الموت من منظور الإسلام . للمفكر / إبراهيم أبو عواد .
أ _ قضاءٌ محتوم :
قال الله تعالى : (( كُل نَفْسٍ ذَائقةُ الموت )) [ آل عمران : 185] .
كل النفوس سوف تتجرع كأسَ الموت وتصارع غُصّاتِه . فلن تنجوَ أيةُ نَفْس من الموت ، فمصيرها المحتوم إلى الفناء . وفي هذا إشارة بالغة إلى أن النفوس مقهورة خاضعة للسُلطة الإلهية العُليا المطلقة التي تتحكم في كل شيء. واللهُ تعالى هو المسيطر على هذه النفوس، فقد وضع لها آجالاً لا يمكن للمخلوقات تجاوزها .
وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 577 ) : (( فهو _ تعالى _ وحده هو الحي الذي لا يموت ، والجن والإنس يموتون ، وكذلك الملائكة وحملة العرش ، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء ، فيكون آخِراً كما كان أولاً ، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت )) اهـ .
والجدير بالذكر أن لفظة [ ذَائقة ] تدل على صورة تشبيهية للموت ، وكأنه طعام أو شراب لا بد من تذوقه وعندئذ يُعرَف طَعْمُه المر . وكل الخلائق قادمةٌ لتذوقه رغماً عنها . فلا مهرب من الموت . وكل ينتظر دورَه . والموتُ شاملٌ عام لا يُفلِت من قبضته أَحد . وليس بدعةً تصيب البعضَ وتترك البعضَ الآخر . فالموتُ يصيب الجميعَ بلا استثناء .
وكما قال طرفة بن العبد :
تمنى رِجالٌ أن أموت وإن أَمُت
فتلكَ سَبيلٌ لَسْتُ فيها بأوحد
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره ( 3/ 240 ) أن الإمام الشافعي _ رضي الله عنه _ كان يُنشد هذا البيت ويستشهد به . وقد روى ذلك أيضاً ابن حبان في روضة العقلاء ( 1/ 287 ) .
وقال الله تعالى : (( وما كان لِنَفْسٍ أن تموت إلا بإذن الله كِتاباً مُؤَجلاً )) [ آل عمران : 145] .
فكل نفسٍ لا تموت إلا بإذن الله تعالى الذي وضع وقتاً محدداً لخروج الروح من الجسد . وهذا الوقتُ المعيّن موجود في علم الله تعالى المحيطِ بكل الأزمنة والأمكنة . فإذا انقضى الأجلُ فارقت الروحُ الجسد بأمر الله تعالى ، أما إذا لم تحن ساعة الوفاة فلا يحصل الموتُ .
وقال الطبري في تفسيره ( 3/ 459 ) : (( وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله اللهُ غايةً لحياته وبقائه ، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه اللهُ له وأذن له بالموت ، فحينئذ يموت ، فأما قبل ذلك فلن يموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال )) اهـ .
وهذه الحقيقة الثابتة تبعث في النفس البشرية الطمأنينة، وتحضّها على العمل باجتهاد وشجاعة، لأن الموت بيد الله وحده، لا بيد الأعداء . وكَم من قائد قضى حياته في المعارك مُقاتِلاً ثم مات على فراشه . وكَم مِن جبان قضى حياته هارباً من المعارك ، لكن ذلك لم يمنعه من الموت . ومات حَتْفَ أنفه ( من غير قتل ولا ضرب ) . وكما قال المتنبي :
ولو أن الحياةَ تَبْقَى لحـــي
لعدَدنا أضَلنا الشجعــــانا
وإِذا لم يكنْ من الموتِ بـُــد
فمن العجزِ أن تمــوتَ جبانا
[معنى البيتَيْن : لو كانت الحياةُ خالدةً دائمة بلا موت لكان أغبى الناس وأضلهم هم الشجعان الذين ضحوا بحياتهم . وبما أن الموت لا بد منه ولا مفر منه ، فمن العجز أن يموت الإنسانُ جباناً . لأن كل الناس سيموتون . فلماذا لا يموت الإنسانُ شجاعاً ما دام الموتُ لا يُفرِّق بين شجاع وجبان ؟ .].
وقال الله تعالى : (( قُل لو كُنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم )) [ آل عمران : 154] .
أي لو كان المؤمنون في بيوتهم آمنين مطمئنين لخرج الذين كُتب عليهم القتل إلى الأماكن التي سيُقتَلون فيها ، لأن قَدَر الله تعالى لا يُرَد . والإنسانُ الذي كُتب عليه الموت سيذهب إلى الموت بقدمَيْه ، فالقضاءُ والقَدَر نافذان في كل شيء ، ولا يمكن رَدّهما أو تجاوزهما أو التحايل عليهما ، فالإنسانُ يدور في مدار مغلَق مركزه الجاذب هو الموت ، ولا يمكن الإفلات منه إطلاقاً .
وروى الطبري في تفسيره ( 3/ 482) أن الحسن قال في تفسير الآية : (( كتب اللهُ على المؤمنين أن يُقاتِلوا في سبيله ، وليس كل مَن يُقاتِل يُقتَل ، ولكن يُقتَل من كتب اللهُ عليه القتلَ )) .
وقال الله تعالى : (( أينما تكونوا يُدْرِككم الموتُ ولو كُنتم في بُروجٍ مُشيدةٍ )) [ النساء : 78].
فالموتُ قادمٌ لا محالة ، لا يحتاج إلى خارطة أو بوصلة لمعرفة طريقه ، ولا يمكن رَدّه بوضع حواجز أو حراس شخصيين . ولو كان الإنسانُ في حصونٍ منيعة أو قلاعٍ محروسة ، فإن الموت سيأتيه حينما يحين الأجلُ المكتوب الذي لا يعلمه إلا اللهُ تعالى . وكما قال الشاعر :
ومن هابَ أسبـابَ المنايا يَنَلْنَهُ
وإِن يرقَ أسبابَ السماءِ بسُلّمِ
وقال الطبري في تفسيره ( 4/ 174 ) : (( يقول : لا تجزعوا من الموت ، ولا تهربوا من القتال وتضعفوا عن لقاء عدوكم حذراً على أنفسكم من القتل والموت ، فإن الموت بإزائكم أين كنتم وواصل إلى أنفسكم حيث كنتم ، ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة )) اهـ .
وفي واقع الأمر فإن الموت هو الحارس الشخصي للإنسان ، فإذا لم تحن ساعة وفاته فلا أحد يقدر على قتله ، أما إذا حانت ساعة الموت فكل الخلائق لا تقدر على حماية حياته .
وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 2/ 137 ): (( قوله تعالى:[ أينما تكونوا يُدْرِككم الموتُ ] سبب نزولها أن المنافقين قالوا في حق شهداء أُحد لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتلوا فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ومقاتل )) اهـ .
وقال الله تعالى: (( قُل إن الموت الذي تَفِرون مِنه فإنه مُلاقيكم ))[ الْجُمُعة : 8].
فلا يمكن الفرارُ من الموت. أما محاولات البعض الهروب من الموت_ حسب تفكيرهم القاصر_ فهي محض عبث ، لأن الموتَ قادمٌ ، وسيُلاقي الناسَ وجهاً لوجه فلا يترك لهم فرصةً للهرب أو الإفلات . فالقَدَرُ المحتوم نازلٌ بالناس لا محالة ، ولا تنفع معه وسائل الحراسة أو الاختباء .
وقال الله تعالى : (( وَلَن يُؤَخرَ اللهُ نَفْساً إذا جاء أَجلُها )) [ المنافقون : 11] .
إن الله تعالى لن يؤخر نفساً إذا حان وقتُ وفاتها . لن يُعطيَها فرصةً أخرى أو عمراً آخر أو فترةً إضافية . فالأجلُ المحتوم إذا حان وقتُه فارقت الروحُ الجسدَ ، ومات الإنسانُ في الوقت الذي قَدّره اللهُ له دون زيادة أو نقصان . وهذا يدحض عقيدةَ الفوضى والعبث والصدفة التي تتجلى في قول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى :
رأيت المنايا خَبطَ عشواءَ من تُصبْ
تُمِتْـهُ وَمَـنْ تُخطـئ يُعَمّرُ فيهرَمِ
فهو يقرر أن الموت يصيب الناس على غير نسق وترتيب وبصيرة . وهذه عقيدة تُضاد العقيدة الصحيحة ، وهي أن الله تعالى يقبض أرواح من يشاء إذا انتهت أعمارهم المكتوبة . لكنّ البيئة الجاهلية الوثنية التي عاش فيها زهير بن أبي سلمى أصابَتْه بلوثتها .
وقال الله تعالى : (( وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أفإن مِت فهم الخالدون )) [ الأنبياء : 34] .
أي : وما جعلنا لبشرٍ من قبلك يا محمد الخلودَ في الدنيا . فإذا مِت فهل الذين بعدكَ سيحصلون على الخلود ؟ . فكل الخلائق سائرة نحو الموت . والقضيةُ مسألة وقتٍ ، حيث ينتظر الإنسانُ دَوْرَه كي يتجرع كأسَ الموت .
وهذه الآيةُ العظيمة هي التي ثَبّتت أبا بكر الصِّديق _ رضي الله عنه _ ساعة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم . وذلك أن أبا بكر الصديق _ رضي الله عنه _ أتى البيتَ الذي تُوُفيَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وهو مُسَجى ، فنظر إليه فَأَكَب عليه لِيُقَبل وجهَه، وقال: (( واللهِ لا يجمع اللهُ عليكَ موتتَيْن بعد موتكَ التي لا تموت بعدها ))، ثم خرج إلى المسجد ، وعمر يُكلم الناسَ ، فقال أبو بكر : (( اجلسْ يا عمر )) ، فأبى فَكَلمه مَرتين أو ثلاثاً ، فأبى ، فقام فتشهد ، فلما قضى تشهده قال : (( أما بعد ، فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات ، ومن كان يعبد اللهَ فإن الله حي لا يموت ثم تلا : [ وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ] ... )) .
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 323 ) برقم ( 3162 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
وهذا يشير إلى عظمة القرآن الكريم في تثبيت النفوس عند الشدائد ، وبثِّ الروح المعنوية في الأفراد والجماعات عند الأزمات الصعبة ، من أجل أن يظلوا متماسكين بدون انهيار أو بلبلة . فاللحظاتُ العصيبة هي الكاشفة عن معادن الرِّجال ورباطةِ جأشهم .
وقال الله تعالى : (( وجاءت سَكْرةُ الموت بالحق ذلك ما كُنتَ مِنه تَحيد ))[ ق : 19] .
وجاءت شدةُ الموت وغمرته التي تغلب على عقل الإنسان بالحق الساطع الذي لا يُنكَر . فالمرءُ سوف يرى الأشياء التي كان يسمع عنها عياناً ، فتصبح الغيبياتُ واقعاً محسوساً كعالَم الشهادة . وهذا ما كنتَ تهرب منه وتَفزع .
وعن القاسم بن محمد يُحدث ، وتلا قول الله _ عز وجل _ : [ وجاءت سَكْرةُ الموت بالحق ذلك ما كُنتَ مِنه تَحيد ] ، ثم قال : حَدثتني عائشة أم المؤمنين _ رضي الله عنها _ قالت : لقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت ، وعنده قدحٌ فيه ماء ، وهو يُدخِل يَدَه في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول : (( اللهم أَعِني على سكرات الموت )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 505 ) برقم ( 3731 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي . ].
فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أعظم مخلوقات الله تعالى يعاني من سكرات الموت . واللهُ تعالى قادر على تخليصه منها . ولكنْ في ذلك زيادة في الأجر والإيمان والمكانةِ الأُخروية. وأيضاً لكي يصبر المؤمنون الذين يتخذون من النبي صلى الله عليه وسلم قدوةً لهم ومُعلماً، فيسيرون على دربه في الإيمان والصبر وقوةِ التحمل. فالمعلمُ حينما يتطابقُ قولُه مع فعله فإنه سيكون بالغ التأثير في أتباعه ، أما إن كان منفصلاً عنهم في عالَمه الخاص ، فعندئذ سيحصل الشرخُ ، ويختفي التأثير .
وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 8/ 12) : (( قوله تعالى : [ وجاءت سَكْرةُ الموت ] وهي غمرته وشدته التي تغشى الإنسانَ ، وتغلب على عقله ، وتدله على أنه ميت .[ بالحق ] وفيه وجهان : أحدهما أن معناه جاءت بحقيقة الموت ، والثاني : بالحق من أمر الآخرة فأبانت للإنسان ما لم يكن بَيناً له من أمر الآخرة )) اهـ .
وعن عائشة قالت : كنتُ عند أبي بكر حين حَضَرَتْه الوفاة فتمثلتُ بهذا البيت : ( من لا يزال دمعه مقنعاً يوشك أن يكون مدفوقاً ) ، فقال : (( يا بُنَية، لا تقولي هكذا، ولكن قولي : [ وجاءت سَكْرةُ الموت بالحق ذلك ما كُنتَ مِنه تَحيد ] )).
[رواه ابن حبان في صحيحه ( 7/ 308 ) برقم ( 3036 )، وأبو يعلى في مسنده ( 7/ 429) برقم ( 4451 ).وقال الهيثمي في المجمع ( 3/ 113) عن إسناد أبي يعلى:(( رجاله رجال الصحيح)).].
وهذا التوجيهُ من أبي بكر الصديق _ رضي الله عنه _ يدل على رجاحة عقله ، وقدرته على استحضار الآيات القرآنية ومعانيها ، حيث إنه يعيش معها ، ويتخذها مصباحاً منيراً في حياته . وعلى الرغم من حالته الصعبة ( الاحتضار ) إلا أنه استحضر المعاني القرآنيةَ السامية المتعلقة بأهوال الاحتضارِ ، وسكراتِ الموت . مما يدل على أن القرآن الكريم كان دستورَه في حياته ، وعند لحظات وفاته .
أما السيدة عائشة _ رضي الله عنها _ فتمثلت ببيت من الشِّعر معناه أن مَن كان دمعُه مُقنعاً مخفياً يوشك أن يصير مصبوباً مكشوفاً . وفي هذا معنىً للألم والحزن والتأثر . لكن تأثير القرآن الكريم لا يجاريه تأثير . لذلك حَضّها والدُها على تلاوة الآية القرآنية لا بيتِ الشِّعر .
ب _ لكل أُمة أَجَلٌ محتوم :
قال الله تعالى : (( وَلِكُل أُمةٍ أَجَلٌ فإذا جاء أَجلُهم لا يَستأخرون ساعةً ولا يَستقدمون )) [ الأعراف : 34] .
كل أُمةٍ لها وقتٌ محدّد لنزول العذاب بها أو موتهم . وهذا الأجلُ المحتوم المعيّن لا يتأخر ولا يتقدم .
وقال الله تعالى : (( وَإِن مِن قَرْيةٍ إلا نحن مُهلِكوها قبل يوم القيامة أو مُعَذبوها عذاباً شديداً )) [ الإسراء : 58] .
فكل قريةٍ لا بد من هلاكها قبل يوم القيامة . فالقريةُ الصالحة تُهلَك بالموت ، أما الطالحة فتُهلَك بالعذاب . والمقصود بالقرية في الآية هم أهلُها.
[هذا الأسلوب القرآني شبيهٌ بأسلوب الآية : (( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ التِي كُنا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنا لَصَادِقُونَ ))[ يوسُف : 82 ] . أي اسأل أهلَ القرية ، وحُذفت " أهل " للبلاغة ، كما أن (( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ )) مجاز مرسل علاقته المحلية . ].
فالفناءُ مكتوبٌ على الأشياء ، وهو أمرٌ حتمي لا مفر منه .
وقال الله تعالى : (( فهل تَرى لهم مِن بَاقيةٍ )) [ الحاقة : 8] .
قال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 530 ) : (( أي : هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أو ممن ينتسب إليهم ؟، بل بادوا عن آخرهم ، ولم يجعل اللهُ لهم خَلفاً )) اهـ.
وتتجلى قدرةُ الله تعالى غير المحدودة في استئصالهم ، ومحوهم عن بكرة أبيهم ، واجتثاثهم ، فلم يعد لهم أثر ، وصاروا أحاديث في المجالس بعد أن ملأوا الدنيا ضجيجاً ومجداً زائفاً . فالعاقلُ من اتعظ بغيره ، والجاهلُ من اتعظ بنفسه .
والعذابُ الإلهي لا يحتمل المزاح أو المراوغة أو التحايل ، ولا يمكن امتصاصه ، لأن الصدمة النازلة على القوم المستحقين للعذاب تكون قاصمةً لا تُبقي ولا تَذر . فالأمرُ في منتهى الجدية ، وليس أزمةً طفيفة عابرة . فالعذابُ هو عملية اجتثاث استئصالية ماحية تأتي كعقوبة مستحقة على أقوام لم يكتفوا برفض الإيمان، بل حارَبوه بشتى الوسائل وبكل الإمكانيات ، وقاموا بالاعتداء على المؤمنين والتضييق عليهم . وكل هذا بعد أن أُقيمت عليهم الْحُجّة ، واتضح لهم الحق من الباطل . وبالتالي فهم مستحقون للعذاب . (( وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين )) [ الزخرف : 76].
ج _ ساعة الاحتضار :
إن ساعة الاحتضار بالغة الصعوبة . وهي لحظاتٌ شديدة الوطأة لن يثبت فيها إلا من ثَبته اللهُ تعالى . وقد عبّر القرآنُ الكريم عن هذه الساعة ، ووضّح أبعادَها التي من شأنها بث الاعتبار في نفس السامع ، لأن المشهد الذي تصنعه الآياتُ يستجلب انتباهَ الإنسان وينقله إلى عالم الاحتضار الصارم .
قال الله تعالى : (( فلولا إذا بَلغت الْحُلْقومَ )) [ الواقعة : 83 ] .
وهذا مشهدٌ تصويري لحالة الاحتضار الشديدة حيث تبلغُ الروحُ الحلقَ أثناء خروجها من الجسد . وكأنها لا تريد مفارقةَ الجسد . وفي هذا إشارة بالغة إلى هول الموقف ، ولحظاتِ الاحتضار العصيبة التي يعاني فيها الإنسانُ ، ويتكبد المشاق العظيمة . وفي تلك اللحظات لا ينفع الرصيدُ البنكي ، ولا قوة القبيلة ، ولا كثرة الأتباع . فالإنسانُ يكون في أشد أنواع الوحدة .
وقد قال حاتم الطائي في تصويره لشدة خروج الروح من البدن ( الحشرجة ) :
أَمَاوِيّ ومَا يُغْنِي الثرَاءُ عَن الْفَتَــى
إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وَضَاقَ بِهَا الصدْرُ
وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : جاء رَجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله ، أَي الصدقة أعظم أجراً ؟ ، قال : (( أن تَصَدق وأنتَ صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلتَ: لفلان كذا، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان )).
[متفق عليه. البخاري ( 2/ 515 ) برقم ( 1353 )،ومسلم ( 2/ 716 ) برقم ( 1032). وفي شرح النووي على صحيح مسلم ( 7/ 123): (( فمعنى الحديث أن الشح غالب في حال الصحة فإذا شَح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره ، بخلاف من أشرف على الموت وآيس من الحياة ورأى مصير المال لغيره فإن صدقته حينئذ ناقصة بالنسبة إلى حالة الصحة والشح... ومعنى بلغت الحلقوم : بلغت الروح . والمراد قاربت بلوغ الحلقوم ، إذ لو بلغته حقيقةً لم تصح وصيته ولا صدقته ولا شيء من تصرفاته باتفاق الفقهاء )) .].
فعلى الإنسان أن يسارع في عمل الخيرات قبل أن تبلغ الروحُ الحلقومَ ، ويبدأ حينئذ بالحسرة وتمني تدارك ما فاته من أعمال البِر . فما دام في العمر فسحةٌ فعلى المرء أن يستغلها على أكمل وجه قبل أن يغرق في الاحتضار ، وتفارق الروحُ البدنَ ، ويصبح في عِداد الموتى الذين انقطعت أعمالهم ، وحان وقتُ حصاد ما زرعوه ، دون أية فرصة للتعويض .
وقال الله تعالى : (( كلا إذا بَلغت التراقِيَ )) [ القيامة : 26] .
[قال السيوطي في الإتقان ( 1/ 548 ) : أضمر الروحَ أو النفسَ لدلالة التراقي عليها .].
وهذا مشهدٌ بالغ الصعوبة ، حين تبلغ الروحُ أعالي الصدر في طريق خروجها من الجسد . فهذه الصورةُ المعبِّرة عن الاحتضار تجعل المستمعَ يتابع حركةَ الروح الخارجة من البدن لحظةً بلحظة بكل ما يحمله هذا الحدث من أهوال .
وعن بسر بن جحاش القرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بزق على كفه فقال : (( يقول الله : يا ابن آدم أَنى تعجزني وقد خلقتكَ من مثل هذه ، حتى إذا سَويتكَ وعدلتكَ مشيتَ بين بردتين وللأرض منك وئيد _ يعني شكوى _ فجمعتَ ومنعتَ حتى إذا بلغت التراقي قلتَ : أتصدق ، وأَنى أوان الصدقة )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 545 ) برقم ( 3855 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
فعلى الفرد أن يبادر إلى عمل الخير قبل وصول الروح إلى التراقي ، وعندئذ تذوب حياةُ المرء ويدخل في عالم الموتى دون فرصة للعودة أو التعويض .
وحالةُ الاحتضار المخيفة لم يوضِّحها القرآنُ الكريم للخوف والاعتبار فحسب ، بل أيضاً لتكون حافزاً على عمل الخير والإسراع في الطاعات ما دام الفردُ على قيد الحياة ، وأمامه مهلة زمنية لم يصل إليها الاحتضار . فعملُ الخير عند الاحتضار ( حينما يفقد الفردُ فرصته في الحياة ) ليس كعمل الإنسان للخير أثناء حياته وفي أوج مصارعته لشهواته .
فالخيرُ الحقيقي هو أن تملك ثم تتخلى طواعيةً في ذروة صحتك وعنفوانك ، أما الاحتضار فهو تركٌ قسري للحياة الدنيا بكل متاعها وزخرفها ، وفي هذه الحالة كل الناس يصبحون كراماً أسخياء . فينبغي أن تكون الدنيا في اليد لا في القلب . وهكذا يصبح الفردُ مالِكاً للمال _ على وجه التحقيق _ ، فلا يملكه المالُ ، ولا تلعب به الدنيا .
وقال الحافظ في الفتح ( 5/ 374 ) : (( قال بعض السلف عن بعض أهل الترف : يعصون اللهَ في أموالهم مرتين ، يبخلون بها وهي في أيديهم _ يعني في الحياة _ ، ويُسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم _ يعني بعد الموت _ )) اهـ .
وعن أبي الدرداء _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مَثَل الذي يُعتِق عند الموت كمثل الذي يهدي إذا شبع )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 231 ) برقم ( 2846 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي . ورواه الترمذي في سُننه ( 4/ 435 ) برقم ( 2123 ) بسند حسّنه الحافظ في الفتح ( 5/ 374 ) . ].
فعملُ الخير الحقيقي مكانه في الحياة الدنيا أثناء صحة الإنسان وعافيته ، ونزواته الشهوانية الاستهلاكية . فهذه هي مجاهدة النفس والتغلب عليها في سبيل رضا الله تعالى . أما حينما يفقد المرءُ الأملَ في الحياة والتمتع بها ، فلا معنى لعمل الصالحات .
http://www.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)