الناصريه وبدايات المسرح الريفي المتجول
في إحدى صباحات شهر تموز من عام 1971 تحركت من مقر نقابة المعلمين في الناصريه سيارة (( الواز)) التي تم تخصيصها من دائرة الزراعه في محافظة ذي قار لفرقة المسرح الريفي المتجول لتنطلق اول تجربه مسرحيه في العراق ...وتشكلت هذه الفرقه من مجموعه من المعلمين الشباب على رأسهم الفنان جعفر الحداد وجبار مامون وعدنان الفرحان وطارق محسن وعبد الرزاق الغزى والفنانه جواهر والطفله افاق حاكم. واتفقوا على تقديم عروض مسرحيه شعبيه في مناطق تواجد الفلاحين في القرى والارياف بهدف توعية هذه الطبقه المهمه من المجتمع باتجاه زيادة الانتاج والتاكيد على اهمية دور المراه في المجتمع الفلاحي وحث العائله الفلاحيه على الالتحاق بمراكز محو الاميه.. وربط الريف بالمدينه . لقد كان يوما ساخنا... تلفح حرارته وجوه الراكبين في سيارة ( الواز) وسائقها عبد الاله والمسمى ( فورسن)..وهي تشق طريقها باتجاه قضاء الرفاعي.. ومن هناك تبدأ المعاناة... حيث الطرق الترابيه التى تقطعها الكثير من الجداول.. وغالبا ما تغطي المياه الفائضه مساحات واسعه من الاراضي فتقطع الطريق الامر الذي يؤدي الى العوده مجددا من نقطة الانطلاق في الرفاعي وسلوك طريق اخر . فورسن هذا شخصية مرحه ..له خبره في مجال الاستدلال للقرى والارياف نتيجة خدمته الطويله في دائرة الزراعه . وكثيرا ما كان يترنم باغنية داخل حسن (لورايد عشرتي وياك ...) وهو يقود السياره على الطريق العام .. وكان يكلف يوميا باداء بعض الادوار من خلف الكواليس...كتقليد اصوات بعض الحيوانات اثناء تقديم العرض المسرحي.. وهو سعيد بذلك .... كون اداءه كان متقنا . لقد تعاهد الجميع على ان يكون هذا اليوم الاول هو بداية النجاح لتجربة رائده.. وان قساوة الضروف الجويه وضعف ... بل وانعدام الدعم المادي سوف لن يثني اعضاء الفرقه من تحقيق مشروعهم... لان ارادتهم واصرارهم اقوى من كل الصعوبات.. وعند الوصول الى القريه التي كانت تستقبلهم بالاهازيج والترحيب .يتم اختيار احدى الساحات لتقديم العرض المسرحي.. حيث يتم بناء مسرح بسيط من ( بوارى القصب) واغصان الاشجار مع بعض المصابيح لانارة المسرح مستفيدين من المولد الكهربائي الصغير الذى اعارته مديرية التربيه شعبة الوسائل التعليميه. لقد كان كل شىء بسيطا كالملابس والاكسسوارات وكانوا يستفيدون من صوف الاغنام الموجود في القريه لعمل الشوارب واللحى ... وكانت رائحته تزكم الانوف . وفي المساء كان الحضوراكثر من المتوقع .... لقد حضرت القرية بالكامل .. نساءا ورجالا واطفال .... تملاهم الدهشه الممزوجه بالفرح ..متسائلين.. ما الذي يحصل اليوم في القريه ...؟ رجال .... ونساء ... وسيارات ومصابيح .. والوان ..وكهرباء التي لم يروها طيلة حياتهم. وكان يتم دعوة بعض المسؤؤلين الاداريين كالقائمقام ومدير الناحيه والزراعه والجمعيات الفلاحيه.. كما حضر الى هذا العرض محافظ ذي قار الاستاذ حسن سعيد في وقتها الذي ابدى اعجابه بعد ان شاهد التفاعل التام بين الجماهير وما قدم على المسرح وهو تعبير صادق عن همومهم ومعاناتهم..... كون هذه الشريحه كانت تعاني من الاهمال والتخلف حيث لا كهرباء ولا ماء ولا طرق ولا مستوصفات ولا مدارس ولا راديو ولا تلفزيون . ومما زاد في نجاح هذه التجربه وزيادة تفاعل الفلاحين معها...ان الفرقه كانت تحضر الى القريه بوقت مبكر قبل العرض لاكمال الاستعدادات وكذلك الاطلاع على هموم ومعاناة ومشاكل كل قريه من خلال الاتصال ببعض الشخصيات هناك حيث تطرح اثناء العرض المسرحي باسلوب مبسط وساخر وبلهجتهم المحليه وعلى مراى ومسمع من المسؤؤلين الاداريين وبلسان ريفي يجعل المتلقي يشعر بالبهجة والارتياح...وكثيرا ما يتعمد الممثلون ذكر بعض اسماء او شخصيات من القريه او اقتناص بعض الملح والنوادر وحتى بعض الامثال الشعبيه الدارجه على السنة الفلاحين وتقديمها مباشرة على المسرح ضمن حوار متقن وطريف وهادف مستفيدين من قدرة الممثلين على الابداع والارتجال بعفوية رائعه بعيدة عن الاسفاف والتهريج . وكان يعقب العرض المسرحي يوميا...عروض افلام سينمائيه توجيهيه وتثقيفيه بواسطة عارضه سينمائيه صغيره تم استعارتها من الوسائل التعليميه تتناول الطرق الصحيحة للزراعه ...والصناعات الريفيه ...وافلام عن محو الاميه..وافلام اخرى عن الثقافه الصحيه وتربية الاطفال ثم توالت العروض يوميا في قرى اخرى تابعه الى قضاء الشطره والغراف والناصريه وسوق الشيوخ..حتى شملت معظم قرى المحافظه . لقد كان للفنان جعفر الحداد الدور الكبير في انجاح العمل من خلال مشاركاته في التمثيل والاخراج و التاليف..كما كان للمرحوم الكاتب قاسم دراج والمرحوم الكاتب احمد عبد الجبار دورهما الاساسي في تقديم نصوص مسرحيه شعبيه . وكذلك لاستاذ صباح رويح نقيب المعلمين انذاك..كان له دور كبير في تشجيع ودعم الفرقه معنويا وتذليل الصعوبات التى كانت تواجهها . اما الفنانه والمربيه الفاضله جواهر والطفله افاق حاكم..لقد كان لهما دور اساس في انجاح العمل لما تحملنه من متاعب طيلة مدة العروض المسرحيه بسبب الضروف الجويه الصعبه وبعد المسافات ووجودهن خارج المنزل طيلة النهاروحتى منتصف الليل دون اى مقابل. تناولت هذه التجربه الكثير من وسائل الاعلام مثل جريدة الجمهوريه والثوره ومجلة الف باء حيث كتب عنها الكاتب يوسف نمر ذياب وكذلك مجلة الاجيال التي تصدر عن نقابة المعلمين المركز العام ومقابلات اخرى عبر الاذاعه.. كما ان المرحوم الشاعر كاظم الركابي والاستاذ سعد علوان مشعل والاستاذ محمد حسين عبد الرزاق نقيب الفنانين سابقا كتبوا الكثير عن هذه المبادره التي انطلقت من مدينة الناصريه ... حتى ان الفنان المصرى كرم مطاوع صرح بعد اطلاعه عن ما كتب عنها بان تجربة المسرح الريفي المتجول في العراق تاتي في المرتبه الثانيه بعد تجربة المسرح الفلاحي المصري ونتيجة للنجاحات التي تحققت فقد قدمت للفرقه الكثير من الوعود من قبل الدوائر والمؤسسات كاعداد وتنفيذ تصميم لمسرح متحرك يمكن نقله من مكان الى اخرووعود بحوافز ماديه وخصوصا بعد تزايد الطلب من قرى اخرى من المحافظه لزيارتهم وتقديم عروض مسرحيه هناك بغية اطلاع المسؤؤلين على معاناتهم عن قرب .الا ان كل الوعود ذهبت ادراج الرياح. كما طلبت وزارة الزراعه بكتابها المرقم 23077 في1/8/1971 بنقل خدمات اعضاء الفرقه الى وزارة الزراعه لغرض تغطية كافة محافظات القطر بهذا النشاط ولكن اعضاء الفرقه رفضوا كونهم جميعا معلمين .. ثم قامت وزارة الزراعه على اثر ذلك بتاسيس دوائر التثقيف والارشاد الفلاحي في المحافظات وقد انطلفت بعد ذلك نشاطات اخرى في المحافظات على نفس النهج . نعم.. كانت حركة رائده... وبارزه باهدافها ونتائجها وحجم الجهود التي بذلت لانجازها.... لقد نجحت هذه التجربه في احداث انعطاف واضح في مسيرة العمل المسرحي باتجاه طبقة مهمة من المجتمع العراقي وهي طبقة الفلاحين والتي كانت ولا زالت تعاني من الاهمال والتخلف والفقر ... وهي الاحق بالدعم والرعاية .. كما استطاعت هذه التجربة ان تحرك المياه الراكده في كثير من الدوائر والمؤسسات الحكوميه ذات العلاقه بهذه الشريحه المهمه لمعالجة مشاكلهم ومعاناتهم وتقديم بعض الخدمات الاساسيه لهم لتحسين انتاجهم ورفع مستواهم الصحي والمعاشي والثقافي ...ولكن وللاسف ما لبث ان عاد السكون ثانية .. طارق محسن حمادي
نشر المقال على جزئين ..الجزء الاول في العدد4305 في 16/9/2012 من جريدة الزمان
والجزء الثاني نشر في العدد 4311 في 23/9/2012 من جريدة الزمان...وننشره هنا كموضوع واحد...
الفنان جعفرالحداد
التعليقات (0)