الموقف العربي مابين تركيا وأرمينيا
شهدت زيورخ سويسرا يوم العاشر من اكتوبر الجاري توقيع اتفاق بين دولتي تركيا وأرمينيا لتطبيع العلاقات بينهما وكان التوقيع برؤوس أقلام كل من وزير خارجية البلدين بحضور ورعاية أمريكية روسية فاعلة على مستوى رفيع ...... ومن نافلة القول أن هذا الاتفاق لايحظى رغم كل ذلك بموافقة الشعب الأرمني أو الأوساط العلمانية التركية .
ودون الخوض في تفاصيل العلاقات التركية الأرمنية التي تعود إلى عهد الأتراك السلاجقة مرورا بالدولة العثمانية ومزاعم الأرمن بتعرض أسلافهم لمذابح على يد أسلاف الأتراك عام 1915م وما يسببه ذلك من توتر في العلاقات وعدم ثقة بين الطرفين مرده إلى إصرار الأرمن أن يعترف الأتراك بهذه المذبحة ويعتذروا عنها وفي المقابل رفض الدولة التركية العلمانية هذا المطلب من حيث المبدأ وحيث يجرم القانون فيها أية إشارة أو اعتراف أو مجرد مناقشة هذه المسألة داخل تركيا ..... لاسيما وأن العهد قد تقادم وبالتالي حتى لو سلمنا جدلا بوجود مذبحة فتلك أمم قد خلت لها ماكسبت وعليها ما اكتسبت وليس من مقتضيات العـدل الإنصاف أن يحاسب الأحفاد عن ما كان يفعله الأسلاف.
حتما يعز على تركيا الإسلامية أو العلمانية الاعتراف بمذبحة الأرمن والاعتذار عنها لأن ذلك لايعني إحراجا للمؤسسة العسكرية والنظام الأتاتوركي فحسب . بل يعني أكثر ما يعني حصول أرمينيا على الكثير من التعويضات المالية الباهظة وربما الجرأة على المطالبة بتنازلات تركية لاحصر لها منها على سبيل المثال توفير ممرات ومعابر دائمة عبر أراضيها معفاة من الرسوم للصادرات والواردات الأرمينية على اعتبار أن أرمينيا دولة قارية لا تطل على سواحل بحرية .. وكذلك غض تركيا الطرف عن ما يجري من خلاف بين أرمنيا وأذربيجان على أقليم "ناجورنو كاراباخ" الذي يقع داخل الحدود الأذربيجانية المعترف بها دوليا وتسكنه أغلبية أرمينية مما دفع أرمينيا بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي إلى احتلاله بالقوة عام 1992م .. ولاشك أن اليهود لابد سيطلون برأسهم ويحشروا أنوفهم حيثما تواترت إلى أسماعهم كلمة (تعويضات) . وهم حتى الآن يحتفظون في دفاترهم القديمة بورقة ضغط قوية في مواجهة تركيا مردها إلى أن هناك بضعة آلاف من اليهود الأرمن ستدعي إسرائيل في التوقيت المناسب أن بعض أسلافهم كانوا ضحايا مذبحة الأرمن المختلف عليها عام 1915م (مع رفع العدد إلى 6 ملايين) .. وهو ما يعني إجبار تركيا في هذه الحالة على الدخول في فخ دفع تعويضات لليهود والصهاينة بالمليارات على نسق ما يجري الابتزاز لألمانيا والنمسا وعديد من دول أوروبية .... وربما لن يمانع اليهود في هذه الحالة إذا اعتذرت لهم تركيا بخلو جيبها .. ربما لن يمانعوا في استلام التعويضات على هيئة ماء عذب وتسهيلات أمنية وقواعد عسكرية مجانية تهدد بها سوريا وتدخلها في كماشة رعب رادع على مدار الساعة.
إذن وعلى ضوء الحقائق والمعطيات المشار إليها أعلاه تتخذ تركيا قراراتها سواء أكان ذلك وفق قناعاتها الدينية ومصالحها الخارجية أو تشابكاتها الداخلية . فتركيا الآن وبعد أن كانت علمانية باتت خليط من الإسلام والعلمانية وتتجاذبها سلطة حاكمة إسلامية ومعارضة قوية علمانية وتدعم هذه الأخيرة المؤسسة العسكرية الأتاتوركية في ظل ديمقراطية هشة يجبرهم الاتحاد الأوروبي على احترامها.
ومن بين جميع ما تم إيضاحه فإن السؤال الذي ينبغي طرحه هنا هو : أين يكون الموقف العربي الصحيح المنطقي من هذه الأزمة وبحيث يحصل العرب على الفائدة القصوى المرجوة بعيدا عن ما اعتدنا عليه من سذاجة سياسية منعتنا في السابق ولا تزال من جني ثمار اختلاف الغير وبتنا كساقية جحا في كل الأحوال .....
وقبل أن نستغرق في أحلامنا العربية لابد من الإشارة إلى أن اليهود قد سارعوا إلى الصيد في الماء العكر واللعب على تناقضات الآخرين فأدرج الكنيست الإسرائيلي موضوع ما يسمى بالمجازر الأرمنية على جدول أعمال المرحلة المقبلة بهدف إقرارها كمجازر .
وبالنسبة للمصالح العربية الاستراتيجية فلاشك أننا وبمواجهة تركيا نتفق على المعطيات الآتية:
1) الدين الإسلامي.
2) المياه.
3) الجوار اللصيق.
4) مبادلات تجارية.
5) الرغبة في دعم توجهات حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم.
6) الرغبة في تحجيم العلاقات التركية الإسرائيلية وحرمان إسرائيل من قطف أية ثمار عسكرية أو غيرها لقاء هذه العلاقة التي شهدت فيما مضى تقارب ملحوظ .
وأما بالنسبة للعلاقات العربية الأرمينية فلا مناص من الإشارة إلى وجود عشرات الآلاف من ذوي الأصول الأرمينية هاجروا من بلادهم إلى الأراضي العربية ودخلوها إنشاء الله آمنين منذ عهود خلت ومتوزعين حاليا ما بين العراق وسوريا والأردن ولبنان ومصر .. منهم من إستعرب ومنهن من تزوجن بأعراب ومنهم من لايزال متشرنقا متمسكا بنزعته القومية ..... وقد كان للأرمن ولا يزالون حضور إيجابي في الحياة الاجتماعية العربية وتاريخ ناصع في مجال العمل المصرفي وثراء فني وإنتاج فكري غمروا به الساحة العربية الثقافية لاسيما من جانب أولئك اللذين استعربوا منهم .. وقد شارك البعض منهم في تولي حقائب المالية ووصل نوبار باشا الأرميني إلى منصب رئيس الوزراء في مصر ثلاث مرات على عهد أسرة محمد علي التي كانت تحكم مصر قبل عبد الناصر.
نحن العرب أهل نخوة ومروءة وكرم وجود وأخلاق حميدة لا نعرف ولا نتقن أو ربما لا نرغب أو نشتهي أحيانا كثيرة في ممارسة اللعب على حبل تناقضات الغير (مثلما يفعل اليهود) بهدف تحقيق أقصى معدل فائدة مرجوة وبما يكفل في الأجل البعيد مزيد من الأمن الإستراتيجي العربي القومي.... ربما تأبى ذلك طبائعنا المتأصلة وعاداتنا وتقاليدنا التي شذبتها وهذبتها لاحقا تعاليم الدين الإسلامي الحنيف..... ولكن بالرغم من ذلك فهناك مستجدات سياسية ويظل على العرب أن يتعلموا من أعدائهم وأصدقائهم شيئا إن لم يكن أشياء.
ولمجرد نثر المعطيات ونبال كنانتنا بين أيدينا فإنه بالإمكان تقرير الآتي:
1) أن العراق الآن وفي خضم إنشغاله بلعق جراحه وخوفه من مستقبل مرهون بتداعيات انسحاب قوات الغزو الأمريكي عما قريب. وبالتالي يرغب في هدوء على الجبهة الشمالية التي تربط بينه وبين تركيا .... كما أن الجفاف وتدني معدلات تدفق المياه القادمة من تركيا تؤرق منامه وتهدد أمنه الغذائي... ولا مجال لديه لممارسة ضغوط على تركيا وهو في هذه الحال من الضعف والوهن.
2) وهناك بالطبع الأصولية العربية المتغلغلة في نسيج المجتمع العربي برمته والتي لاشك أنها لن تفكر كثيرا في المفاضلة بين تركيا محمد الفاتح المسلمة ومهد الخلافة العثمانية ورجب طيب أردوغان من جهة .... وأرمينيا المسيحية الأرثوذكسية العضود صاحبة تاريخ أول دولة مسيحية على وجه الأرض من جهة أخرى.
3) سوريا وبلا جدال هي الدولة العربية التي عليها العين في هذا الشأن ..... ولاشك أن خياراتها الاستراتيجية تحتم عليها مزيد من التقارب مع تركيا .... وبالتالي فإن المطلوب منها (بدعم عربي قوي) أن تخرج المستفيد الأول من هذه التناقضات التركية الأرمنية وكذلك استغلال الميل الواضح لنظام رجب طيب أردوغان في تعديل العديد من مسارات العلاقات التركية الإسرائيلية.
ولاشك أن زيارة خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز الأخيرة إلى سوريا قد شكلت أساسا وتوجها حازما في دعم سوريا على تثبيت مناط خياراتها الوطنية العربية الاستراتيجية لمصلحتها أولا ثم مصلحة القضية العربية المصيرية فلسطين.
وبالتالي فإن على سوريا أولا أن تضع أمر صيانة علاقاتها البينية مع شقيقاتها العربيات نصب عينيها وأهمها بالطبع السماح بإنفراج سياسي في لبنان والعمل على رعاية وتعهد ثمار علاقتها المثمرة حتما مع السعودية وهي تتوجه نحو تركيا.
ولاشك أن كافة الحادبين على المصلحة العربية العليا قد أثلج صدرهم اجتماع حلب الوزاري الموسع بتاريخ 14/10/2009م الذي جرى مؤخرا وأثمر عن توقيع سوريا وتركيا عدة اتفاقات تمهد السبيل لتقارب كبير بين البلدين ..... ويأمل كافة العرب الآن بمن فيهم الوحدويون والقوميون الذين كانوا (على خلفية فوبيا التتريك) يعارضون التقارب العربي التركي من قبل .. يأملون في توسعة عضوية "المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي" ليشمل على أقل تقدير كافة بلاد الهلال العربي الخصيب والدول العربية الفاعلة السعودية ومصرإلى جانب سوريا وتركيا بطبيعة الحال لما في ذلك من فرص ذهبية لتحجيم علاقة سوريا بإيران ومنح تركيا فرصا أوسع للعب دور متناغم مع الحقوق العربية في صراعها مع الصهيونية والاستيطان اليهودي في أرض فلسطين العربية.
ومن ناحية أخرى فإن على العرب في كل الأحوال إعادة الثقة كاملة بتركيا أردوغان لمواقفها الصلبة الواقعية في مواجهة العربدة الإسرائيلية تجاه المواطن الفلسطيني الأعزل وأرضه . وحيث ندد رجب طيب أردوغان صراحة بالعدوان الإسرائيلي على غزة وجرائم الحرب التي ارتكبها قادة جيشها في هجومه الأخير.
ثم جاء الموقف التركي الحازم مؤخرا حين تعمدت إستبعاد إسرائيل من المشاركة في مناورات "نسر الأناضول" على الرغم من أن مشاركة إسرائيل كان متفق عليها مسبقا . وقد اتخذت الحكومة التركية هذا الموقف تعبيرا عن غضبها واستياءها من موقف إسرائيل المتعنت بشأن عملية السلام وجرائم الحرب التي ارتكبتها في غزة ...... وهذا القرار التركي بشأن إلغاء مشاركة إسرائيل في هذه المناورات العسكرية قد شكل ضربة قوية للجيش الإسرائيلي على اعتبار أن مناورات نسر الأناضول كانت تسمح له بتدريب الطيارين الصهاينة على عمليات تجري في منطقة جغرافية واسعة المجال لا تتوفر لهم في فلسطين.... ويبقى الإشارة إلى أن إبعاد تركيا لإسرائيل لم تكن تداعيته مجانية بالنسبة لتركيا فقد سارعت إيطاليا والولايات المتحدة بالإنسحاب من هذه المناورات احتجاجا على إبعاد إسرائيل ما أدى تأجيل المناورات برمتها إلى أجل غير مسمى . وبالطبع لم يكن هذا القرار الذي اتخذته تركيا ليرضي المعارضة العلمانية وكذلك المؤسسة العسكرية التي لا تزال تحتفظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل .... ولكن يبدو واضحا أنه قرار لا يستطيع اتخاذه سوى زعيم بحجم وقناعات وشجاعة وعنفوان رجب طيب أردوغان الذي يلتف حوله غالبية الشعب التركي حاليا وقد حقق لتركيا استقرارا سياسيا واقتصاديا منقطع النظير على الرغم من الصعوبات التي تحيط بكافة خطط النمو والازدهار في العالم.... كذلك لايمكن إغفال الشعبية الجارفة التي بات يحظى بها على مستوى الأمة الإسلامية قاطبة من شنغهاي وحتى كازبلانكا.
...... أخيرا ينبغي بالفعل التساؤل والتفكير فيما ما إذا كانت هناك بوادر لصياغة وتحقيق نمط حديث عصري واقعي للوحدة العربية ينبني على الاستراتيجيات الثابتة بدلا من الحماس وردود الأفعال الآنية وحدها أم لا ؟؟؟
التعليقات (0)