الموشح.. بين المشرق والمغرب
بقلم: خليل الفزيع
رغم كل ما تواتر من أدلة حول نسبة الموشحات للأندلس، فإن هناك من يتبنى فكرة نسبتها إلى شعراء من المشرق العربي، ويتركز هذا الجدل حول نص نسب إلى الشاعر العباسي المشرقي عبد الله بن المعتز الذي لا تربطه علاقة بالأندلس، ومطلع هذا النص هو:
أيها الساقي إليك المشتكى
قد دعوناك وإن لم تسمع
وفي بعض المصادر ( أيها الشاكي ) .
ولكن هذا الموشح ينسب إلى أبى بكر بن زهر المعروف بالحفيد وهو وشاح أندلسي معروف؛ وممن يؤيد نسبة الموشحات إلى المشـرق كامـل كيلانـي في كتابه "نظرات في تاريخ الأدب الأندلسي" وآخرون اعتمدوا على أدلة ضعيفة في هذا الشأن، وقد فنـدها الـدكتور محمـد زكريا عنـاني في كتابـه:
"الموشـحات الأندلسـية" بقوله: ( والحقيقة التي لم ينتبه لها كامل كيلاني ومـن تابعه في رأيه هذا أن كل الاعتبارات تقـود إلى رفض نسبة هذه الموشحة لابن المعتز، والى القول بأنها أندلسية التأليف على النحو الذي تؤكده مصادر عديدة) وذكـر مجموعة من هذه المصادر من أمهات الكتب العربية المعروفة.
وللدكتور احمد هيكل رأى سـابق في هذا الشأن ورد في كتابه "الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة" أكد فيه أن الموشحات هي اختراع أندلسي بقوله: ( ولعل من تمام الحديث أن نشير إلى أن بعض الباحثين قد فهم أن مخترع الموشحات هو الشاعر العباسي عبد الله بن المعتز، والسبب فى هذا الفهم أن موشحة قد وردت فى الديوان المطبوع لهذا الشاعر العباسـي، وقد كان ابن المعتز معاصـرا لمقدّم بن معافى، وليس بين أيدينا شيء من موشحات هذا الأندلسي، على حين يحتـوى ديوان ابن المعتز على موشحة، فكل هذا قد أوهم أن ابن المعتز هو صاحب الموشحة الواردة فى ديوانه، وإنما هي لشاعر أندلسي وشاح هو ابن زهر الحفيد، وقد وردت هذه الموشحة منسوبة إلى هـذا الأندلسي في كثير من المصادر الموثوق بها مثل "جيش التوشيح" لابن الخطيب و"المُغرب" لابن سعيد و"معجم البلدان" لياقوت، و"طبقات الأدباء" لابن أصيبعة، وهناك شيء آخر ينفي نسبتها لابن المعتز، وهو أن نظام تلك الموشحة وأسلوبها وروحها موافقة كلها لموشحات أخـرى أثرت عن هذا الشاعر الأندلسي، على حين لا يعرف لابن المعتز شيء من الموشحات التي ترجح نسبة هذا النص إليه، ومما يؤيد ما تقدم، أن أحدا من الذين كتبوا عن ابن المعتز أو ترجموا لـه لم يذكر أنه كان وشـاحا، وأخيرا لو كان ابن المعتز صـاحب هذه الموشحة، لشاع عنه في المشرق هذا الفن) .
وقد أكد كل من كتب عن الموشحات من المتقـدمين أنها اختراع أندلسي، ومنهم ابن بسـام في كتابه "الذخيرة" الذي قال بأن: ( صنعة التوشيح هي التي نهج أهـل الأندلـس طريقتها ووضعوا حقيقتها).
والمعروف أن الموشحـات لم تكن جميعهـا بلغة عربية فصيحة، بل تسرب إليها خليط من اللهجات المحلية والكلمات الأجنبية، وقد نشأت في أحضان الترف الذي ازدهـر في أجوائه الغناء والموسيقى، وكان أبرز نجومه في تلك الفترة زرياب الذي انتقل إلى الأندلس من بغداد في ظروف اختلف المفسرون فى روايتها.
أما الأسماء التي أتقنت فن الموشحات، وأخذت بنصيب وافر في مجاله، فهي كثيرة، لكـن أبرزها عبادة بن ماء السماء، وابن عبادة، والقزاز، وابن اللبانة، والكميت البطليوسي، وابن عيسى المرسي الخباز، والأعمى التطيلي، وأبو بكر الأبيض، وأبو عبد الله بن شرف، وابن مالك السرقسطي، وابن زهر الحفيد، ومحيي الدين بن عربي، وابن سهيل الاشبيلي، ولسان الدين بن الخطيب، وابن زمرك، واللخمي الغرناطي وغيرهم، ممن اشتهروا بنظم الموشحات أو روايتها.
وقد أورد الـدكتور سيد غـازي الـذي حقق "ديوان الموشحات الأندلسية" ذكر عددا من الوشاحين بلغ سبعين وشاحا، فضلا عن المجهولين، وأورد ما مجموعة ( 447 ) موشحة ما بين كاملة ومقطوعة ضمتها صفحـات هذا الكتاب في جزأين زاد عدد صفحاتهما عن (1300) صفحة.
أما عن نشأة الموشحات في ربوع الأندلس فيقول الدكتور سيد غازي في المقدمة التي كتبها لكتابه "ديوان الموشحات الأندلسية": ( شهدت الأندلس منذ أواخر القرن الثالث وحتى نهاية العصر الغرناطي، وعلى مدى ستة قـرون تقريبا، أكبر حركة من حركات التجديد في تاريخها الأدبي، فقد استوحت من المسمطات الشرقية فنا جديدا من فنون الشعر الدوري هو فن الموشح، ومضت ترعى هذا الفن الناشئ وتعمل على توطيد أركانه حتى استوى في أنماطه المبتكرة التي جعلت منه فنا مستقلا له قواعده وأصوله، وهي أنماط لم تنفصل عن الغناء، بل تخلق أكثرها بين أنغامه وألحانه، وتأثرت به وأثرت فيه، وأتيح لها بفضلـه أن تذيع في أنحاء الأندلس والمغرب، وأن يتلقفها الشرق مـن المرتحلين إليـه منذ أواخر القرن الخامس، ولم يلبث أن أعجب بها المشارقة، فجمعوها وحـاكوها، وحاولـوا أن يولدوا فيها أنماطا جديدة ).
وبذلك كانت نشأة هذا الفن الجديد من فنون الشعر في الرحاب الأندلسية من الحقائق التي سلم بها معظم من أرخوا للموشحات ، أما الموشحة فهي:
أيها الساقي إليك المشتكى
قد دعوناك وإن لم تسـمعِ
ونديم همـت فى غرّته
وشـربت الراح من راحته
كلما اسـتيقظ من سـكرته
جــذب الـزق إليـه واتكا
وسقانـي أربعـا فـي أربـعِ
غصن بان مال من حيث استوى
بات من يهواه من فـرط الجـوى
خافـق الأحشـاء موهـون القـوى
كلمـا فكـر فى البـين بكى
ويحـه يبكـي لمـا لم يقـعِ
ما لعيني عشيت بالنظـرِ
أنكرت بعـدك ضوء القمـرِ
وإذا ما شئت فاسمع خبري
عشيت عيناي من طول البكا
وبكى بعضي على بعضي معي
ليس لي صـبرٌ ولا لي جلدُ
يا لقومي عذلوا واجتهدوا
أنكروا شكواي ممـا أجدُ
مثل حالي حقها أن تشتكى
كمد اليـأس وذل المطمعِ
كبد حـري ودمـع يكـفُ
يعرف الذنب ولا يعترفُ
أيها المعـرض عمـا أصفُ
قد نما حبك عندي وزكا
لا تخـل في الحب أني مدعِ
التعليقات (0)