مواضيع اليوم

الموت من منظور طرفة بن العبد

إبراهيم أبو عواد

2013-11-15 10:35:52

0

 الموت من منظور طرفة بن العبد

 

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

 

صحيفة قاب قوسين الإلكترونية 13/11/2013

 

     إن الموتَ يُمثِّل قيمةً أساسية في الحياة . ولا نُبالِغ إذا قُلنا إن الموت هو الحياة الحقيقية . ولا يوجد إنسان لا يؤمن بالموت ، أو لا يُفكِّر به . والإنسانُ قد تنهار عقيدته فَيَجْحد وجودَ الله تعالى، ولكنْ لا يمكنه أن يَجحد وجودَ الموت . إذن ، فالموتُ هو حَجر الزاوية في البناء البشري .

 

     والشعراءُ _ باعتبارهم أكثر المخلوقات حساسيةً والتقاطاً لعناصر الطبيعة _ لا يَقدرون على الإفلات من  " إغراء الموت " حتى لو أرادوا ذلك. وهذا يُفسِّر ذِكرَ الموت في أشعارهم ، وجعل الفلسفات والمناهج الفكرية تَدور حَوْله . فالموتُ مجالٌ خصب للتأمل في النهاية ، والأحزان ، والفِراق ، ... إلخ .

     والشاعرُ طرفة بن العبد_ وهو أحد شعراء المعلَّقات _ اعتنى بموضوع الموت ، واستمدَّ منه فلسفةً للحياة ، ومنهجاً فكرياً للإنسانية . وقد عبَّر عن فكرة الفناء ، وعدم الخلود في الدنيا ، وعدم المبالاة بالموت ، وضرورة أن يَعيش المرءُ حياته بالطُّول والعَرْض ، وأن يَستمتع قَدْر المستطاع لأنه لن يَعيش إلا مرة واحدة فقط . ولا يَخفى أن آراء الشاعر مستمدة من خبراته الحياتية ، ومكنوناته النَّفسية .

     والدنيا دارٌ زائلة لا يمكن أن تَمنح الخلودَ للعناصر. ففاقدُ الشيء لا يُعطيه. وبما أن الدنيا ذاتها غير خالدة ، إذن فلا خلود فيها . إنها فانيةٌ هِيَ ومحتوياتها. والناسُ يَرون الموت والأموات كلَّ يومٍ رأي العَيْن ، فلا مجال للتكذيب أو الشك. وكلُّ إنسان مهما تطاول عُمرُه ، لا بد أن يُحمَل يوماً ما إلى المقبرة . وهذا الأمرُ من كثرة ما اعتاد عليه الناسُ، صار أمراً عادياً لا يُحرِّك المشاعرَ ، ولا يُثير مكنوناتِ الصدور. فالاعتياديةُ تَجعل الإنسانَ أعمى، وعاجزاً عن رؤية الأشياء بعين البصيرة ، وغارقاً في نظام حياتي روتيني مغلَق .

     ونحن نجد الشاعر طَرفة بن العبد يشير إلى قضية " اللاخلود " فيقول :

 

ألا أيُّهذا اللائمي أَشهد الوَغَــى          وأن أنهلَ اللذاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي

 

     يقول: ألا أيها الإنسان الذي يُلومني على حضور الحرب، وحضورِ الملذات، هل تخلِّدني إن كففتُ عنها ؟ .

     إن الشاعرَ يُؤْمن بعدم الخلود في الدنيا . وسواءٌ شاركَ الإنسانُ في الحرب أم نام في بَيْته ، ففي كلا الحالتين لن يَنعم بالخلود . لذلك فهو يُريد أن يَعيش حياته على هواه بلا ضوابط ، ويَستمتع بكل لحظة ، ويَفعل ما يَحلو له. ففي كل الحالات ، هُو غير خالد ، والموتُ قادمٌ لا محالة ، والمسألةُ مسألةُ وقتٍ لا أكثر ولا أقل . وهذه القناعةُ لم تُكسِب الشاعرَ إحساساً بالمسؤولية ، بل على العكس ، أغرقته في اللامبالاة واللاجَدْوى ، وأكسبته شعوراً بالعَدَم والضياع . وبما أن الموتَ قادمٌ ، والخلود متعذِّر ، فلماذا لا يستمتع بحياته ويشارك في الحرب ويَصنع مجدَه الشخصي ومجدَ قبيلته ويَنهل من اللذات قبل أن يداهمه الموت ؟! .

     إنها رُوحٌ جاهلية وثنية تَعتبر الموتَ نقطة النهاية ، ولا شيء بعدها. وبالتالي ، لا بد من استغلال الحياة الدنيا في الاستمتاع ، وتحقيق رغائب النَّفس كاملةً غير منقوصة . ومن الواضح أن سلوكَ الشاعرِ العابثَ قد سَبَّبَ له المتاعبَ ، وجلبَ له الانتقاداتِ والعتابَ . وبالطبع ، فإن الشخص الذي يَرى التصرفاتِ الطائشة للشاعر لا بد أن يَلومه . وهذا اللومُ يَنبع من تطبيقات العقل الجمعي ، ويَنطلق من فلسفة اجتماعية سائدة تتطلب التوازنَ في أداء الأعمال، وتحمُّلَ المسؤولية، واحترامَ قيمة الحياة ، وعدم تضييعها في اللذات الوقتية ، والسلوكياتِ غير المحسوبة .

     ومن الواضح أن الشاعر طرفة بن العبد يؤسس فلسفته الخاصة بالموت وملابساته ، وما يُرافقه من أحداث فكرية أو مادية واقعية . وها هُوَ يقول :

 

فإنْ كُنتَ لا تسطيعُ دَفْعَ مَنِيَّتي          فَدَعْني أُبادِرْها بما مَلَكَتْ يدي

 

     إن الشاعر يَبني فلسفته الذاتية حول فكرة " استحالة دفع الموت " ، لكنه يُحيط هذه الفكرة الصحيحة بسلوكيات خاطئة وتطبيقاتٍ سلبية. فالشاعرُ يرى ضرورةَ الغرق في الملذات والشهوات بلا حساب ، لأن الموت قادمٌ بشكل مؤكَّد لا شك فيه . فبدلاً من أن يصبح الموت باعثاً على الزهد والاستقامة ، يصبح باعثاً على اللامبالاة والعبث والتبذير . وهذه هي فلسفة طرفة بن العبد التي بثَّها في أشعاره .

     يقول طَرفة : فإن كنتَ لا تستطيع أن تدفع مَوْتي ، فدعني أُبادر الموتَ بإنفاق أملاكي .

     إنه في سِباق مع الموت ، ويُريد أن يُسابق الموتَ قبل أن يُباغته . وهكذا تتجلى روحُ المبادَرة ، مُبادَرة الموت واقتحام عالَمه ، وذلك بإضاعة الممتلكات ، وتبذير الأموال، والاستمتاع بالملذات إلى الدرجة القُصوى. فالموتُ سيتلفُ أملاكَ الشاعر ، ولن يُبقيَ له شيئاً . لذلك يَحاول الشاعرُ أن يَسبق الموتَ ، ويأخذ على عاتقه إتلاف أمواله بنَفْسه ، وعدم منح الموت هذه الفرصة .

     والمنهجيةُ الفلسفيةُ المسيطرة على الشاعر في هذا السياق هي أن الموت لا بد منه ، فلا معنى للبخل ، وتركِ الملذات ، وإدارةِ الظَّهر للشهوات . فعلى المرء أن يَستمتع بالحياة ولذاتها بكل الوسائل المتاحة ، فالغايةُ تبرِّر الوسيلةَ ، والإنسانُ لن يَعيش مرةً أُخرى ، فعليه اغتنام هذه الفرصة قبل فواتها . فالمتعةُ إذا ذَهبت لن تَعود . وهكذا يُصبح الموتُ حافزاً على الغرق في الشهوات بلا ضوابط ، وليس حافزاً على العمل المثمر ، وسلوكِ الطريق القويم .

 ومن الملاحَظ أن فلسفةَ طَرفة بن العبد تنطوي على ردة فعل عكسية . فالمفروضُ أن يَقطعَ الموتُ لذاتِ النفوس ورغباتها ، ويدفعَ إلى الصلاح والخير ، باعتباره هادمَ اللذات ، ومفرِّق الجماعات ، وميتِّم البنين والبنات . أمَّا في حالة طَرفة ، فقد تحوَّلت صدمةُ الموت إلى مزيد من الشهوانية والعبث واللاجَدْوى. ففي بعض الأحيان، يؤدي النُّورُ الباهر إلى العَمى لا قوة الإبصار. كما أن كَثرة الشَّد يُرخي . وهذا ما نراه جلياً في فلسفة طَرفة المتعلقة بالموت ، وتطبيقاتها الشعرية .

https://www.facebook.com/abuawwad1982




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !