لا نزال مع خطاب الرئيس سعد الحريري الأخير، فالخطاب دَسِم لدرجة أعجزتنا عن إيفاءه حقه في مقالة واحدة، إذ فضلاً عن الفنون الهابطة التي حواها والتي أفردنا لها المقالة السابقة، زاد الخطاب دسامة تجرٌّؤ الحريري على البوح بالسرِّ الكامن خلف طعناته الغادرة لحليفه الحكيم ولثورة الأرز وصولاً الى الطعنة القاتلة بترشيحه الأسدي الثامن آذاري سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية؛ فما هو هذا السرّ يا ترى؟
سرّ طعنات الحريري الغادرة لحلفائه هو مفهومه للوفاء والحلف والحلفاء؛ فبمراجعة لتعريف "الحِلْف" في معاجم اللغة العربية نجدها متفقة على إعطائه معاني: "الميثاق والعهد والتناصر والاتفاق". وهو في معجم مصطلحات اللغة العربية المعاصر: "معاهدة على التعاون والتكاتف والاتفاق والتناصر تُعقد بين طرفين أو أكثر من الدول أو الجماعات في المجال العسكري أو السياسي أو الاقتصادي أو غيرها من المجالات". وبما أن الحِلف عهد فالوفاء به واجب وهو ما نصّت عليه الأديان السماوية والقوانين الوضعية فضلاً عن الإخلاق والآداب، طبعًا بضابط جوهري هو أن يكون الأمر المتحالف عليه مباحًا وإلا كان التحالف على ما هو ممنوع ممنوعًا وفض حلفه واجبًا. وأي تحالف يقضي على أطرافه بالحد الأدنى الاتفاق على الثوابت والمبادئ والأهداف والمصالح المشتركة التي قام عليها حِلفهم والوفاء لها والحفاظ عليها كي تنطبق عليهم تسمية "حلفاء"؛ فلا يحق لأحدهم التنازل عن المبدأ المتحالف عليه أو العمل ضده أو الإضرار بحليفه وإلا اعتُبر ناقضًا للحلف وفعله غدر وخيانة. نعم، ثمة أشياء تقبل المرونة والاختلاف والتمايُز بين الحلفاء، لكن ذلك يقتصر على جزئيات لا تمس الأسس والمبادئ والمصالح المشتركة التي قام عليها التحالف.
هذا تعريف الحِلف في اللغة وفي الاصطلاح السياسي، وهذه ضوابطه وحكم الوفاء به في الدين والقانون والعقل والأخلاق... فما هو مفهومه لدى الشيخ سعد؟
برر الحريري غدره بـ14آذار وبمرشحها للرئاسة وترشّيحه فرنجية فكشف مفهومه للحلف قائلاً: "ويعطونا دروسًا بالوفاء للحلفاء، نعم، الوفاء للحلفاء جميل، لكن ما نفع الوفاء إذا كان على حساب مصلحة لبنان، وإذا كان هدفه استمرار الفراغ؛ الوفاء الأصلي هو الوفاء للبنان، لأن الوفاء للبنان هو أساس الوفاء للحلفاء ولكل اللبنانيين".
مفهوم مخيف وخطير، فالوفاء للحلفاء ليس مسألة جمال وقبح لأنهما نسبيان بين الناس إنما مسألة وجوب وإلزام؛ والوفاء للحلف ليس مسألة نفعية مصلحية خاصة إنما مسألة كلمة وعهد ومبدأ وأخلاق تتخللها تضحيات من أجل المصلحة العامة للحلف ومبادئه؛ وبما أن الحريري اعتمد على الجمال والنفع والمصلحة الخاصة بات عنده الوفاء بالحلف غير نافع -أي الغدر به مسموح بل مطلوب- إذا تعارض مع تلك المصلحة. قد يعترض أحدهم قائلاً إن هذا التحليل باطل لأن الحريري قيّد المصلحة بمصلحة لبنان لا بمصلحته الشخصية، وردًا على ذلك نقول:
"مصلحة لبنان" مصطلح برّاق ولشدة لمعانه يُعمي الأبصار والبصائر عن إدراك ضلال الفكرة الذي سِيق ضمنها. فهل تحالف 14آذار الذي ادعى الحريري مرة أنه "لا يفرّقه عنه إلا الموت" قائم على ما يتعارض مع مصلحة لبنان كي يسمح لنفسه الغدر به، أم إن مبادئ الحرية والسيادة الاستقلال التي هي لب وجوهر هذا التحالف هي المصلحة اللبنانية بذاتها؟! وهل الوفاء للحليف المرشح لرئاسة الجمهورية وفقًا لبرنامج 14آذاري وطني بامتياز أصبح يهدف الى استمرار الفراغ وبالتالي الغدر به واجب؟! أليست اللعبة ديمقراطية و"لينزل كل فريق بمرشحه الى مجلس النواب حيث سنبارك للفائز" كما قال يقول الحريري نفسه اليوم بعد صفقة فرنجية؟!
هل مصلحة لبنان في السين-سين وفي الاعتذار من الأسد وفي تشريع سلاح الحزب الإرهابي وتغطية إرهابه بحكومة ائتلافية وبلعب دور الصحوات وتقديم كل التسهيلات لتحويل لبنان ولاية إيرانية وصولاً الى ترشيح وتسويق شخصية أسدية 8آذارية للرئاسة تتويجًا لـ11 سنة متواصلة من التنازلات المخزية والتقلُّبات المفاجئة بعد رفع السقوف العالية والطعنات السامة والغادرة بحق الحلف والحلفاء والشهداء كلها تمّت تحت ستار "مصلحة لبنان" فيما هي حقيقة مصلحة الحريرية السياسية للبقاء في السلطة أيًا كان الثمن ومصلحة الوصي الإقليمي عليها المملكة السعودية؟!
لقد شكّل نيكولا ميكافيلي (1469-1527) نقطة تحوّل خطيرة في تاريخ الفكر السياسي، حيث جعل في كتابه "الأمير" مبدأه السياسي الأول: "الغاية تبرر الوسيلة" مهما كانت الوسيلة منافية للدين والأخلاق، وذكر في الفصل الثامن من كتابه أنه ينبغي للأمير أن يحافظ على العهد حين يعود ذلك عليه بالفائدة فقط. أما إذا كانت المحافظة على العهد لا تعود عليه بالفائدة فيجب عليه حينئذ أن يكون غدّارًا، ماكرًا مكر الذئب ضاريًا ضرواة الأسد. وبناء على ذلك يبدو أن 14آذار ذهبت ضحية وفريسة الميكافيلية الحريرية في مفهوم الوفاء والحلف والحلفاء.
التعليقات (0)