الأديبة والناقدة العراقية
خالدة خليل
ألمانيا
"الكتابة هي المأوى الوحيد لانكساراتنا وخساراتنا وحزننا"
حوار من إنجاز نعيمة الزيداني/مجلة فرح
ليس غريبا أن تحن ابنة بلاد الرافدين لوطنها الذي مزقته الحروب ليمتلئ قلبها حزنا وأسفا على الإنسانية التي تغتالها الحروب والصراعات، ولأن القلب المكلوم ينبض بجسد شاعرة عالية الإحساس كخالدة فإن الكلمة جواز سفرها الوحيد الذي يحمل صوتها حيث تريد ومتى تريد .
تقول:" الغربة ضيق ينهش وجودنا المادي مع وجودنا الروحي"... ومع ذلك فالمعاناة لم تزدها إلا قوة نلمسها في إصرارها على تحقيق رسالتها في الحياة كمثقفة تحمل هم التغيير والإصلاح من خلال نقد الواقع بطريقة سليمة وبناءة.
نرحب بالناقدة والأديبة العراقية المقيمة بألمانيا خالدة خليل في هذا اللقاء مع قراء فرح.
في البداية، من هي خالدة خليل في كلمات؟
عندما أعرف من أكون ... لن أكون خالدة خليل
الإحساس بطعم الغربة المرير حاضر بقوة في بعض كتاباتك، هل التعايش مع الآخر صعب لهذه الدرجة؟ أم أنه الحنين للوطن يجعل قلمك ينزف حزنا ؟
الإنسان مرتبط بأرضه، وهي حقيقة وربما تلمسين ذلك عند الشعراء والكتاب بشكل أكبر وذلك لحساسيتهم المفرطة.. وهنا لابد من الاعتراف بأن الغربة عامل رئيس في التحريض على ارتكاب فعل الكتابة.. أما عن كتاباتي بالذات فإنها تنزف لأسباب عدة من أهمها ما يجري داخل الوطن من قتل ودمار لإنسانية الإنسان قبل جسده .
ألا ترين أن المثقف العراقي يعيش داخل بلاد الرافدين إحساسا مماثلا بالاغتراب والضياع في وطن غيرت معالمه الحروب ليصير غريبا حتى عن أبنائه؟
نعم... بالتأكيد أن سلسلة الحروب المتكررة منذ أكثر من ثلاثين سنة لم تغير ملامح هذا الوطن الذي تمتد حضارته لأكثر من سبعة آلاف سنة بل إنها غيرت الإنسان بحيث صار همه الأول كيفية الحصول على قوته اليومي في بلد يعد من البلدان الأكثر غنى في العالم …
كيف تقيمين الوضع الحالي للمرأة العراقية ؟
سيء جدا جدا من عدة جوانب:
الجانب الاقتصادي: نرى هناك الكثير من النساء الأرامل اللواتي يعشن حياة صعبة جدا وبالرغم من تعالي الأصوات المثقفة التي تطالب بدعم وتحسين ظروفهن إلا أن تلك الصرخات لا تجد لها من مجيب..
الجانب السياسي : مع أن المرأة حققت نسبة تمثيل انتخابي وهي ليست النسبة الأمثل لكنها مع ذلك أقصيت من العملية السياسية لأسباب طائفية للأسف حيث إنهم لم يعتمدوا على الكفاءات العراقية لكون معظم هذه الكفاءات هاجرت والقلة التي بقيت بالداخل همشت.
أما الجانب الاجتماعي فهو ليس بجديد إذ تكون المرأة فيه دائما في الصفوف الخلفية وهي تجاهد باستمرار من اجل أن تكون مشاركة فاعلة وليست مفعولا به كما جرى العرف التاريخي, وأستطيع أن أقول أن وضع المرأة بعد 2003 كان من المفروض أن يتحسن إلا أننا شاهدنا العكس وذلك بسبب سيطرة التيارات الدينية المتطرفة في العراق على مجمل العملية السياسية والذي بدوره أدى بها إلى أن تعود إلى داخل شرنقتها القديمة ولا أدري متى يمكن لها أن تمزقها ثانية....
في مقال لك بعنوان " متى يتوقف ختان البنات في بلداننا" تدينين بشدة هذا النوع من العنف الذي تتعرض له المرأة في بعض أنحاء العالم , هل تحسين أن العقلية المتحجرة التي تحمل مقصا لبتر جزء من جسد الأنثى ومصادرة حقها في حياة طبيعية ستستجيب لدعوات المثقفين ؟ أم أن المسؤولية كلها تقع على عاتق الدولة بأجهزتها و قوانينها؟
المسؤولية مشتركة طبعا بين الاثنين.. المثقف لا يمكن أن يكون بهذه الصفة إلا إذا كان ينقد الواقع نقدا سليما وبناء على اعتبار أنه يمثل الوعي الذي لا يرضخ لما هو موجود بل أن يعترض على السلبيات حتى يجد اعتراضه أذانا صاغية.. أما الدولة فهي المسؤول المباشر عن مثل هذه الانتهاكات بحق المرأة، لأن بإمكانها أن تسن قانونا يمنع هذا الإجراء التعسفي مع أنني اعلم أن من الصعب أن ترضخ لهذا القانون فيما لو جرى سنه فئة من الناس يعتبرون ذلك جزءا من قيمهم وأعرافهم وتقاليدهم ولكن يمكن أن اكرر ما قالته النائبة البريطانية من أن أية عادات لا تتفق مع مبادئ حقوق الإنسان يجب أن تمنع وهذا هو الصحيح من وجهة نظري ..
ماهي قراءتك للوضع الراهن لوطننا العربي تحت حمى ثوراته المتلاحقة ؟
أعتقد أن هذه الثورات تمثل يقظة الأمة العربية من سباتها الطويل فبعد الثورات التي شهدها الوطن العربي ضد الاستعمار لم نجد بعدها أي ثورات على الأنظمة التي تمثل بحد ذاتها استعمارا آخر نسميه استعمارا داخليا يتحكم في مقدرات الشعب وبسلب حرية مواطنيه ويهدر ثروته وينهبها من أجل مصالح شخصية آو إرضاء لنزوات مريضة مما دعا هذا الشباب العربي الذي يعرف ما يجري في الجهة الأخرى من العالم بفضل تكنولوجيا المعلومات كالانترنيت والفضائيات إلى عدم الرضوخ والقبول بمنطق الحكومات التي تكمم الأفواه, وأعتقد انه آن الأوان لمثل هذه الصحوة أن تؤدي فعلها وكل ما أتمناه هو نجاح هذه الثورات وليس توقفها بعد أن خلطت الأوراق، وهنا نريد لهذه الشعوب التي قررت التغيير من الداخل وهو إيجابي تماما أن لا تقبل بأي نوع من المهادنات التي يمكن أن تعيد مثل تلك الكّرة بل هي الفرصة لتحكم نفسها بنفسها وتحارب الفساد الذي نهش مفاصلها وتستعيد كرامتها على شرط منطقي وهو أن لا تكون أي من تلك الثورات نتيجة لتحريك من الخارج لأنها لو كانت كذلك ستسيء المشهد أكثر، فعندها سيتحول التغيير من ملعب الجماهير إلى ملعب محركي خيوط اللعبة، واعتقد أن التغيير الحقيقي يجب أن يكون فعلا أصيلا وليس مجرد لعبة ...
تعاني عدة مناطق من وطننا العربي من الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين, وقد كشفت الأحداث الأخيرة بمصر عن فشل فكرة التسامح الديني على أرض الواقع, وحضورها فقط بالمسلسلات والأفلام والخطب والشعارات... كيف يمكن للمثقف العربي أن يلعب دورا فاعلا وايجابيا في تفعيل فكرة التسامح الديني؟
كما قلت لك أن دور المثقف كبير في إصلاح المجتمع ومثل هذا التمييز العنصري بين المسلمين والمسيحيين أو أية أقلية أخرى هو خطر كبير ليس على الأقلية التي تعيش داخل بلد ما فحسب بل على البلد نفسه إذ أن هذا التنوع هو هبة وهو دليل ثراء في التنوع ومن يحاول أن يقلل من أهمية ذلك يكون جاهلا ، لا افهم كيف يمكن لهذه العقليات أن تظهر في وقت أصبحت فيه للتكنولوجيا الحديثة والإعلام اللذين بلغا شأوا كبيرا في حياة الإنسان كل هذا التأثير. إذ أننا لو قلنا ذلك في قرون منصرمة لكنا نجهل مثلا من هو الآخر لكننا الآن يمكننا أن نحاوره، أن نعرف ماهيته، وعلينا أن نقبل الآخر وهذا ما نادى به منذ قرون طويلة ابن عربي مستندا إلى فلسفة المحبة الربانية:
لقد صــار قلـــبي قابــلا لكل صـــورة
فمــرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيـــت لأوثـــان وكعبــــــة طائــــف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بديــــن الحب أنـــــــى توجهت
ركائبــــه فالحب ديني وإيماني
كما أكد الحلاج على وحدة التجلي الرباني في خلقه مهما اختلفت العقائد والملل والنحل، مادام الخالق واحدا، والمعبود مشتركا بين الناس. وعندما يحاول البعض المتطرف أن يميز بين الناس على أساس عقيدي آو مذهبي فانه بالتالي يسيء إلى نفسه قبل غيره.
هل ترين أن الإعلام العربي يعطي للأديب المساحة الكافية ليصل صوته للمتلقي المفترض؟ أم أن الإعلام الثقافي الالكتروني صار السبيل الوحيد لخلق نوع من التفاعل بين النخبة المثقفة والقراء؟
وضع المثقف العربي مزر جدا حيث غياب المؤسسات الثقافية في الوطن العربي وبالتالي تغييب المثقف لأنها تخشاه، لأنه لا يؤمن بتاتا بواحدية السلطة و ضرورة التعددية في كل شيء.
بعد انفجار الثورة المعلوماتية وأولها الانترنيت أعتقد أن الأعلام الورقي أصبح أكثر مرونة في التعامل مع الكتاب، لذلك صار من الممكن أن يجد له مكانا ليوصل صوته إلى قرائه بعد أن كان النشر الورقي مقتصرا على عدد من أسماء لصيقة بايدولوجيا السلطة ترفد الصحف بما لا يزعجها. وقد ساهم الإعلام الإلكتروني في إيصال صوت المثقف بعيدا خارج حدود بلده فبعد أن كان من الصعب وصول جريدة إلينا من المغرب العربي في الثمانينات مثلا أصبح القارئ اليوم يتصفحها بعد صدورها بدقائق على مواقعها الالكترونية المتاحة للجميع وبالمجان. هنا تحديدا كسر الإعلام الالكتروني الحواجز... أنت في المغرب وأنا في ألمانيا ونحن نتحاور... هل من نعمة أكثر من هذه ؟
وكما أن لكل شيء وجهان فان للإعلام الالكتروني أيضا سلبياته إذ انه يتيح للمتطفلين من غير الكتاب أخذ مساحة كبيرة وفرض مواقعهم الهزيلة أو أصواتهم الداعية إلى التقوقع من خلال خطابات اثنية وطائفية تنطلق عكس التيار الطبيعي النازع نحو التقدم.
عند قراءتي لروايتك"أشرعة الهراء"، أحسست أني أمام شاعرة تكتب قصيدتها على شكل قصة أو رواية وحين تحس أن النسق القصصي يعجز عن البوح بما تريد قوله، تستدعي القصيدة لتفصح بها عن مكنونات ذاتها الشعرية...ما تعليقك؟
لا ليس سبب نزوعي إلى الشعر هو عجز القصة إذ أن لكل نوع أدبي نكهته الخاصة، وأنا أعتمد بالأساس على اللحظة عندما أحس بأني أريد أن أصارح بشيء ما الجأ إلى القصة لأنها تتيح لي البوح على اعتبار أنها تصرح وتعطيني مساحة أكبر للإفصاح عما في داخلي ... وعندما أريد التلميح فإنني الجأ إلى الشعر على اعتبار أنه تلميح من خلال الرموز وأنا في الأصل أميل إلى عدم وضع حواجز بين الأجناس الأدبية لأنني عندما أنجزت روايتي أشرعة الهراء كنت أمزج فيها بين الشعر والقصة والمسرح واستطعت الخروج بنص أحاول أن امزج فيه بين الأجناس لكي أوصل صوتي إلى أبعد مدى وأضع لهراء هذا العالم المتمثل بالقتل والموت والحروب حدا يتأطر من خلال هذا العمل ولا أدري إلى أي مدى نجحت فقد قيل عنها أنها نص مفتوح وقيل هي قصيدة نثر طويلة ومهما تعددت الأقوال فإن النص فرض علي كتابته في وقت عانيت فيه من ألم الغربة التي نهشت كل أحلامي كما نهشت الحروب بلدي .
لك كتابات نقدية مهمة، ومؤخرا صدر لك كتاب نقدي بعنوان تفكيك النص, حدثينا عن هذه التجربة, وكيف اخترت النصوص الشعرية التي كانت مادة لدراستك؟
نعم ، بعد أن رأيت كثرة ما هو موجود في المكتبة العربية من تنظير حاولت أن أخرج بكتاب يكون تطبيقيا إلى حد ما إذ أنه عبارة عن دراسات نقدية في أعمال أدباء عراقيين وعرب تناولت لكل منهم عملا وحاولت أن أسبر أغواره من خلال دراسة تأويلية للعمل ومحاولة النفاذ إلى طبقات المعنى للخروج بدراسة تكون مقاربة ربما لما أراد المؤلف أن يقوله مع أن هناك قراءات أكثر وفاء من أخرى كما يقول تودروف . إذا أستطيع أن أقول لك أنه كتاب تطبيقي لأعمال متنوعة مابين مجموعات شعرية أو قصيدة واحدة أو رواية لكاتب ما.
إلى أي مدرسة نقدية تنتمين؟ و كيف ترين واقع ومستقبل النقد الأدبي العربي؟
منذ دراستي للماجستير في الأدب العربي الحديث ونقده اخترت أن يكون التأويل هو المذهب الذي اعتمده في دراستي لأي عمل كان وذلك لأسباب منها أن التأويل يربط مابين الكاتب وعمله فنحن لا نستطيع القول بموت المؤلف كما عند رولان بارت لان المؤلف موجود في عمله بشكل أو بآخر . ثانيا أن التأويل يعطي مساحة واسعة للتفكير ولا يحدده باتجاه واحد كما هو الحال في المذاهب الأخرى التي تعتمد على نفسية الأديب أو التاريخ أو الوسط الاجتماعي فكل هذه تدخل في بوتقة التحليل الجاد الذي يعتمد على خلفية ثقافية بدونها لا يمكن طرق باب أي عمل .
أما عن مستقبل النقد العربي أجد أنني لست الاختيار الصحيح للإجابة عن سؤال كبير جدا كهذا، ولكن إن كان لا بد من إبداء رأي أقول هناك الكثير من الأسماء النقدية اللامعة سواء في العراق أو الوطن العربي مثل حاتم الصكر وفاضل ثامر وياسين النصير من العراق , ومن الوطن العربي نجد أسماء أخرى مثل عبد الفتاح كليتو وصلاح فضل وعبد الله الغذامي وعبد العزيز المقالح والمرحوم نصر حامد أبو زيد وكمال أبو ديب والكثير ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن ولهؤلاء حضور طاغ في نقدنا العربي مع اختلاف مذاهبهم النقدية.
هل يمكن أن يؤثر اشتغالك بالنقد الأدبي سلبا على إبداعاتك لتتحول كتاباتك الشعرية والروائية إلى فضاء توظفين فيه معارفك النقدية؟
بالعكس تماما لأن اشتغالي النقدي يثري عملي الإبداعي إذ أنني بعد أن اكتب النص اتركه لعدة أيام كي أخرج من جو كتابته تماما ثم أعود إليه وذلك محاولة مني لقراءته قراءة محايدة وأجد أنني أغير بعضا من النص وهذا يعني أن معرفتي النقدية تعينني على أن يكون النص قريبا أكثر من النضوج .
وعبارة كل ناقد هو شاعر فاشل ليست صحيحة إلى حد ما ....
كلمة أخيرة منك للقراء
أود أن أشكرك على هذا الحوار المهني الشيق.
للقراء أقول: إن الكتابة هي المأوى الوحيد لانكساراتنا وخساراتنا وحزننا ونأمل أن نصل إلى قدر معقول من مصداقية التعبير عن كل هذا الذي يختلج في أعماقنا ....