مواضيع اليوم

الموت الإباحي

Selma Bel Haj Mabrouk

2011-03-18 15:08:37

0

كان البرق المتوهج يخفق مثل رقاص الساعة و يغرس مخالب ضوئه الحادة في وجه السماء المتعبة محدثا فيها شقوقا وتصدعات.

و كانت الليلة شديدة البرودة تغطت بعباءة ليل كثيف السواد .أما السماء فقد انكشف وجهها العاري من النجوم إلا ما تناثر من بعضها في عشوائية مدبرة و كانت الريح تعو مثل الذئاب الجائعة فتنقض بأنيابها الباردة الحادة على أشجار الحديقة تقضم ما تبقى من أوراقها الشاحبة كالموت .
في هذه الأجواء الشتوية الباردة فضل ثائر  المكوث بالبيت هذه الليلة يرقب ثورة الطبيعة الأنيقة مثل ربطة عنقه المستوردة فبرودة الطقس لا تشجعه على السهر خارج البيت ... لذلك فضل احتساء قهوته المسائية هنا بمفرده ..كان يرشف بشفتين تنزفان صقيعا قهوته الساخنة التي أعدها بنفسه مستمتعا برائحة البن العبقة و مذاقها الحنون و مما زاد في إحساسه بمتعتها كونه أشرف شخصيا على طهوها فلذة إعداد قهوته بنفسه لا تقل عن لذة شربها .
لم تكن أفكاره في هذه الأوقات التي يقضيها بمفرده لتخمد بل على العكس من ذلك كثيرا ما مثلت العزلة الوقود الذي يشعل لهيبها و ها هي لغته التحريضية المتمردة تجتاح عقله تطالبه بممارسة طقوس الاختيار لا الطاعة و الحرية لا الخضوع إزاء هذا السجن الذي يحمله بداخله . في الحقيقة لم يكن يدري هل هو مجرد سجن افتراضي و خيالي أم هو سجن حقيقي ؟ و من المتسبب فيه هل هو الشخص السجين و السجان في الآن ذاته أم حكمة ربانية تقف خلف بناء هذه القضبان ؟ هو يعلم علم اليقين أنه لكي تخضع تحتاج إلى أن تكون حرا و لكي تكون السجين تحتاج أن تكون سجانا. كانت عيناه المتقدتين ذكاء لا تنفك عن التقليب في كل شيء الأفكار و الأشياء الداخل والخارج , تقلبان السقف و الأثاث داخل غرفته حينا و ترمقان من زجاج النافذة ما يحدث من سجال تقوده جوقة الرياح وهي تراقص أوراق شجر اللوز فترغمها على الاهتزاز رقصا إلى حد السقوط على أرض الحديقة كرجل ثمل فقد السيطرة على حركة جسمه . حدث نفسه قائلا " ما أجمل هذا العنف التي تمارسه الطبيعة تجاه ذاتها و ما أعذبه من جمال متوحش رائع و أنت ترمق هذا التحرش الأنثوي لكل عناصر الطبيعة ثائرة على بعضها البعض لتنسج لنا من هذه الثورة اختلاف الفصول و تنوعها ... أما آن لك أن تتعلم درس الطبيعة الثائرة والغاضبة حينا و الساكنة الهادئة أحيانا ؟ فليس المطلوب منك أن تجلس في مكانك و ترمق بعيون الصمت ما يحدث حولك منتظرا شيئا يشبه القدر يغير العالم كن على ثقة أن هذا العالم لن يتغير ما لم تجتث اللاإرادة من إرادتك و ما لم تحطم حواجز الخوف التي شيدت أسوارها بنفسك في سنوات العجز والاستقالة من الفعل و التمرد" ....كم يفرحه الالتقاء بها حتى في أعماق أحلامه كم يدغدغه حلم معانقته لها تلك الحرية كامرأة عصية يعشق مراودتها عن نفسها إلى حد الاستسلام ..."أحبها أعشقها فاتنتي بل إنها الحياة التي سأظل أتمنى اللقاء بها حتى و إن كان الواقع البشع يرغمنا على أن لا نلتقي إلا برفات الحياة" .
تذكر أن منزله لا تفصله سوى مسافة قصيرة على زمانية الموت و مكانه ... فها هي مقبرة المدينة القريبة من بيته تذكره باستمرار برائحة الموت المنتشر في كل مكان و تعلمه الحكمة التالية " في البدء كان الموت " ألسنا أحفاد القتلة و ورثة الدمويين هذا الميراث المثقل بالعدوانية تعبير صارخ على أننا نحمل غابتنا بوحوشها الطليقة الراكضة بكل حرية في لاوعينا....

هنا في هذه المدينة المزدحمة برائحة الأحياء المتلبسين بجريمة الكراهية تنتشر أيضا آلاف القبور المطلية بالجبس الأبيض وحيث تتفجّر على أرضها الصلبة أعشاب العوسج يستريح أبطال القبور بعد رحلتهم العابرة و المتعبة تحت شجرة الزمن الشاحبة . قد يبدو لا معنى للزمن في مدينة الأموات و قد التحم جسدهم بالفضاء الفسيح حيث كل الأشياء قريبة و كل الأشياء بعيدة في نفس الوقت .
غير أنه لا يرى فرقا بين من ينتشر على وجه الأرض من الأحياء الأموات
و من ينتشر في دهاليزها الموحشة من أبطال القبور فهم يمارسون جميعا ذات الوظيفة مع فارق في التوقيت و هي وظيفة الموت الإباحية.

يتبع




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !