مواضيع اليوم

الناسخ و المنسوخ

انور محمد

2010-08-02 03:54:15

0

الناســخ والمنســوخ

---------     

 

     قضية تعصب لها الكثيرون  ، وتحدث فيها الأولون والآخرون ، وكل ذلك محمول على نواياهم ، وما إليه يرمون ، وهذا دأب الكلام المرسل ، والقول غير المحكم ، وكثيرا ما قلنا ، وكررنا القول إننا بحاجة لمنهج علمى ثابت يحفظنا من هذا العبث ، ويرسخ لنا افكارنا ، حتى ننطلق للعالم من حولنا ونعمر الكون ، وهذا ما خلقنا من أجله ، فليس خافيا على العاقل منا أن هذه المهاترات ليست فى صالحنا ، ولا صالح ديننا ، والعجب ممن ينساق وراءها بقصد أو عن غير قصد ، طابت نيته أم خبثت ، فكلاهما مذموم ، ولن يصل بنا إلا لهاوية سحيقة .

     الناسخ والمنسوخ قضية قديمة حديثة ، تحدث عنها القدماء ، لكنهم كأصحاب بيئة واحدة لم يتسع بينهم الخلاف كما اتسع بيننا ، ولم تكن لديهم النوايا التى استشرت بيننا ، والحق أن هناك طبقة بيننا اليوم تحاول قلب القواعد ونقضها ، بما يناسب أهواءها ، وتأخذ من التراث ما يناسب هواها فقط ، وهى تسيطر على عقول العامة من الناس غير المتخصصين ، وغير القادرين على استنباط الحكم الشرعى بحيث أصبحوا هم – وحدهم – أصحاب التوكيل المطلق فى استخراج الحكم وتأويله ، ولك الويل إن عارضت أو خالفت ، وقديما قلنا إن الدين جاء أصلا ليحرر الناس من عبادة الناس إلى عبادة رب الناس ، لكن وجدنا من استخدم الدين مرة أخرى للسيطرة على العقول باسمه .

     ببساطة شديدة هل يقول عاقل إن الله يحكم حكما ويعود فيه ، أو يقول قولا ، ويرجع عنه ، الأفظع من ذلك ، هل يُتصور أن الله يقول قولا ، ويُحذف من القرآن ، أو يبقى القول ، ويلغى العمل به ، أعتقد أن مجرد الظن فى ذلك ليس خروجا عن صحيح الدين  فقط ، ولكن خروج عن الأدب مع الله عز وجل ، فالله يحكم لا معقب لحكمه ، وكلام الله ليس ككلام البشر ، ومن يعتقد أن كلام الله يجرى عليه الحذف أو الإلغاء أو التغيير ، فهو بعيد عن العقل ، وليس له من الدين نصيب .

 ولكن هناك من قال بالناسخ والمنسوخ ، وهي قضية كبيرة كما قلنا ، والقارئ فيها يجد كلاما لا يناسب الدين ، ولا العقل ، ولا الأدب ، فما الفصل في ذلك .

    النسخ فى اللغة يأتى بمعنى النقل والإزالة ؛ فالنقل كقوله تعالى : ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) الجاثية 29 ، وقد يأتى بمعنى الإزالة ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) البقرة ، يقول الزمخشرى فى الأساس : نسخت كتابى من كتاب فلان : نقلته ، ومن المجاز : نسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب . وفى اللسان عن ابن الأعرابى يفسر النسخ بالنقل والإزالة . أما الفقهاء فيقول أبو جعفر النحاس : النسخ إما أن يأتى بمعنى الإزالة أو النقل أيضا . بينما ينكر القرطبى فى الآيضاح أن يكون النسخ بمعنى النقل ؛ بمعنى أن اللفظ لا ينسخ وإنما يأتى بلفظ جديد وحكم آخر ، فلا نسخ عنده وإنما حكم جديد يضاف للحكم السابق ولا يزيله ، ويذهب السرخسى إلا أن النسخ معناه النقل والإزالة والإبطال .

    ويؤكد فريق من الفقهاء أن النسخ عند العرب معناه الرفع أى الإزالة ، وأن القرآن حدث الناس بما يفهموه ، وأنكر البعض الآخر هذا المعنى مطلقا ؛ فمن الفريق الأول ابن سلامة ومن الفريق الأخر أبو حاتم . أما الرازى فيرجح النقل عن الإزالة ، وهناك آراء عدة تدور حول ما ذكرنا وهى اجتهادات مقبولة من الجميع ، وكذلك تفرع المعنى عند المتأخرين ليسلك مسلكا فلسفيا مثل انتهاء مدة التعبد ، أو انتهاء زمان الأمر .. وغيرها كما ورد عند البغدادى والبيضاوى و الجصاص والمرداوى وغيرهم    

    هذا فى اللغة أما النسخ فى القوانين يعنى تغييرا ينتج عن ظهور مستجدات وما يطلق عليه البعض البداء ؛ والبداء بهذا المعنى هو ظهور بعد إخفاء كما تقول : بدت لنا الجبال ، يعنى ظهرت بعد خفاء ، كما فى قوله تعالى : ( وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون ) الزمر 47 ثم نشأة رأى جديد ، كقوله : ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) يوسف 35

  وهنا يتضح أن هذا المعنى يتطلب الجهل ، وحدوث العلم ، وهذا محال على الله عز وجل ، ولسنا بحاجة لتأكيد ذلك  ، ولا يدخل فيه قوله تعالى : (  يمحو الله ما يشاء ويثبت ) لأن المحو لا يكون فى علم الله كما تقول الرافضة ، بل هو متعلق بالمعجزات وليس العلم ، وحاشا أن يكون ، بدليل قوله تعالى فى نفس الآية : ( وعنده أم الكتاب ) .

ولنا ملاحظات على ذلك :

-    كل الآيات التى تناولتها النصوص معتقدة بأن فيها  نسخا ، هى من قبيل المختلف فى تفسيرها ليس غير ، فآية الخمر : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) النساء 43 - قيلت إنها نسخت بقوله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب ... ) الآية  90 المائدة ، والمتمعن فى الآية لا يجد أصلا تعارضا فضلا عن النسخ المزعوم بها ، فتحريم الخمر ليس نسخا للنهى عن صلاة شارب الخمر ، بل تدرج فى الحكم ، ومكمل له ، وهذا من أبواب التعليم كما هو واضح . كذلك ماقيل فى نسخ الزكاة للصدقة ، ونسخ صيام رمضان لصيام عاشوراء ، فهذا مما لسنا بصدده ، فهو تدرج عن طريق التدريب على العبادة من العام للخاص ، فليس ثمة إلغاء لأحدهما ، ومجال شرحه علم التفسير والتأويل ليس غير ، إذ الحكم مختلف ، مابين الآيات الأول ، والتى تلتها ، فقوله عز وجل  على سبيل المثال ؛ أياما معدودة ، جاء ذكر رمضان بعدها تفسيرا لا نسخا . وسأفرد مقالا تفصيليا أجمع فيه كل الآيات التى تناولها العلماء فى هذا الموضع ، والتى تناولها المفسرون ، وزعم البعض أن بها نسخا ، وسيجد القارئ الكريم أن القضية اختلاف فى التفسير ، ليس نسخا بالمعنى الذى يثار هذه الأيام .

-    إن فتح المجال لقضية النسخ هو استخفاف بعقول الناس ، وعدم احترام للنص المقدس ، وأنت واجد بعض من يقول لك هناك آية كانت موجودة وحذفت ، أو آية موجودة ولا يعمل بها ، فكيف لنا أن نقبل بمثل هذا ، وطالما أن الأمر لا يتعدى اختلافا فى تفسير الآية ، فمن الحكمة مراجعة النص ، والأخذ بمعناه ، والحكمة منه ، فليس يذهب إلى هذه المغالطات إلا من كان فى نفسه هوى يريد أن يحققه ، وإذا كان النص الكريم يتسع لأكثر من تفسير فالأولى حمله على ما يؤكد قدسيته وما يتناسب مع منزلته ، فنحن نتكلم عن نص إلهى لا بشرى ، أفلا يعقلون !!!

-    الخلط بين النسخ فى الحديث والنسخ فى القرآن مغالطة واضحة ، إذ معلوم أن الحديث وارد فيه ذلك ، بل مؤكد منه النسخ ، بل تلك حكمة شرعية تؤكد اختلاف الحكم باختلاف الزمن والبيئة ، وهذا ليس نقصا أو عيبا فى الحديث ، بل كما قلنا حكمة تشريعية ، تساعد من يشرع فيما بعد فى أخذ العبرة والدرس من تغيير الحكم وفق تغيير البيئة المصاحبة له ، وهذا أكثر من أن يحصى ، كقوله صلى الله عليه وسلم : كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها . الحديث ، فهذا نص صريح بورود النسخ للحديث ، كذلك ما يقال من أن القرآن نسخ بعض الأحاديث ، وهذا صحيح كذلك ، مؤكد لدينا ، أما أن يقال عكس ذلك ، فحاشا اللسان عن ذكر طرف منه .

-   تبقى الحجة البالغة التى تدحض مثل هذه الافتراءات ، والتى لو خرج القارئ الكريم بها من هذا المقال لكفته ، ولجعلت من إيمانه قوة لا تتزعزع ، وهى حجة نسوقها لهؤلاء الذين يزعمون أن النسخ وارد فى النص القرآنى ، وأن هناك آيات بزعمهم موجودة بالقرآن ، ولا يعمل بها ، نقول : إننا لاحظنا أن ذلك يقال فقط  فى قضايا ولا يقال فى أخرى ، فلماذا لا يطبق هذا الحكم على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والخاصة بحجاب المرأة ، وما يعرف اليوم بالزى الإسلامى ، إن كان الأمر يتعلق بالنسخ لاختلاف متطلبات الحكم ، على زعمهم ، وما ورد بشأن القواعد من النساء مثلا ، أو قوله تعالى فى سورة الأحزاب : ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن  ) الآية ... أعتقد أنك لن تلقى جوابا ، لأن الموضوع هو توجيه الأمور لعصبية قبلية ، وأهداف خاصة ، تتصور الحق معها فقط ، وتعمى وتصم عن أى أمر مخالف .

-   يبقى ما يمكن أن نسلم بالنسخ فيه وليس هنا بمعنى الإزالة والمحو ولكن بمعنى إتاحة الفرصة للتعليم والتدريب وهذا كما فى آية سورة الأنفال : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيك ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ... ) فهذا ليس من باب التعارض أو الإزالة للحكم ولكنه كما قلنا من باب التعليم ، فهو كالأمر الذى يضرب به المثل على أرض الواقع أو الاختبار الذى يجب أن يقوم به الطالب عمليا ، حتى يعرف الوضع على طبيعته ، وليس تغيرا فى حكم أو إزالة أو جهل بما يستحدث من أمر ، ويلحق بهذا ما جاء فى سورة المجادلة : ( أأشفقتم أن تقدموا بين يدى نجواكم صدقات ... ) الآية المجادلة ... هذه كله من باب التعليم ، قال تعالى : ( الرحمن علم القرآن ) ، فالقرآن كتاب تعليم ، وشرح ، وهو يعطى المثل للمعلم كيف يصنع .

-   ما ورد فى خلاف فى تفسير بعض الآيات كقوله تعالى ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ... الآية قيل أن عمرا سأل النبى صلى الله عنها فقال عليه السلام إنما خيرت فاخترت ، وكذا قوله تعالى فى سورة البقرة ( ..وإن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله .... الآية قيل نسخت بقوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .... الآية فهذا من قبيل التفسير ليس إلا ، لأن بعض الصحابة والمفسرين فهموا ذلك على أنه تخصيص للعام وليس إزالته ، كما فى آية سورة الأنفال ، ومنهم من قال ليس إزالة أصلا لأن المحاسبة لا تعنى العقاب ، فمن ثم لا تخصيص ولا نسخ ، وهكذا فالأمر من باب التفسير كما قلنا .  

-    تبقى الآيات التى ذكرت النسخ كلفظ صريح رأى فيه البعض حجة ، ولا ندرى كيف ، ومنها : قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ... ) الآية 106 سورة البقرة . وقد ذكر العلماء أن كلمة الآية تطلق على عدة مفاهيم منها الآيات الكونية ، كالشمس والقمر فهما بالنص آيتان ، وآية ملك جالوت ، كانت الصندوق ، وآية زكريا صمته ثلاثة أيام ، وغير ذلك ، فكلمة آية لا حصر لمفهومها ، وعلى فرض إن المقصود الآية القرآنية ، فتفسير ذلك قوله تعالى : (  وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته ....) الآية 52 سورة الحج . نعتقد فيما نعتقد أن هذا الآية تفسر لنا آية سورة البقرة  ، وتفسر لنا قضية النسخ المزعوم مطلقا ، فالقضية ببساطة شديدة وإيمان راسخ ، أن الوحى حينما يملى على رسول أو نبى ، أو يمليه الرسول أو النبي على المتلقى ، يحاول الشيطان أن يتدخل ليوحى لمن يسمع الرسول أو النبى ، فيلبس عليهم كلمة أو لفظة ، فينسخ الله ماذا ؟ بنص الآية ، فينسخ الله ما يلقى الشيطان ، وهو ما التبس على المستمع ؛ كرسول أو نبى أو متلقى عنهما ، ويحكم الله آياته ، إذن نحن أمام حكم قاطع من الله عز وجل لا يقبل التعديل أو التغيير ، وهو أن المنسوخ هو هواجس الشيطان الدخيلة على النص ، أما ما ثبت أنه نص إلهى ، فهو محكم بحكم الله لا يقبل التغيير أو التعديل ، وهذا ما يقبله الدين والعقل ( فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته ) فالمنسوخ لم يقل ، ولم يثبت ، بل نسخ قبل النطق به ، وثبت حكم الله ، وهذا معنى قوله تعالى ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ... ) وكذلك قوله عز وجل ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) 39 الرعد ، وقوله : ( ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ..) إذ أن هذه التدخلات قد تتسرب فى نفوس البعض ولكنها تتسرب فقط فيمن فى قلبه مرض أما الراسخ فى الدينه ، فهو على يقين من أمره .

    وهكذا نعتقد ان المماحكة فى لفظة ، ومحاولة تسيير الأمور وفق الهوى والعصبية القبلية ، هى ما سلك بهؤلاء هذا المسلك ، وقديما قيل آفة العلم الهوى ، والله أسال أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا ، ولا يجعل فى قلوبنا هوى يفسد علينا ديننا .

                              والله من وراء القصد

                                            أنور محمد أنور         




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !