الحلقة (3)
حــامــل اللواء
المـلـــك إمرئ القيس بن حُجْر الكندي
هُوَ مَنْ هُوَ والحد الفاصل بين تاريخين في الشعر العربي .. هو المبتدع وهو الذي أجرى جميع الشعراء من بعده على أسلوبه ومنهجه حتى توقـّفَ الموكب الملكي المهيب عند أقدام رجل من عامة الشعب إسمه نزار قباني فكان هذا الآخيـر فاصلاً هو الآخر أيضا بين عصرين في تاريخ الشعر العربي. وأتـَى بـما لمْ يـَـأتِ بـهِ الأوائـلُ.
وكانت العرب في أمثالها تقول على سبيل المبالغة في الوصف للمغازل : (هو أَغْـزَلُ من امرئ القيس).
ومن ابداعات إمرئ القيس استيقافه للأصحاب (قفا نبك) ..... والبكاء على الأطلال والدمن (من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى .. ) ..
وقد ظل الشعراء من بعده على هذا النهج ولم يخالفهم سوى الحسن بن هاني (أبو نواس) الذي سخر من الوقوف على الأطلال والدمن وله في ذلك أبيات كثيرة من بينها:
عـاجَ الشّقِيّ على رَسْـمٍ يُسائله ...
ورُحْــتُ أسْــألُ عــن خـمّارة البَلدِ
ولكن وبرغم إبداعات إبن هاني فإنه يظل حلقة في سلسلة أمريء القيس الطويلة ...... وسنتطرق لغزل ابي نواس بالتفصيل في محلّه إنشاء الله.
,,,,,,,,,,,,,,
كذلك يُعْرَفُ لحامل اللواء رقّة الغَزَل ولُطْف النّسِيب والفصل بينهما وبين المعنى المراد .(أنظر الحلقة رقم 2) في التفريق بين الغـزل من جهة ومعنى النسيب من جهة اخرى)
ويرى الأصْمَعِي (من أبرز نقاد العصر العباسي) أن من قبيل ابداعات إمرئ القيس والجديد الذي أدخله على الشعر العربي تشبيهه المرأة بالظباء وبالبيض وتشبيه الخيل بالعقبان ويالعصى .. إلخ وإتقانه التشبيه في كل ذلك.
لكن الذي أراه لدى امريء القيس ايضا هو "الشفافية" و "قصد السبيل" في الغَزَلِ التّشْبيبِ على نحو خاص . فحامل اللواء لا يَنافق أذن المتلقي ولا عقله ولا يدمن التنقيب والبحث عن الرمز وسط نفايات اللغة والإبداع ...ولكنه ياخذ الأمر من اقرب مأخذه. وإن شئت مثلا فـَخُذْ على سبيل ذلك قوله :
جَزعْتُ ولَمْ أجْزَعْ مِنَ البَيْنِ مَجْزَعَا
وعَزّيْتُ قـَلْبَا ً بـالكَوَاعِبِ مُوْلعَا
فإن لم تقتنع فلعل نفسك تطيب عند قوله:
تَقُولُ وقَدْ جَرّدْتـُهَا مِنْ ثِيابــِهَا
كَمَا رُعْتَ مَكْحُولاً مِنَ العِيْنِ أتـْلعَا
وجَدّكَ لَوْ شَيْءٌ اتَـانـَا رَسُولُـهُ
سِوَاكَ ولكِنْ لَمْ نَـجـِدْ لَكَ مَدْفَـعـَا
فَبتْـنـَا تـَصُدّ الوَحْشُ عَـنـّا كَأنّـنـَا
قَتِيلانِ لَمْ يَعْلَمْ لنَا النّاسُ مَصْرعَـا
إذَا اخَذَتْهَا هِزّةُ الرّوْعِ أمْسَكَتْ
بمَنْكَبِ مِقْـدَامٍ عَلىَ الْهَـوْلِ أرْوَعَـا
تَصُدُّ عَن المَأثـُور بَيْنَي وبَيْنَهَا
وتُدْنِي عَلىَّ السّابــِري المُضَلعَـا
.
................
وربما كان للدم الملكي الذي يجري في عروق حامل اللواء أثره الأكبر في وافعيته عند شرخ شبابه فالواقعية عادة ما تتطلب الثقة بالنفس والجموح الفطري .. أما الإغراق في الرمز فهو أداة المعاناة من الهزيمة سواء أكانت قسراً إجتماعيا وكذا سياسياً محبطاً للإبداع أو هزيمة عسكرية يمرّ بها الوطن أو الأمــة .. وربما نلاحظ توجه حامل اللواء بالفعل نحو الرمزية في قصائده التي تلت مقتل أبيه لاسيما عند معاناته من تفرق حلفائه وتخليهم عنه .
وإسم امرئ القيس الحقيقي هو (حُنـْدُج) .. والجُنْدُحُ هي الرملة الطيبة التي يخرج فيها النبات حسنا أو ما بات يطلق عليه في الزمن الراهن مسمى (رمل زراعي) .... أما أمرؤ القيس فهو لقبه .. ومعنى امرؤ القيس هو (رَجُـلُ الـشِــدّةِ) وله عدة ألقاب أخرى من بينها الملك الضليل ومنها ذو القروح .. لكن اللقب الذي يتحببه له مقتديه من الشعراء وأنصاره من الأدباء والنقاد هو (حامل اللواء) على حد ما قيل عن نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأنه (حامل لواء الشعراء) .....
وأما زعم البعض بأنه صلى الله عليه وسلم تنبأ له بأنه (حامل لواء الشعراء في النار) فقد جرى تضعيفه وقد صنفه الإمام أحمد من ضمن الأحاديث الضعيفة جدا ..... وربما قال عنه أنه (حامل لواء الشعراء) فقط وبما يعني الموهبة والملكة الإبداعية في هذا المجال . ثم وضع البعض الشطر الآخر (في النار) من محض خيالهم على سبيل التَـنَطّعِ في الدين ومروجي بضاعة التكفير و (الحِرْمَانَ الكَـنَسِي في الإسلام) برغم أن الجنة والنار هي من خلق الله عز وجل وهو وحده عز وجل الذي يمنح ويمنع ويحاسب عباده بحسب النوايا والحمد لله على ذلك ............. اللهم كافئنا برحمتك وليس بصالح أعمالنا.
وتعود مناسبة هذا اللقب إلى قصة طريفة. فقد أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وفد من اليمن فقالوا:
- يا رسول الله لقد أنجانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس.
قال:
- وكيف ذاك؟
قالوا :
- أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أخطأنا الطريق فمكثنا ثلاثا لا نقدر على الماء ، فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر ليموت كل رجل منا في ظل شجرة. فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير ، فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع: (من باب الطّـرْد)
ولمّا رَأت أنّ الشريعةِ همّها ...
وأن البياض من فرائِصَها دامِي
تَيمّمَتِ العَيْنَ الّتِي عند ضارج ...
يُفِيءُ عليها الظِلّ عَرْمَضُها طََامِي
فقال الراكب :
- ومن يقول هذا الشعر ؟
.............. وقد رأى ما بنا من الجهد .
قال :
- قلنا امرؤالقيس بن حُجر .
قال:
- والله ما كذب ، هذا ضارج عندكم ، فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو من خمسين ذراعاً ، فحَـبَـوْنـَا إليه على الرُّكَبْ ، فإذا هو كما قال أمرؤالقيس (عليه العَرْمَض (الفِطْر) ، يُفيءُ عليه الظل) .
قيل ....
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- {ذاك رجلٌ مذكورٌ في الدنيا منسيُّ في الآخرة ، شريفٌ في الدنيا خاملٌ في الآخرة بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار }.
........................
ومن ضمن ما يحكى عنه أنه وحين أصبح دونا عن بقية أخوته (وهو أصغرهم سنا) ملكا وولياً لثأر دم والده الذي قتلته بني أسد مر بجيشه وهو في طريقه لقتال بني أسد .. مر بمكان يسمى (تبالة) وفي هذا المكان يقع صنم (ذو الخلصة) الذي كانت العرب في الجاهلية تستقسم عنده .. فاستقسم امرؤ القيس عنده فخرج القدح الناهي .. فاستقسم الثانية .. ثم الثالثة وخرج في جميعهن القدح الناهي .. فكسر أمرؤالقيس القداح وضرب بها وجه ذي الخلصة وقال: (عضضت بأيـر أبيك ... لَوْ كان أبوك المقتول لـََـمَا عَوّقْتَنِي) ثم أغار على بعض أحياء من بني أسد فقتل منهم الكثير وكاد يبيدهم لو لم يبادر من تبقى منهم إلى النجاة بالهرب وسئم حلفاؤه من طول الحرب .....
ومنذ ذلك اليوم لم يعد أحد من العرب يستقسم عند ذي الخلصة حتى جاء الإسلام وجرى هدم هذا الصنم بعد فتح مكة عام 8هـ.
(يتبع حلقات أخرى إنشاء الله)
المراجع (لكافة الحلقات عن أمريء القيس) :
البداية والنهاية إبن كثير القرشي
الأغاني أبو الفرج الأصبهاني
الصحاح في اللغة الجوهري
الإكليل الحسن الهمداني
اللزوميات أبي العلاء المعرِّي
تاريخ الأمم والملوك الطبري
جمهرة أشعار العرب أبوزيد القرشي
ديوان إمريء القيس دار صادر بيروت
سقط الزند أبي العَلاء المعرِّي
شرح المعلقات السبع الزوزني – دار الثقافة - لبنان
طبقات الشعراء ابن سلام الجمحي
لسان العرب إبن منظور
التعليقات (0)