المنطقة العربية, منطقة تصد وممانعة للديمقراطية
لعل المنطقة الأكثر عداء وتصد للديمقراطية في عالمنا المعاصر هي المنطقة العربية. ليس فقط من قبل حكوماتها ذات الأنظمة الشمولية والاستبدادية, وإنما كذلك من قبل تيارات معارضة لهذه الحكومات ــ أو صامتة على ممارساتها ــ, ذات اتجاهات دينية متطرفة تغلق الدين وتحتكره. وأصحاب أفكار قومية متعصبة, تدافع عما تسميه "الخصوصية العربية" وتضخمها إلى حد التعصب والشوفينية, وإلى درجة تكاد تصل إلى القول بالإنسان العربي المختار. ولعلها كذلك أكثر المناطق جهلا بمعنى الديمقراطية, وعملا على التجهيل بها, ورفضا وتشكيكا بقيمها المتحدرة عن التراكم الفكري والتجارب التطبيقية عبر مسار الإنسانية, ابتداء من العصور الضاربة في القدم والى اليوم. ألاف المؤلفات, والبحوث, والمقالات, والمحاضرات, والندوات.. تناولت, وتتناول, مسألة الديمقراطية منذ نشأتها وإلى اليوم. خلافات وتباين في وجهات النظر تتعلق بها كفكرة, و كنظام سياسي, و آليات تطبيق. تعدد فضائلها ومحاسنها, وتؤشر عيوبها ومساوئها. فهي ليست دين منزل لا يقبل النقاش والاجتهاد. ولا إيديولوجية معلبة ومفروضة على الآخرين. ولا حزب سياسي يحكم باسمها ويتفرد بها. كما أنها ليست نموذج حكم قابل للتصدير وصالح لكل مكان وزمان. وقد رأى فيها العميد بيردو فلسفة, وطريقة عيش, وبالتبعية صيغة حكم ( George Burdeau, la démocratie, points politique, p.9 ) . فاتساع موضوعها يتطلب من المراقب, كما يرى, أن يكون مؤرخا ليفهم كيف تكونت الفكرة الديمقراطية. وعالم اجتماع ليدرس كيفية ترسخها في المجموعات البشرية. وعالم اقتصاد ليأخذ في الاعتبار العوامل المادية التي تعمل على تطويرها... ومنظرا سياسيا ليحلل تأثيرها على النظام. وحقوقيا لتعريف المؤسسات العامة والخاصة التي تتجسد فيها. ( المرجع المذكور). وأشار إلى أننا " نعيش في عهد الشرعية الديمقراطية, فمن الطبيعي أن يطلبها الجميع... مع أن كلمة ديمقراطية «منتفخة gonflé " بالمعاني المتناقضة, إلى حد يصل إلى إبعادها عن موضوعها". (Traité de science politique, Paris LGD, t.1985,p.512 ). و يضيف إن الإلحاح على تناقضات مفهوم الديموقراطية لا يعني بطبيعة الحال ذمها dénigrement (الديموقراطية. المرجع السابق ص12). ولكن مع كل هذا يكاد يكون الاتفاق, حاليا, شاملا ــ بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ــ (باستثناء المنطقة العربية) على أنها أفضل الأنظمة السياسية التي توصلت الإنسانية إليها, وإنها مشروع متجدد وغير منته, قابل دائما للتلاؤم مع تطور الحياة وحركتها المستمرة. وهي قبل كل شيء مبدأ شرعية مرتبط بشكل جوهري بالتحديث. ومن المناسب هنا, برأينا, الإشارة السريعة إلى نشأة الديمقراطية, ولبعض المراحل التي مرت بها. هذا النموذج اليوناني الذي كان يطبق في منطقة لا تزيد مساحتها على 2500 كيلومتر مربع, ظل معزولا ودام قرنا واحدا, ولم ينتقل إلى اسبرطة ذات النظام الملكي الثنائي Bicéphale الأرستقراطي ولا إلى بيوتي Béotie ذات النظام الإقطاعي..و غيرها من المناطق اليونانية. و كان من عيوب ذلك النموذج اقتصار حق المساواة السياسية على عدد محدود من المواطنين, لا يطال المرأة, ولا العبيد الذين كانوا يشكلون أغلبية السكان. و لم يعترف لهم بالحقوق المدنية أو السياسية. كما لم يكن للأجانب الأحرار حقوق المواطنية. وبقيت السلطة الفعلية في يد النخبة السياسية المؤلفة من كبار الأغنياء, فهم المساهمون في أعمال الجمعية الوطنية ومنهم رجال القضاء. وكان عدم الاعتراف بالقيم السائدة والمعتقدات الدنية يعاقب عليه بأشد العقوبات. ولم تشفع لسقراط حكمته وشهرته من إيقاع عقوبة الإعدام عليه, وتنفيذها, بتهمة الإلحاد وإفساد عقول الشباب. لم يكن أفلاطون (425 ـ 347 قبل الميلاد) ولا أرسطو (384 ـ 322 قبل الميلاد) يبديان حماسا كبيرا للديمقراطية السائدة في عصرهما لأنها تقلصت لتصبح, كما قال أفلاطون, مجرد نظام للدهماء. تحت تأثير خطابات الغوغائيين, ولافتقارها لأي مشروع فعال. معتبرا أن صاحب المعرفة, الفيلسوف, هو وحده القادر على القيادة. أما أرسطو, وان لم يذهب إلى اتهام الشعب بعدم الكفاءة في القيادة, فانه كان يرى أن من المناسب أن تمارس السلطة من قبل النخبة المؤهلة لذلك والمتمتعة بالكفاءة العالية. وبدت الديمقراطية الحديثة كصيغة سياسية بمحتوى ثوري. وحتى يستطيع الشعب الإمساك بالسلطة كان لابد من أن يكون الإنسان حرا. ويعترف له بصفته الإنسانية دون أي قيد. ويتصرف بصفته هذه وطبقا لحريته. وليس لقدرية مفروضة عليه ومفارقة transcendance. فقد أصبحت السلطة للشعب, وللمواطنين الذين يكونون هذا الشعب. وقد صاحب تطور الديمقراطية الحديثة حركة علمنة المجتمع de la société sécularisation. وهذه الحركة ليست ضرورية للديمقراطية فحسب, وإنما هي كذلك عامل أساسي في تطويرها. وعرفت الديمقراطية الحديثة تجسدها في إعلانات الثورات التي عرفها القرن المذكور. من الثورة الأمريكية في المستعمرات البريطانية في القارة الأمريكية, حيث جاء في إعلان الاستقلال لعام 1776 بان " السلطة الحقيقية للحكام تأتي من رضاء المحكومين". محذرا من أن السلطة المطلقة خطيرة جدا مهما كان مصدرها. فالأغلبية الشعبية يمكن أن تتصرف ليس بعدم كفاءة فقط, وإنما كذلك بشكل استبدادي وظالم في مواجهة الأقلية. وعلى الإرادة الشعبية أن تجد حدودها في الحريات الفردية. وقد تبنى دستور 1790 المشاركة بين الحقوق الفردية غير القابلة للتنازل عنها وبين عناصر السيادة, أي السلطات, التي خول الشعب ممارستها لهيئات الدولة. ( Philippe Lauvaux, les grandes démocraties contemporaines, puf,1990, p.27 ). فالفرد, كما أشار بيردو, محمي من تعسف الحكام لأنه جزء من الشعب السيد. ومحمي كذلك من سيادة الشعب لأن حقوقه الأساسية سابقة على قيام السيادة. (المرجع السابق. ص 424). وجاءت الثورة الفرنسية بالأسس القانونية للديمقراطية الحديثة, فالمادة الثالثة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن, الصادر في 26 أوت / أب 1789, تنص على أن: القانون هو التعبير عن الإرادة الجماعية. لكن مواطن الحق في المساهمة شخصيا أو عن طريق ممثليه في إصداره. وأعلنت المادة 16 أن كل مجتمع لا ضمان فيه للحقوق, ولا فصل فيه للسلطات, لا يمكنه الادعاء بأنه يملك دستورا. وقد تعززت المطالب بالحقوق التي يجب أن يتمتع بها الأفراد, و تلك التي تمكنهم من معارضة السلطة الحاكمة عند تجاوزها لصلاحياتها ولحقوق الأفراد. فالإعلان المذكور يرسم معالم ديمقراطية من طبيعة جديدة. تعمل على بناء السلطة, وفي الوقت نفسه على تقييد أعمالها. وتعلن بشكل لا لبس فيه طابعها الليبرالي. ومن هنا جاء العمل على فصل السلطات, من وحي مقولة مونتسكيو Montesquieu " كل إنسان يملك سلطة يسعى لتجاوزها". ولمنع هذا التجاوز لا بد من رادع تتوفر فيه القوة الموازية. وفي مجال السلطات فانه لا يحد السلطة إلا سلطة معادلة لها في القوة " le pouvoir arrête le pouvoir" وهذا ما يحقق التوازن بين: التشريعية والتنفيذية والقضائية, ويمنع اعتداء أي منها على صلاحيات السلطات الأخرى. كما أن تقسيم السلطة وتحديد صلاحياتها يقود لضمان الحقوق الممنوحة للأفراد. ولا يستقيم مبدأ المساواة في الحقوق بين المواطنين, الذي يبدو كشرط أولي في الديمقراطية, دون الاعتراف الكامل لهؤلاء بأمانيهم و انتماءاتهم والتزاماتهم وأرائهم عبر المجتمع المدني المنظم société civile organisée. وان كان مفهوم المجتمع المدني مختلف فيه, فهو مع ذلك بالنسبة للبعض النقيض antithèse للطبقة السياسية . عند اليونان اعتبر أرسطو المجتمع المدني بأنه يجمع مجموع المجموعات communiés الطبيعية. أما في النظرية الماركسية فان المجتمع المدني يحيل إلى فكرة الإكراه المبطن. والمجتمع السياسي يعبر عن أداة إكراه متجسدة بالدولة وموضوعة في يد الطبقة المهيمنة. وقد اكتسب المفهوم, لاحقا, معنى أكثر وضوحا. حيث تعود إليه, كما يوضح البعض, كل الفاعليات والمنظمات المنبثقة عن القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والجمعيات وغيرها. والتي لا يمكنها أن تكون مرتبطة بالدولة بشكل مباشر. ففي فرنسا, على سبيل المثال, جاء تنظيم المجتمع المدني منذ بداية الجمهورية الثالثة, مع ظهور النقابات les syndicats عام 1884 . والجمعيات عام 1901. والأحزاب السياسية. مما سمح لجميع المواطنين المشاركة في مشاريع يتطلب تحقيقها جميع القوى الاجتماعية على تعددها وتنوعها. وقد تطلب ترسيخ هذا التنظيم وقتا طويلا وتصد للأفكار الليبرالية التي تعتبر إن هذا التنظيم يلحق الضرر بالقرار المستقل للفرد. عرفت الديمقراطية السياسية بعدا جديدا, اجتماعيا, حيث لم تبق ديمقراطية سياسية صرف. وهذا طبيعي ففي الفكرة الديمقراطية ذاتها يكمن البعد الاجتماعي. إذ من غير الطبيعي أن تعطى السلطة للشعب وفي نفس الوقت يقيد استعمالها في ميادين محددة وبشكل معين. فقد أخذت الديمقراطية الاجتماعية مكانا هاما, إلى جانب الديمقراطية السياسية, هادفة للوصول إلى كل الميادين الاجتماعية, و مراقبة مختلف النشاطات والأفعال الناتجة عن العيش المشترك. فالقرارات المتخذة يجب أن تراعي رفاهية الإنسان وأمنه المادي ومستقبله, ومستقبل أبنائه. وتوفير الفرص والتكافؤ للجميع. وتستند الديمقراطية الاجتماعية, مثل الديمقراطية التقليدية, على حقوق الإنسان غير أنها تنظر لهذه الحقوق بشكل مغاير لما تنظر إليه هذه الأخيرة. فقد جاء في إعلان حقوق الإنسان عام 1789 الصادر عن الثورة الفرنسية.إن هذه الحقوق ملازمة inhérents للفرد وعليه, فله وحده حق استغلالها . وميزة هذه الحقوق تجاه الدولة أنها غير قابلة للانتهاك. أما في الديمقراطية الاجتماعية فإن الحقوق ضرورة يحدد مضمونها بمقتضى الحاجة. وهي التكريس القانوني لها. هدف الديمقراطية الاجتماعية, كما تدعيه, يتلخص من الناحية السياسية, بالعمل على تحرير الفرد من كل أساليب القهر والتعسف.وإشراكه في بناء القواعد القانونية. ومن الناحية الاقتصادية والاجتماعية, توفير الرفاهية والسعادة والأمن لكل فرد. و تقليص اللامساواة المترتبة على شروط الحياة الاقتصادية. حيث لا تبقى الثروة مصدر القوة والسلطة. وتخليص العمال من الضغوط, وفتح فرص العمل الكريم للجميع, وتحقيق التكافؤ. وتجهد لجعل كل شخص قادر على التمتع بحقوقه. ويجد في المجتمع الحماية والضمانة في مواجهة ظروف الحياة. وعليه لا تنفك الديمقراطية الاجتماعية تعلن بأنها تعمل على إقامة مساواة فعلية بين الأفراد, وليس مجرد حرية نظرية غير قادرة على تحقيق ما أشير إليه أعلاه. تزامن ظهور الديمقراطية الحديثة مع ترسيخ اقتصاد السوق مما جعلهما متلازمان في مساريهما, وبتأثير متبادل. ومثال ذلك أن ألازمة الاقتصادية لعام 1929 صعدت الحركات المعادية للديمقراطية. وعندما أصبحت الديمقراطية ذات طابع اجتماعي برهنت على قدرتها على ضبط, إلى درجة ما, اللامساواة التي أوجدها الاقتصاد الحر. وقلصت حدتها. فقد سمح النمو الاقتصادي تحسين ظروف حياة الأفراد وضمن لهم حماية اجتماعية في مجال الصحة والعمل والثقافة. وأوصل إلى التكافل الاجتماعي وتوفير الحد الأدنى للجميع للعيش الكريم. مما عزز في نظر الأفراد مشروعية الدولة التي تستطيع تلبية مطالبهم. وفي الواقع فان مبدأ التنافس الذي هو المحرك الأساسي لاقتصاد السوق لا يتعارض بالضرورة مع مبدأ الديمقراطية, وخاصة عندما أصبحت ديمقراطية اجتماعية, فقد برهنت, غالبا, على مقدرتها على معالجة الأزمات, والحد من النتائج المترتبة على التنافس الاقتصادي الجشع والمتوحش عن طريق ضبطه في قواعد يصعب عليه تجاوزها. فتزامن ظهور الديمقراطية الحديثة مع اقتصاد السوق لم يقلص هذه الديمقراطية ليجعل منها مجرد آليات لإدارة النتائج المتربة على هذا الاقتصاد. فقد برهنت على قدرتها على الاحتفاظ بالطموحات التي تغذيها وتتطلع إليها الإرادة السياسية. وهذا مختلف بين دولة و أخرى من دول الديمقراطيات الغربية. ولكن الغريب أن بلدانا ديمقراطية, مثل الولايات المتحدة الأمريكية, وبريطانيا, وفرنسا, وغيرها, لا تبدي اهتماما صادقا بتحقيق الديمقراطية خارج بلدانها ـ وان أبدته فديمقراطية حسب مفاهيم ومقاييس وطرق جورج بوش !!! ــ .وإنما بالعكس تبدي ارتياحها لوجود أنظمة ديكتاتورية, وتشجع استمرار وجودها في المناطق التي لها مصالح اقتصادية فيها كأفريقيا, وبعض دول أمريكا اللاتينية, والشرق الأوسط. الأمر الذي يتعارض كليا مع مبادئ الديمقراطية, وحقوق الإنسان والقيم التي لا تنفك تتحدث عنها هي قبل غيرها. فكيف يمكن التوفيق بين الدعوة لتطبيق الديمقراطية التي أصبحت مطلب غالبة المجتمعات في العالم, وبين تشجيع الدكتاتوريات في كل مرة تتطلب مصالحها الاقتصادية ذلك. و كيف يمكنها, بدون أية مسؤولية أخلاقية أو قانونية, تشجيع إسرائيل بكل الوسائل ( المساعدات العسكرية والتسليح والدعم السياسي في المنظمات الدولية), على سياساتها العدوانية الإجرامية, بحجة أنها واحة ديمقراطية في منطقة تحكمها الدكتاتوريات المتخلفة. و تراها ترتكب الجرائم المتواصلة من احتلال للأرض العربية وتشريد لسكانها وملاحقتهم حتى إلى الدول المجاورة والدول البعيدة. وانتهاك حقوق الإنسان. وكل القيم التي تدعي بأنها قيمها الحضارة الغربية المحمية بترسانة من القوانين الداخلية والإقليمية والدولية. لاشك أن غالبية الشعوب في الدول الديمقراطية ضد سياسات حكامها في تصرفاتهم المشار إليها ـ وهذا ما نشهده فعليا في فرنسا بحكم إقامتنا الطويلة, ونشيد يه لأنه الجانب الحضاري الحقيقي في تلك المنطقة. ولكم دافعت تلك الشعوب عن قضايانا بأشد من دافعنا نحن عنها ــ ولكن يبقى من عيوب الديمقراطية أن الآلية النيابية غير قادرة على أن تعكس الإرادة الحقيقية لتلك الشعوب. عيوب تحاول أن تنفذ منها الأنظمة السياسية, وكل المعادين للديمقراطية في المنطقة العربية, وتتخذها حجة, بين حجج أخرى, تتمترس خلفها للقول بان الديمقراطية في منطقتنا خطر تريد تصديره إليها الدول الغربية للتأثير على قيمها واستقرارها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا, لماذا لا تريد المنطقة العربية, ولا يراد لها, دخول العصر الجديد. دخول القرن الحادي والعشرين. ولماذا التصدي للديمقراطية ومعاداتها؟ النظام الديمقراطي مفتوح للإيديولوجيات السياسية المتعددة, والعقائد الدينية, والأفكار الخلاقة. تتعايش فيه المذاهب والطوائف بتسامح وإخاء, ضمن مواطنية حقيقية. فهل هذا لا يصلح للمنطقة العربية المتواجد فيها كل هذا ؟. النظام الديمقراطي يقوم على تعدد الأحزاب السياسية. وعلى تنظيم المجتمع المدني والمشاركة في بناء الدولة. فهل المجتمع العربي ما زال قاصرا وغير مؤهل لفعل ذلك؟. النظام الديمقراطي يحترم الإنسان بصفته هذه, ويضمن حقوقه السياسية والاجتماعية ويكفل له الحريات العامة والشخصية, ويضمن له حقه في القضاء العادل. ويعزز ثقته بنفسه ووطنه. أليس هذا من حق الإنسان العربي أيضا ؟. النظام الديمقراطي يحقق بناء دولة القانون والمؤسسات, ويقوم على تداول السلطة. فهل هذا معيب. وغير قابل للتطبيق في المنطقة العربية ؟ النظام الديمقراطي يشرك الشعب في السياسة, والاقتصاد, والقضايا المصيرية, وفي اتخاذ القرارات المتعلقة بالشؤون الاجتماعية والثقافية, والقضايا المصيرية, باعتباره مصدر السلطة وصاحبها, يفوض من يريد لممارستها. أليست الديمقراطية حكم الشعب من قبل الشعب ولأجل الشعب. فهل ليس للشعوب العربية بعد حق تقرير المصير وإنها غير جديرة بذلك ؟. النظام الديمقراطي يسمح لملايين العرب المهاجرين, والمبعدين عن أوطانهم بالعودة إليها للمساهمة في بنائها, كل في مجاله. أليس الوطن بحاجة إلى هؤلاء. وهؤلاء أليسوا بحاجة لوطن فيه مقومات الوطن؟.
فالديمقراطية القديمة, حسب ما هو متفق عليه لدى الغالبية الساحقة من المؤرخين, ولدت في اليونان, في أثينا, في القرن الخامس قبل الميلاد. وعرف النموذج الديمقراطي أوجه في ذلك العصر. (الذي يعرف غالبا بعصر بيركلس Périclès ــ 495 ـ 429 قبل الميلاد ــ رجل الدولة اليوناني والمفكر الاستراتيجي ـ والذي وصل إلى السلطة عن طريق الثقة الممنوحة له من قبل جمعية المواطنين Assemblée des citoyens ) . حيث تحولت السلطة من مجلس الأربعمائة ( مجلس مكون من 400 عضو تأسس عام 411 قبل الميلاد وألغى الديمقراطية. ولكن تم تغييره بعد 4 أشهر من قيامه), إلى جمعية المواطنين التي تجتمع في الساحة العامة Agora ويتمتع المجتمعون بحقوق سياسية متساوية. ويتم خلال اجتماعها التصويت على القوانين, وتقرير السياسة الخارجية, ولكل مواطن حق طلب الكلمة والتحدث بكل حرية. وتعطى مهمة تنفيذ القوانين لقضاة يتم اختيارهم عن طريق القرعة ولمدة قصيرة.
كان يجب انتظار القرن الثامن عشر حتى ترى الأفكار الديمقراطية ولادة جديدة بمفاهيم جديدة. بشر بها مفكرو تلك المرحلة, نذكر منهم جان جاك روسو (1712 ـ 1778 ) الذي أقام نظريته على اعتبار أن الديمقراطية نظام تسوى فيه العلاقات بين البشر طبقا لمبدأين أساسيين: الحرية, والمساواة. (contrat social, II, p.2 ). مشيرا إلى أن المكانة الأولى في إيديولوجية الديمقراطية هي لفكرة الحرية وليس لفكرة المساواة. وظهر روسو المنظر الأول للديمقراطية الخالصة كأحد المؤسسين "للفردانية individualisme " الليبرالية التي أثرت في رجال الثورة الفرنسية, وبدا ذلك واضحا في إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789. حيث لم تعد السلطة تستمد شرعيتها من المقدر المقدس, وإنما من احترامها للشعب أو الأمة.
و نشير إلى أن من ضمن وسائل التصدي والممانعة للديمقراطية في المنطقة العربية, ليس فقط ترويج أنظمتها لأفكار معادية لها عبر وسائل إعلامها وتوجيهات أحزابها, وتشويهها في برامج مؤسساتها التعليمية, واستكتاب المثقفين المرتبطين بها لكتابة مغالطات وتحليلات غير جديرة بأي احترام. وإنما كذلك ما تقوم به من محاولات لخلق اطر متخصصة في تكفير الديمقراطية. وإلصاق صفة العمالة بالمنادين بها, عندما تقدّم منحا دراسية "لباحثين !!!" في الجامعات الغربية يعدون رسائل دكتوراه في هذا المجال, ويتفرغون, لسنوات طويلة في "البحث", للبرهنة على عدم ملائمة الديمقراطية لمجتمعاتنا العربية. ومما يؤسف له أن بعض المنافقين من أساتذتهم ــ وهذا ما نلمسه ونعاينه في عين المكان ــ
يعترفون لهم بنتائج بحوثهم تلك. وأحيانا يشجعونهم في اطروحاتهم, طالما أن الأمر متعلق ببلد أجنبي لا يهمهم مصيره. في حين أن أي باحث من أبناء وطنهم يشكك في قيم الجمهورية (فرنسا), أو مبدأ الديمقراطية, ودولة القانون والمؤسسات, لا يسلم من نقد عنيف جدا وتجريح وتشهير, رغم مبدأ حرية التعبير, والأمانة العلمية.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)