مواضيع اليوم

المواطن العربي, ما قبل المواطنية

د.هايل نصر

2009-03-22 17:02:18

0

يعيش المواطن العربي في وطنه في مرحلة ما قبل المواطنية citoyenneté. فحكام المنطقة العربية ينظرون للمواطنين على أنهم "الآخرون", tiers état بالمفهوم الذي كان سائدا في النظام الفرنسي القديم, حيث كان الشعب مكون من أقلية محدودة جدا من النبلاء ورجال الدين, ومن الآخرين. الآخرون الذين عرّفهم سيوس عام 1789 باختصار بقوله: من هم الآخرون؟ هم الجميع. ما مكانهم في النظام السياسي؟ لا شيء. ما الذي يطلبونه؟ أن يصبحوا شيئا. أوضاع هؤلاء"الآخرون" قادت إلى الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان والمواطن, فقد رفضوا أن يبقوا آخرين في وطنهم إلى الأبد.

الآخرون في وطننا العربي كانوا طوال تاريخهم, المعاصر على الأقل, وما زالوا آخرين. رغم بعض ما قاموا به, لا ليخرجوا كليا من هذه الحالة, ولكن ليكونوا شيئا. شيء لا يعرفون طبيعته معرفة كاملة. فلا فلسفتهم وتفاسيرهم الفلسفية, ولا أدبياتهم, ولا تفكيرهم السياسي ـ في غياب الفكر السياسي الجدير بهذا الاسم ـ كفيل بإيصالهم إلى هذه المعرفة. فمنذ عهد البداوة الأولى وإلى اليوم, لم يصوغ العرب مطالبهم وتطلعاتهم في إعلان معروف, أو وثيقة, أو دستور, أو حتى معلقة, يعلنون فيها حقوقهم كمحكومين في مواجهة حكامهم. فبعد المعلقات السبع الشعرية المشهورة لم يعلقوا شيئا يذكر من إبداعهم في التنظيم الاجتماعي, أو الاقتصادي, أو السياسي, أو القانوني, أو الإداري, لا لهم ولا لغيرهم من الأمم. وتركوا لأولي الأمر منهم فعل كل شيء بهم وباسمهم... فكانوا أتباع الخلافة ومواليها, و مأموري الأمراء والمماليك. وهم اليوم, مع ظهور الدول الحديثة, مواطنون لكن بمفهوم الرعية, وعليهم طاعة الراعي والسير خلفه وعلى هداه. لم يعرفوا معنى وأبعاد المواطنية ولم يعيشوها. فكانوا, وما زالوا, في مرحلة ما قبل المواطنية ولم يدخلوها بعد.

لا نريد العودة الاستعراضية للتاريخ, وللنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي سادت المنطقة العربية منذ العهد العثماني وإلى الاحتلال الأوروبي. والتي كان لها بطبيعة الحال أثارها الكبيرة على المرحلة الحالية, وعلى إبقاء الشعوب العربية خارج المشاركة في السياسية, باعتبارها منطقة محرمة عليهم, وخارج دائرة المشمولين بحقوق المواطنية. ولا للعودة لمفهوم المواطنية ــ المعروفة كمصطلح منذ 25 قرنا ــ قديما وحديثا فقد اشرنا إليه في مقال سابق, و لاعن العلاقة بينها وبين الديمقراطية. ولكن مع ذلك نرى أن نظرة سريعة على المرحلة الاستعمارية الأوروبية وما تلاها يمكن أن تفسر كثيرا مما نحن فيه الآن.

فخلال فترة الاستعمار الأوروبي, الفرنسي الإنكليزي, للوطن العربي وجد المستعمرون مقاومة عنيفة لوجودهم ولأفكارهم لم يكونوا يتوقعنها بالشكل الذي واجههم. فهم لم يدخلوا منطقة دون حضارة, ودون ثقافة متشبعة بالفكر الديني والتقاليد الإسلامية, التي كانت المقاوم الأول للنفوذ الغربي, الفكري منه بشكل خاص. ومع ذلك ظهرت نخب تريد الانفتاح الكامل ودون شروط على الحضارة الغربية الفاتحة, مقابل الرافضين بشكل مطلق لذلك الانفتاح. وأخرى تسعى للتوفيق بين الأفكار الجديدة في شتى المجالات, وبين مفهوم الأصالة.

فالانبهار بالأفكار التي جاءت في إعلانات حقوق الإنسان والمواطن في الغرب, رغم ما رافقها من دعاية ونشر, و بالأفكار الجديدة للثورة الفرنسية بشكل خاص, لم يكن شاملا, كما كان عليه الحال في المناطق الأخرى التي وقعت تحت نفوذ الأوربيين, بسبب الحصانة الفكرية التي اشرنا إليها, وبسبب ما خلفته حملة نابليون على مصر, الحملة الأولى بعد انتهاء الحملات الصليبية على المنطقة, من آثار على شعوب هذه المنطقة, وما تبعها من نتائج. فرأوا فيها تناقضا صارخا بين ما أعلنه ميثاق حقوق الإنسان والمواطن من مساواة وحرية, وبين الأطماع الأوربية واستعباد الشعوب الأخرى. وتمييز بين الإنسان الأوروبي والإنسان في الدول الأخرى غير الأوربية. مما ينفي صفة القيم العالمية الشاملة التي أعلنها الإعلان الفرنسي المذكور. على الأقل لجهة تطبيقه.


لقد خاضت شعوب المنطقة نضالا تحريريا طويلا وشاقا ودفعت من دماء أبنائها ثمنا باهظا. وتحملت الحرمان وشظف العيش, وهدفها الاستقلال, والحياة الحرة الكريمة في وطن مستقل يكون فيه المواطن سيد نفسه وسيدا في وطنه دون منافس. ومصدر السيادة و السلطات السياسية. فكانت التضحيات كبيرة للوصول إلى آمال كبيرة.

ولكن هذه الآمال لم تتجسد في إعلان حقوق للإنسان والمواطن العربي لمرحلة ما بعد الاستقلال أو في مطالب جدية تكفل له حرياته وحقوقه الأساسية. فلم يرافق الكفاح من اجل الاستقلال تأصيل لمفهوم الدولة الحديثة التي سترث الدولة المستعمرة, أو ضع مبادئ رئيسية لما ستكون عليه. ويمكن تفسير بعض ذلك بتركيز الفكر القانوني العربي والإسلامي على القانون الخاص, وعدم تخصيص جانب هام وأساسي منه للقانون العام الذي من عناصره الأساسية المساواة والحرية وفكرة المصلحة العامة. والذي يبحث في الدولة ونظامها السياسي, والمؤسسات, وتنظيم السلطة, والعلاقة بينها وبين المواطن. كان يمكن أن يبرر ذلك بان التعمق في هذه القضايا, في مرحلة التحرر الوطني, قد يتسبب بإثارة مسائل خلافية تنعكس على النضال من اجل التحرر. لذلك تم الاكتفاء بالتركيز على الجانب العقائدي والعاطفي والتحريضي, وتأجيل الجانب السياسي والتنظيم الحقوقي والاقتصادي والاجتماعي إلى المرحلة القادمة. مرحلة الاستقلال.

ففي البحث عن نظام سياسي, كانت الدول العربية تعمل على التوفيق بين تراث قديم اعتزت به دون تطويره, وبين الحداثة. بين توجه عربي إسلامي, عودة البحث عن الذات والوقوف عندها, وبين تطلع للانفتاح على الحضارة الغربية والمعطيات الجديدة. وهذا ما عكسته كتابات المرحلة والنصوص الدستورية.

ولم تشهد مرحلة الاستقلال تعميق وتأصيل مفهوم الدولة الحديثة, فبعد موجة التحرر من الاستعمار, عقب الحرب العالمية الثانية, وظهور الدول الجديدة, ومنها الدول العربية, بقي هذا المفهوم غير واضح في أذهان النخب الحاكمة المرتبطة غالبيتها ثقافيا ومصلحيا بالغرب. فسارعوا كحل للتزود بدساتير جديدة صيغ اغلبها على عجل وطبقا للنماذج الأوروبية بتعديلات طفيفة. خصص فيها مواد تتعلق بالحريات العامة والشخصية والحقوق الأساسية للمواطن. وتبنى غالبيتها مبدأ تقسيم السلطات: تنفيذية وتشريعية وقضائية. ومبدأ الانتخاب العام, كما جاء في دساتير الديمقراطيات الغربية, دون أن يكون هذا يعني شيئا لها مجال التطبيق. كان الدستور المصري قبل ثورة 23 يوليو/تموز1952" نسخة عن الدستور البلجيكي والعثماني. والدستور العراقي قبل ثورة يوليو/ تموز 1958 تمت صياغته على النموذج العثماني والاسترالي والنيوزلندي. فلم يتميز النظامان الملكيان بطابع الدولة المسلمة لان دستوريهما مستوحيان إلى حد بعيد, من الغرب وتميزت الإدارة فيهما بالحضور الأوروبي الفعال أو السري لعناصر ومستشارين بريطانيين".(موريس فلوري. الأنظمة السياسية للبلدان العربية).

تلا ذلك مرحلة الانقلابات العسكرية ووصول العسكر للسلطة. وقيام الدكتاتوريات التي أضفت على نفسها طابعا مدنيا وعلقت الدساتير وأحكامها واضطهدت الأحزاب القائمة. فأرست أساليب وثقافة القهر والقمع في التعامل مع المواطنين كوسيلة رئيسية لتثبيت السلطة ــ لتتطور هذه الأساليب لاحقا وتترسخ وتصبح على ما هي عليه اليوم الأساس الذي تقوم وتستند عليه هذه السلطة ــ كل ذلك, بطبيعة الحال, في غياب كامل للمؤسسات, وللقانون, والفصل بين السلطات. وزيادة عليه رفعت في وجه المواطن شعارات المعركة التي لا يجب أن يعلو على صوتها أي صوت. فدفع نتيجة لذلك من دمه ومن معيشته ومن حرياته الشيء الكثيرالكثير. شعارات بررت بها كل فشلها, في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. ولم تستطع أن تبين, وإلى الآن, كيف يكون الإعداد لتلك المعركة دون بناء الإنسان. كيف يمكن أن يتحقق بمواطن مسحوق ومبعد كليا عن أية مشاركة أو قرار يتعلق بالتعبئة للهدف النبيل المطلوب منه التضحية من اجله.
شعارات عائمة لا يوجد تحتها مضامين حقيقية, ولا تمت إلى الواقع بشيء, فكان مثلا شعار إقامة الدولة العربية الكبرى. سابق على التفكير بطبيعة هذه الدولة, وعلى الأسس التي ستقوم عليها, وطبيعة نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي, ودورا لشعوب فيها وحقوق وحريات المواطن وواجباته, ومركز الأقليات العرقية والدينية ... وقد ظهر ذلك لا حقا في مسألة قيام و فشل الوحدة بين سوريا ومصر, و كل مشاريع الوحدات اللاحقة التي تفرد في الدعوة لها حكام تلك الفترة ولأسبابهم الخاصة, حكام يمكن أن يكون اقل ما يقال فيهم عدم توفر النضج السياسي, والعمق الاستراتيجي, والتحلي بالروح الوحدوية الصادقة, وحتى القبول بالعيش في الوحدة المنشودة دون التطلع إلى امتازات حكم تفوق تلك التي تتوفر لهم بأقطارهم. فقفزوا فوق شعوبهم وادعوا تمثيلها بالمطلق, وكانوا يبرهنون على ذلك بشكل غوغائي حاشدين الجماهير بتظاهرات مليونية, مستغلين فيها العاطفة المؤججة بفرحة التحرر من الاستعمار, والطموح لدولة عربية قوية موحدة, وبالتوق لتحرير فلسطين على يد دولة الوحدة المنشودة.

لم يكن إهمال وتضليل المواطن وإلغاء حقوقه وحرياته قائم فقط في تصرفات و مشاريع الحكام, ولا إلحاق الضرر بمفهوم المواطنية لديه من فعلهم وحدهم. فالأحزاب السياسية التي بقيت خارج السلطة, أو تلك التي قبلت بان تدور في فلكها, لم تبتعد كثيرا عن هذه الثقافة فلم تول المواطن ومفهوم المواطنية أي اهتمام. وإنما بالعكس حّرفت لديه هذا المفهوم, وأضعفته, عن طريق ربطه بشعارات, تبين لبعضها لاحقا عدم واقعيتها. فكانت تنظر للمواطن كمجرد عضو في حزب, السلطة فيه مركزية ومتوارثة, وكأداة لا تملك إلا السمع الطاعة. فالأحزاب القومية أرادته أن يكون مواطنا في دولة الوحدة العربية القادمة, وأداة لتحقيقها. وان حقوقه الأساسية وحرياته معلقة على قيام هذه الوحدة. ولا يمكن أن تتحقق قبلها, وان مواطنيته الحقيقية تكمن في هذا البعد, وان طالب بغير ذلك فهو قطري وانفصالي وانعزالي. وأرادته الأحزاب الشيوعية مواطننا امميا عليه أن يمنح الأممية ولاءه المطلق ويعطيها الأفضلية على الوطن الذي يقيم فيه ويحمل جنسيته. ورأت فيه الأحزاب الدينية مواطنا في الأمة الإسلامية, وولاءه لهذه الأمة قبل ولائه لوطنه الصغير الذي ليس هو إلا جزءا من الأمة الإسلامية بأكملها.

ورغم الخلاف العقائدي الكبير بين هذه الأحزاب فإنها كانت مجمعة على أن لا تضع المواطن في موطنه الطبيعي, أي مكان إقامته. الدولة التي يحمل جنسيتها. وكأنه مواطن مؤقت في وطن مؤقت.. وعليه فحقوق المواطنية, كما بشرته, ستبقى منقوصة في انتظار اتحاد الجزء, الذي لا يحقق له إلا جزءا من حقوق المواطنية, بالكل الذي يتحقق فيه كل شيء.

وحاليا ومع قيام الحكام العرب بمصادرة الدولة ومفهومها الحديث نهائيا, ليصبح الحاكم اكبر من دولته, ويطلب الولاء فيها لشخصه وليس لها, جاعلا منها ملكية خاصة, و يأخذ موقعه فوق الدستور والقانون والأنظمة. وتفريغ المؤسسات من كل مضمون. وإخضاع السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية في تبعية مطلقة. واستخدم القضاء لملاحقة المعارضين والمنتقدين, تحول ولاء المواطن المفترض بأنه لدولة الوحدة المنشودة, أو الأممية, أو الأمة الإسلامية, ليتقلص ضمن الدولة, القطرية, نفسها ليصبح, ظاهريا للحاكم, وفعليا لفئات ضيقة في هذه الدولة. الفئات التي يمكن أن تمنحه بعض الحقوق, والحماية المادية أو المعنوية أو الأمنية. كالعشيرة, أو العائلة, أو الطائفة الدينية, أو المراكز الاقتصادية والمالية...

حين تغيب دولة القانون والمؤسسات. وتحارب الديمقراطية ودعاتها الحقيقيون.
حين ينتشر الفساد والإفساد, بفعل السياسات السائدة, وتنعدم المحاسبة والرقابة.
حين تمارس الضغوط لإفساد القضاء, وربطه بأجهزة ملاحقة المواطنين.
حين ينظر بريبة للمواطن العادي ويزرع في نفسه الخوف.
حين يلاحق ويسجن ويبعد لرأي يبديه قولا أو كتابة أو مجرد تفكير في طور الظهور.
حين يجبر ليس فقط على أداء واجباته, ومنها المفروضة عليه تعسفا, وإنما كذلك على استعمال الرشاوى للوصول إلى بعض حقوقه الشخصية ومعاملاته الإدارية.
حين يفقد كرامته كل مرة يقف فيها أمام موظف, مهما كانت درجته في السلم الإداري, لا نجاز معاملة إدارية.
حين يصبح عديم الثقة بكل ما حوله, و يهتز لديه مفهوم القيم التي كانت قد تأصلت قبله وحوله.
حين يكره على انتخاب من لا يريده ولا يثق به ليصبح ممثلا له في المجالس, الشكلية, أو النقابات المهنية أو الإدارات المحلية.
حين لا تتوفر له ولعائلته الحماية الغذائية ولا الصحية ولا ضمانات الشيخوخة.
حين لا يجد عملا يكفي احتياجاته واحتياجات عائلته, و يترقب اقرب فرصة لمغادرة الوطن والبحث عن عمل في بلاد الله الواسعة, التي أصبحت تضيق به وبأمثاله من المهاجرين.
حين لا يتوفر له التعليم المناسب لقدراته العلمية والمادية.
حين يرى الثراء الفاحش لدى من لا يعمل, والبؤس المدقع نصيب من يشقى ويعمل.
حين يرى ويلمس ويعاني من كل هذا.
فهل سيعتز بلقب مواطن ؟
وهل ستعني المواطنية له شيئا؟
وهل يلام كثيرا أن فكر بإعطاء ولائه لمن يشعر بأنه قادرا على الوقوف إلى جانبه. طائفته, مذهبه, عشيرته.. دون أن يلام ويجرم من يدفعه لذلك؟
ألا يحس دائما إنه من الآخرين؟ وبأنه في مرحلة ما قبل المواطنية ؟.
د. هايل نصر.

 

 

 

 


 


 


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات