الميراث في الجاهلية
من كتاب / الأساس الفكري للجاهلية
تأليف: إبراهيم أبو عواد
...............
لم يكن أهلُ الجاهلية يُورِّثون الصِّغارَ ولا البنات ، باعتبار أن هاتَيْن الفئتين لا وَزن لهما في المجتمع، فهما الحلقة الأضعف التي يَسهل كَسْرها، واستغلالها، ولا تَقْدر على الدفاع عن وجودها. وقد أزالَ اللهُ تعالى هذا الظلمَ ، ووضّح حقوقَ كُل طَرَف ، سواءٌ كان صغيراً أَم كبيراً .
وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_: في قَوْله عَز وَجَل: ] وما يُتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء [ ، قال:(( كانوا لا يُورثون صبِياً حتى يَحْتلم)).{رواه الحاكم في المستدرك( 2/ 337) وصححه،ووافقه الذهبي .}
وهذا يُشير إلى دكتاتورية أنساق الجاهلية ، فهم يَعتبرون الصبي مهيضَ الجناح ، ولا قيمة له ، ولا دَوْر له في المجتمع ، لذلك حَرَموه من الميراث مستغلِّين ضَعْفَه . وهذا يدل على أن مجتمع الجاهلية هو مجتمع الغاب ، حيث يأكلُ القويُّ الضعيفَ ، ويتكبرُ الشريفُ على الوضيع ، ويحتقرُ الرّجلُ المرأةَ.والمضحكُ المبكي أنه في كل مجتمع ظالم، سَيَشْعر كُل فردٍ أنه مظلوم،حتى الظالم نفْسه.
وفي زاد المسير ( 2/ 215) : (( وفي ] يتامى النساء [ قَوْلان: أحدهما أنهن النساء اليتامى فأضيفت الصفة إلى الاسم كما تقول يوم الْجُمُعة . والثاني : أنهن أمهات اليتامى فأضيف إليهن أولادهن اليتامى )) اهـ.
والمرأةُ في الجاهلية كانت تُوَرّث كما يُوَرّث المتاع أو الدابة . قال اللهُ تعالى : ] يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا لا يَحِل لَكُمْ أَن تَرِثُوا النسَاءَ كَرْهاً [[ النساء: 19].
فلا يَجوز وراثة المرأة بعد موت زوجها كالمال ، ونقلها إلى رَجل آخر كما يُنقَل المتاع . فهذه إهانة عُظمى للمرأة ، ونقطة سوداء في تاريخ المجتمع ، ووصمة عار في جبين الإنسانية . والمقصودُ رفعُ الظلم عن المرأة ، وإعادة الاعتبار لها ، وحفظ كرامتها من الخدش ، وصيانة عِرْضها من الدنس .
إذن ، فالمرأة كانت سلعةً في معرض البيع والشراء . وهي تُوَرّث مثل أي جزء من البيت. وهذا يشير إلى عدم اعتراف بكيانها الآدمي، وصفتها الأنثوية ، ومكانتها المجتمعية. وهذه الفلسفة هي تلخيص لمبدأ التعامل مع المرأة في الجاهلية، المعتمد على نظرة ذكورية قمعية تَحشر المرأةَ في الزاوية لكي تظل خاضعةً لشهوة الرّجل ورأيه .
وفي صحيح البخاري ( 4/ 1670 ): أن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال: (( كانوا إذا مات الرجلُ كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوّجها، وإن شاؤوا زَوّجوها ، وإن شاؤوا لم يُزَوجوها، فهم أحق بها من أهلها )) .
وهذا يشير إلى أن تجذّر النظرة الدونية للمرأة في المجتمع الجاهلي . فهي مجرد أداة تتقاذفها أيدي الرجال وفق أمزجتهم ، ولا تملك غير الانصياع للسلطة الذكورية العليا . إنها تتحرك بلا تاريخ ولا مستقبل ، لأنها مجرد ردة فعل لأفعال الرِّجال الحاكمين عليها. إنها عبدةٌ ذليلة تقول كما يُقال ، ولا تجرؤ على رفع رأسها في وجه أسيادها .
ولم يكتفِ أهلُ الجاهلية باعتبار المرأة ميراثاً تتناقله الأيدي ، بل كانوا يَحرمون المرأةَ من الميراث . فلا حق لها في مال أبيها أو أمها بعد وفاتهما . فهي كائنٌ وضيع على الهامش ، منزوية في البيت مثل الأثاث ، والرِّجالُ هم المتحدثون باسمها ، وهم الذين يُقرِّرون مصيرَها ، يُطعمونها ويُسقونها متى شاؤوا ، ويَحرمونها من الميراث وفق مزاجهم ، ... إلخ .
قال الله تعالى : ] للرجالِ نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون وللنساءِ نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون مما قَل منه أو كَثُر نصيباً مفروضاً [[ النساء : 7] .
للأولاد والأقارب نصيبٌ من الميراث ( تَرِكة الميْت ) ، وأيضاً للبنات نصيب من هذه التّرِكة ، فالأولاد والبناتُ يَشتركون في الميراث مع اختلاف القَدْر ( الحِصّة ) ، سواءٌ كان الميراث قليلاً أَم كثيراً . وهذا الأمرُ قد فَرضه اللهُ تعالى حِفظاً لحقوق الناس عامةً ، والنساء خاصةً ، فأهلُ الجاهلية لم يَكونوا يُورِّثون النساءَ . وهذا الحُكم الإلهي العادل لا مجال للتلاعب فيه أو تغييره .
قال الطبري في تفسيره ( 3/ 604 ) : (( للذكور من أولاد الرّجل الميْت حِصة من ميراثه ، وللإناث منهم حِصة منه ، من قليل ما خَلّف بعده وكثيره ، حصة مفروضة واجبة معلومة مؤقّتة ، وذُكِر أن هذه الآية نَزلت من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يُوَرّثون الذكورَ دون الإناث )) اهـ .
وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 2/ 18): (( سبب نزولها أن أوس بن ثابت الأنصاري توفّي وترك ثلاث بنات وامرأة ، فقام رَجُلان من بني عَمّه يقال لهما قتادة وعرفطة ، فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً ، فجاءت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَذَكَرت له ذلك ، وشكت الفقرَ ، فَنَزلت هذه الآية . قاله ابن عباس )) اهـ .
إن هذا الحُكم الإلهي العادل } للنساء نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون {، قد أبطل عادةَ أهل الجاهلية الذين كانوا يُورِّثون الرجالَ دون النساء والأطفال . وقد أثبتت الشريعةُ أن للنساء حظاً من تركة الميت، ونصيباً من الميراث لا يمكن إنكاره، أو الاستيلاء عليه تحت أية ذريعة .
وحِرمانُ الأنثى من الميراث كان ثقافةً جاهلية سائدة لها غطاء اجتماعي لا يمكن اختراقه . فالأمرُ مفروغ منه ، وهو مُسلّمة غير قابلة للنقاش ، فلا الرجال يُناقشون في هذا الأمر ، ولا النساء يمتلكن حقّ الاعتراض .
وكان أهلُ الجاهلية يقولون إنما يَرِثُ مَن يُحارِب ويذب عن الحوْزة. أي إنهم كانوا يَنظرون إلى المرأة كعنصر هامشي لا دور له في الحياة سوى خدمة الرجال، وبالتالي فهي _ من وجهة نظرهم _ لا تستحق الميراث لأنها لا تقوم بأعباء الحرب ، ولا تدافع عن القبيلة ، وهذه السياسة الجاهلية تشير إلى بدائية العقل العربي في التعامل مع المرأة ، وحصرِ الإنجازات البشرية بالحرب والقتال ، دون أدنى اعتبار للقيم الإنسانية والمسؤولية الاجتماعية والدور الحضاري .
وحينما جاء الإسلامُ أعطى كلّ ذي حق حقه ، وأنصف الفئات الضعيفة المنبوذة في المجتمع كالنساء . فصارت المرأةُ تمتلك الجرأةَ للمطالبة بحقها ، والسعي وراء تحصيله من مغتصبيه . وهذا ما كان ليحصل لَوْلا التشريع الإسلامي الذي رفع مكانةَ المرأة ، وأعطاها حقوقها المعنوية والمادية .
التعليقات (0)