث توسُّع وتغيُّر في استعمال مصطلح القراءة ومفهومها، إنْ في الحقل أو المقام، ولم تعد العلاقة بين النص والواقع وحيدة الجانب والاتجاه، بل أصبحت مركَّبة ومزدوجة أو متداخلة وملتبسة، بمعنى أنها تتشكل وتُبنى بتغيير كلِّ واحد من الطرفين الداخلين في بنائها؛ وصار العالمُ نصًّا يحتاج إلى القراءة والفهم. ومن جهة التغير في النص، فإن النصوص أصبحت، منذ زمن، تُعامَل كوقائع خطابية لها منطقها وقوانينها، أو كأحداث فكرية لها أثرها ومفاعليها، بصرف النظر عن مراد مؤلِّفيها. ولم يعد النص مجرد ناطق باسم المؤلِّف أو مجرد مرآة تعكس الواقع، بل أصبح هو نفسه واقعةً تخضع للدرس والتحليل، ليس فقط من حيث منطوقُه وطرحُه، بل كذلك من حيث بنيتُه ومنطقُه وآليةُ عمله، أو من حيث قواعدُ تداوله وتشكيل سلطته. ولهذا أصبح النص، كواقع خطابي، حقلاً لإنتاج الأفكار والمعارف، على نحو تتغير معه مفاهيمنا للفكر واللغة أو للمعرفة والحقيقة، كما تفيدنا بذلك المنجزات التي أسفرت عنها فتوحاتُ الدرس المعرفي حول الخطابات والنصوص والرموز اللغوية.
ويحتمل النص أكثر من قراءة، بحيث تختلف القراءات وتتفاوت من حيث علاقتُها بموضوعاتها وبالمواد التي تعمل عليها. وما يقال على النص يمكن قوله على الحدث، من جهة أنه لا يُقرأ قراءةً وحيدة الجانب أو الدلالة أو الوجهة، كبنية مقفلة أو سلسلة محكمة أو حتمية صارمة، وإنما يُقرأ بوصفه منبع إمكاناته، بقدر ما يُعامَل من حيث تداخُلُ مستوياته وتراكُبُ طبقاته، أو من حيث تعددُ أبعاده وتفاوتُ سرعاته، أو من حيث صيرورةُ هويته وحِراكُ معطياته. ولذا فهو يحتمل أكثر من قراءة، بقدر ما هو حصيلة لما لا يتناهى من الظروف والحيثيات والانفعالات والتصورات والمفردات التي كانت تتجمع وتتراكم أو تعتمل وتتفاعل لكي تسهم في إنتاجه وانفجاره.
يكمن أن لا نتحدث عن موت المؤلف بهذا السياق وعلى هذه الشاكلة المعرفبة المغرقة في التوصيف . بالقدر الذي يحضر فيه النص كمجال للتداول في حالة إنعزال تام عمن اجترحه وعن عمن أعاد خلقه بإعادة تداوله .
التعليقات (0)