في ليل العراق الحزين، وفي صباحه البائس، يسعد المواطن العراقيّ البسيط كلّما استيقظ صباحا، ووجد منزله على حالته، وإلى جانبه أبناؤه وذووه قد سلموا من قذيفة طائشة، أو عبوة ناسفة خبّأها القدر الطائفيّ، والحقد العرقيّ في مكان ما من أرض العراق الجريح. في العراق الذي اخضرّ في منطقة ضيّقة ببغداد، واحمرّ على طول مساحته الشاسعة، لا يشعر المواطن بالأمن قرب حفّاظ الأمن! رغم أنّه يضطرّ إلى تقديم كلّ آيات الولاء المزيّفة لهم، كي يضمن حياته. ومع ذلك، قد لا يسلم من أن يكون ضحيّة في معركة لم يخترها، على أرض لا يريد أن يغادرها رغم الموت الساكن فيها ليلا ونهارا.
هذا حال المواطن العراقيّ البسيط الذي يأكل خبزا مغمّسا بالخوف، عجنته امرأة يلفّها السواد بكلّ خمائر الصمت والذّلّ. فكيف بواحد يتجرّأ على أن يحلم، وأن يحجب عن عينيه، عبر الخيال، صورة الوطن الأسير من البصرة إلى كردستان؟
الصحفيّ العراقيّ الكردي "سردشت عثمان" طالب بكلّيّة اللغات بجامعة صلاح الدين بأربيل، وصحفيّ يعمل في مجلّة "أشتي نامه" "رسالة السلام" في كردستان مترجما من الأنجليزيّة إلى الكرديّة هو واحد من الذين أرادوا فكّ الأغلال والقيود الحديديّة التي تفرضها الأجهزة الأمنيّة بإقليم كردستان، وحلموا بوطن يتساوى فيه المواطنون في الحقوق والواجبات... مقالاته التي كان يكتبها باسم مستعار "دشتي عثمان" كانت ثورة على الفساد المستشري في الإقليم، وصرخة تنبّه إلى الجرائم التي ترتكبها الأجهزة الأمنيّة الخاضعة لأوامر السيّد "مسرور البارازاني" ابن حاكم الإقليم "مسعود البارازاني".
وقد ذهب هذا الصحفيّ الطالب في الحلم بعيدا يسنده شباب غضّ، وأمل في الحياة كبير. فحلم في بعض مقالاته بأن يتزوّج ابنة حاكم الإقليم!! كي يعيش لحظات من السعادة، وأياما من الاستمتاع ببعض من المال المتدفّق على عائلة "حاكم الإقليم" من كلّ الصفقات التي تعقد في كردستان من النفّط إلى إصلاح المجاري!! ولم يكن هذا الطالب الشاب الوحيد الذي أشار إلى الفساد المتناثر على أرض "كردستان". فالكلّ، أعداءً وأصدقاءً، على علم بأنّ عائلة حاكم الإقليم تتصرّف في المال العام تصّرّف المالك في ضيعته بلا حسيب أو رقيب!!. وكلّ مَنْ تُسوّل له نفسه الاحتجاج، أو يُشتمُّ من كلامه أنّه غير راض بما يجري، ستتكفّل رصاصة حمقاء طائشة بالقضاء عليه حيثما كان في الشارع أو في غرفة نومه!.
وأنّى لهذا الطالب الجريء أن يفرّ من قدره المحتوم وقد اختار أن يلاعب الكبار في مقالاته؟؟؟ لم تتأخّر الإجابة المنتظرة منذ مدّة قصيرة: فرقة مجهولة كانت تترصّده أمام باب الكلّيّة؛ اختطفته ونكّلت به، ثمّ وُجد مقتولا في الموصل. وعلى غير العادة، لم يستطع الأمن في الإقليم الذي نوّهت الولايات المتّحدة الأمريكيّة بمهارته في ضمان الأمن، ومنع الأعمال التخريبيّة، الكشف عن الجناة، ولم يتمكّن من ملاحقتهم رغم وجود ما لا يقلّ عن سبع نقط تفتيش في المسافة الفاصلة بين إقليم كردستان والموصل!!
وما تحاول أجهزة الأمن في الإقليم نفيه هو ضرب من ضروب إثبات الجريمة التي اقترفتها في حقّ صحفيّ شاب حلم بماء وخبز لكلّ مواطن عراقيّ، وانحاز للحقّ، فعرّى، بقلمه الشجاع، ما يريد مصّاصو الدّماء إخفاءه. لقد لجأ إليها بعد أن بلغته تهديدات بالقتل، رغم أنّه كان يدرك أنّه أمام "الخصم والحكم". فتعاملت مع شكواه بلامبالاة ولجأت إلى المغالطة عندما أعلمته بأنّ مكالمات التهديد التي تصله صادرة عن أرقام من خارج الوطن!!
وفي آخر مقالاته كان يدرك أنّ موته أمسى حقيقة، وأنّ ترتيبات زفّه إلى العالم الآخر تعرف لمساتها الأخيرة. ولم يبق إلّا تحديد ساعة الصفر فقال: "في الأيام القليلة الماضية: قيل لي إنّه لم يبق لي في الحياة إلاّ القليل، وكما قالوا إنّ فرصة تنفسي الهواء أصبحت معدومة. لكنني لا أبالي بالموت أو التعذيب. سأنتظر حتفي وموعد اللقاء الأخير مع قتلتي، وأدعو أن يعطونني موتا تراجيديا يليق بحياتي التراجيدية. أقول هذا حتى تعلموا كم يعاني شباب هذه البلاد وان الموت هو ابسط اختياراتهم، حتى تعلموا أن الذي يخيفنا هو الاستمرار في الحياة وليس الموت. وهمي الأكبر هو إخوتي الصغار وليس نفسي".
حلم في الحياة بالزواج من ابنة حاكم الإقليم لا حبّا فيها، بل تطلّعا إلى الاستمتاع بثروة طائلة جُمِعت بعرق الكادحين، وأنين البؤساء في أرجاء كردستان البرد والجوع القاتل؛ وحلم بالموت ميتة تراجيديّة تُحاكي حياة التراجيديا التي يعيشها المواطن العراقيّ كرديّا كان أم عربيّا.
موت"سردشت عثمان" يؤكّد مرّة أخرى أنّ الصحفيّ، وإن احتقر نفسه أحيانا خوفا أو طمعا، يكتب بِـ"قلم رصاص" قوّته التدميريّة هائلة تفوق ما تحدثه الانفجارات النوويّة، رغم أنّه يباع في السوق بأبخس الأثمان... هكذا هي هذه الدنيا الرخيصة.. فيها تتحطّم أوهام المتعاظمين ظلما وطغيانا، بأقلّ الوسائل وأكثرها سلما وشرفا.
هذا الصحفيّ الكرديّ العربيّ الإفريقيّ! لم يرفع سلاحا في وجه "البشمركة"، ولم يسرق أحلام الجياع والفقراء، كان فقط يريد أن يعرف إن كان المواطن في كردستان الآمنة "مسعودا" أو "مسرورا" بأطباق الموت التي يوزّعها مصّاصو الدماء، على فقراء الإقليم، بكلّ شفقة وحنان أبويّ!!
إنّ موته شهيدا في معركة الكلمة الصادقة يؤكّد أنّ الصحفيّ وهو يرصّع عِقد الكلمات، اللكمات الخالية من "ثاني أوكسيد" نجاسة المدح الرخيص يضغط على الزناد ولا يدري إن كانت الرصاصة ستصيب هدفها أم سيكون مستقرّها قلبه. حسبه أن يردّد ما قاله "سردشت عثمان" "منذ الآن فصاعداً أفكّر أنّ الكلمات التي أكتبها هي آخر كلمات حياتي".
التعليقات (0)