الناصرية وسنينها
كمال غبريال
لا تستهدف هذه السطور أشخاصاً بعينهم، بقدر ما تستهدف من وما يمثلونه، نقصد هنا جمال عبد الناصر صنم العروبجية وما يسمى "الناصرية"، تلك التي نريد أن يخبرنا أحد عن محتواها، بخلاف كونها المغامرة غير المحسوبة والعداء للعالم والنظم غير الثورية على الطريقة الناصرية، ثم فلسفة الفقر وعدالة توزيعه على الشعب الذي كان يهتف "ناصر وإحنا كلنا حواليك"، كل هذا في أجواء القهر وإرسال من يجرؤ على الهمس الذي يشتم منه معارضة إلى ما عرف بـ"وراء الشمس"!!. . كما أن المقلق ليس تواجد أكثر من مرشح لرئاسة الجمهورية يمثلون بدرجة أو بأخرى الماضي الناصري الأليم، تخوفاً من وصول أحدهم لمنصب الرئاسة بالفعل، فالحقيقة أنه ليس أمام أحد من هؤلاء الذين نشير إليهم فرصة حقيقية للفوز، فهم فقط ظاهرة صوتية نخبوية واهنة الصلة بالشارع المصري، وإن كان ما ينفثون من سموم عبر وسائل الإعلام والفنون كالسينما والتليفزيون تتسلل إلى دماء وثقافة الجماهير طوال الستة عقود الماضية يدعو للقلق، فاستمرار الحالة الثقافية الناصرية بالشارع المصري يعوق ثقافة الانفتاح والسلام والتوافق مع العالم، كما يعوق السلام الاجتماعي داخل الوطن ذاته، إذ تقسم المصريين حسب الشعارات الناصرية إلى "شعب وأعداء الشعب"، وأعداء الشعب هنا يشملون كل قادر على بذل جهد بناء، بداية من بناء عمارة سكنية، وصولاً إلى إنشاء الشركات والمصانع الكبرى، وحالة الانقسام المجتمعي هذه والمعاداة للمبادرة الحرة الفردية هي أخطر ما يواجه الآن أي مسيرة تنموية يمكن أن تحقق شعارات ثورة الشباب التي نرجو ألا تكون قد لفظت بالفعل آخر أنفاسها.
من المدهش أو بالأصح المستهجن أن يتواجد هذا التيار حتى الآن في مصر، خاصة بعد قيام ثورة على ما نعتبره طغيان نظام مبارك، الذي يعد بكافة المقاييس نظاماً ملائكياً مقارنة بطغيان المرحلة الناصرية وجبروت زعيمها الملهم بطل الأمة العربية، كما أن نظام مبارك ومن قبله السادات حاول إصلاح بعض ما ألحقه عبد الناصر من تدمير للاقتصاد المصري، سواء الاقتصاد الزراعي وما ألحقه به من تفتيت تحول إلى تشظ يعوق أي تنمية أو استزراع اقتصادي حديث ومجد، أو ما ألحقه بالصناعات المصرية من تأميمات حولت الشركات التي اتهمنا أصحابها بالاستغلال إلى بؤر أو بالوعات تمتص خسائرها دماء الاقتصاد المصري الشحيحة من الأساس.
مقلق بالفعل غاية القلق أن نسمع الآن بعد ثورة تطالب بالعيش (الخبز) كمطلب أول أن نجد من يعدنا بتوفير هذا العيش عن طريق ذات الأساليب الناصرية القديمة، وهي التي أفقرت مصر وقت أن كانت رائجة فيما سمي العالم الثالث والمعسكر الشيوعي، فما بالنا الآن وقد هجرها العالم كله، ولم يعد من المتاح إستعادتها، حتى في المعاقل الكبرى للشيوعية.
مقلق أن يقف ليخطب في الجماهير من يعدنا بالتقهقر عن قدر الإصلاح الذي أنجزه عصر مبارك في الاقتصاد المصري، بالتخلص من شركات القطاع العام، وتخليص خزانة الدولة من وبال خسائرها الرهيبة. . مقلق ومفزع أن يقدم شاب غر ولن نقول أحمق على الوعد أو بالأصح التهديد باستعادة ما تم بيعة من شركات، ليعود استنزاف الخزانة المصرية كما كان، وتعود جيوش البطالة المقنعة، والتي تتقاضى أجوراً لا تسد رمق أو تستر عورة، علاوة على الروح التي كانت موجودة منذ بداية الحقبة الناصرية، وازداد اشتعالها مع صيحات الثورة، والتي ترى المستثمرين لصوصاً وعملاء حتى لو أثبتوا العكس، لتكون البيئة المصرية هكذا نموذجاً للبيئة الطاردة للاستثمار، في وقت تحتل البطالة المرتبة الأولى والأخطر في مشاكل مصر، ليتحول كل الشباب هكذا إلى متسولين على أبواب شركات القطاع العام، دون وظائف أو عمل حقيقي منتج، ودون أن نجد مصدراً منتجاً يعوض بأرباحه ما تستنزفه هذه البؤر التوظيفية.
أو نجد من يعدنا بالعودة لضرب رؤوسنا في صخرة معارك مع إسرائيل، سواء بطريقة مباشرة أو عبر المنظمات الفلسطينية واللبنانية الإرهابية مثل حماس وحزب الله. . هنا يلتقي الناصريون مع الظلاميين التكفيريين، في توجه العداء والبحث عن صدام مع الآخر، الذي يسميه هؤلاء الصهيونية العالمية، ويسميه أولئك اليهود أحفاد القردة والخنازير. . ليس هذا فقط، بل ولدينا هذا الطامح الناصري في رئاسة الجمهورية، والذي سجل له العالم مقاطع فيديو يناصر فيها تنظيم القاعدة في قتلها للأمريكان، لتكون مصر كلها الآن بمجرد تواجد هذا الشخص في قوائم المرشحين للرئاسة في محل مراقبة وتساؤل ورصد، باعتبارها مرشحة لتكون ملجأ آمناً لتشيكلات تنظيم القاعدة، وبالتأكيد مع هذا تسخير إمكانيات الشعب والدولة المصرية لخدمة الإرهاب العالمي.
نستهدف بسطورنا هذه بذل كل الجهد الممكن لتحذير مصر والمصريين من إعادة إنتاج الماضي، بعدما قاموا بثورة على ماض كانوا هم الفاعل والمسؤول الأول عن إنتاجه، ذلك أنه مهما تمادينا في نسبة كل خطايانا وإحباطاتنا إلى الرئيس أو الأب البطريرك، فإن الشعوب هي التي تصنع قادتها، ليس فقط لأنهم بالأساس من إنتاج بيئتها وثقافتها وقيمها، ولكن لأن الشعوب هي التي تحدد للحاكم المنهج الذي يتعامل به معها. . هي التي تجبره على احترامها ومعاملتها بديموقراطية وشفافية وصدق، وهي أيضاً التي قد تدفعه للعسف والبطش بها، كما تدفعه لترك الخطوط المستقيمة واللعب على مشاعرها الوطنية والدينية، وقد يتمادى في استهانته بعقل الشعب الجمعي، فيتجاسر على تصوير هزائمه وكأنها انتصارات تحتاج لاحتفالات وأعياد كعيد النصر على ما أسماه عبد الناصر العدوان الثلاثي، كما ينجح الزعيم الديماجوجي عادة في أن يدخل في روع الجماهير المنومة مغناطيسياً بخطابه العاطفي العنتري أنها صارت قائدة للعالم الحر الثائر، وأن قوى الشر العالمية ترتعد فرائصها من قوة البلاد وعظمتها، وأنها لهذا تحيك لها المؤامرات والدسائس، ما لابد وأن نكون على أهبة الاستعداد له والحرص منه، بأن نلتف جميعاً حول زعيمنا البطل المفدى رمز عزتنا وكرامتنا، والطريف هنا أن نجد الآن وبعد أربعة عقود من رحيل الطاغية من يعدنا بالعودة إلى الدور الريادي والعزة والكرامة التي كانت لنا في عهد الزعيم. . شر البلية ما يضحك كما يقولون، رغم أن الأمر الآن في مصر مأساوي إلى حد لا يتيح رفاهية التنفيس عنه بالضحك!!
يعرف جيلي على الأقل أن الناصرية تعني قوة ميكروفونية ضاربة وقوة مسلحة هاربة، رغم أن هذه الجيل ذاته هو الذي خدع نفسه قبل أن يخدع جيل أولاده، ونقل لهم عن عصر عبد الناصر صورة تنتمي لخيالاتنا وليس للواقع المرير الذي عشناه. . تعني الناصرية عزة وكرامة نقنع بها أنفسنا، عوضاً عن مذلة احتلال لبلادنا سميناه نكسة. . تعني عدالة اجتماعية تساوى فيها الجميع في الفقر، وبعدما كانت مصر دائنة لبريطانيا في العهد الملكي، تفضل علينا الحكام العرب الذين دأب بطلنا ناصر على سبهم في خطبه النارية بمعونة سنوية بعد الوكسة. . الناصرية بطولة حنجورية كلامية، ومذلة وهوان في الحقيقة الواقعية. . كان مثلاً ينبغي هذا الـ "واحد مننا" وأمثاله أن يخجلوا من أنفسهم ويداروا عورات ناصريتهم، ويذهبوا للارتزاق بفتح أكشاك سجائر على أرصفة المدن، تلك التي انتشرت بعد الثورة وباسمها، خاصة ولم يعد هناك صدام أو قذافي يمولهم بشيكات أو بكوبونات نفط، ليظلوا يلعبون دور كلابه التي تنبح باسم العروبة والقومية وماشابه من ترهات تخفي خلفها حقارة الارتزاق وخداع الشعوب!!
أليس تواجد ناصرية وناصريين حتى الآن يعطي دلائل أكيدة لأي حاكم أياً كان انتماؤه أن الشعب المصري يمجد جلاديه، ويعظم من شأن من يجلبون الخراب لبلادهم، فقط إذا كانوا مفوهين وقادرين على تبني خطاب يلعب بالعواطف قبل العقول؟. . فما هي الناصرية غير استبداد ومعتقلات ومغامرات غير محسوبة ونكبات باسم دلع نكسات، وإفقار لمصر والناس بمسمى عدالة واشتراكية بالملوخية؟!
لا أعترف أو أحب الأصنام بجميع أشكالها، بما فيها صنم "الشعب البطل" و"الثورة المجيدة" و"الرئيس الملهم" أو "القائد الضرورة" و"قداسة البابا المعظم" وما شابه. . كل شيء يجب أن يكون قابلاً للنقد والرفض والقبول الكلي أو الجزئي، وكل القيم والأفكار قابلة للمراجعة والتراجع عنها فيما عدا قيمة الإنسان والإنسانية، فهي قابلة فقط للتطوير والتوسع في مجالاتها. . كنت مثلاً مع الثورة وشاركت فيها وبكيت من السعادة أن امتد بي العمر لأشهدها، لكن الآن وبعد ما حدث أعتبرها كارثة حلت بمصر، نحتاج لعدة عقود لتجاوز آثارها الكارثية، ومازال الأمر خاضعاً للمراجعة وإعادة التقييم وفق ما تسفر عنه ردود أفعال الثوار والشعب المصري!!. . لو لم نكن كشعب عبدة أصنام، لما بقيت الناصرية وشعاراتها وتوجهاتها حية في العقول والقلوب حتى الآن، ولما ظهر طامعون لرئاسة الجمهورية يتاجرون بشعاراتها البائدة توسلاً لشعبية.
العداء للعالم المتحضر هو المستنقع الذي نمت فيه ديدان النخبة المصرية السياسة والثقافية خلال ستة العقود الماضية، ويندر من لم تسر في دماه مياه المستنقع الملوثة. . تآمر العالم علينا واستهدافه لنا كذبة أطلقها الديكتاتور ناصر لنرتعب ونلتف حوله كمنقذ، وسار عليها خلفاؤه، بعد أن صدقناها وصارت جزءاً من تكويننا العقلي.
نعم يعز علي أن يترأس جمهورية مصر إرهابي من طيور الظلام التي تخيم الآن على أرض مصر وسمائها، لكن لا يقل عن هذا خطراً أن يحكم مصر من كان ينتظر نفحات وهبات من صدام والقذافي. . أرجو ألا تكون مصر قد هانت لهذه الدرجة!!
من يريد لمصر أن تصير أفغانستان أو الصومال أو السودان لديه مشايخ التجهيل والتكفير والتحريض، أما من يتوق إلى معتقلات ونكسات وفقر اشتراكية عبد الناصر وحروب في اليمن والكونغو وسائر المغامرات التي جعلت مصر وشعبها في أسفل سافلين، فعليه بالجماعة الناصريين الحنجوريين فنجرية البق على حساب الغلابة الذين يتاجر الجميع باسمهم.
مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونية
التعليقات (0)