المــلك السوداني بعـنـخـــي
(سلالة قرص الشمس المشرقة)
من سلسلة رموز وهموم سـودانـية
حلقة (3)
لا يحتفـظ التاريخ في داخل طياته بسيرة ملوك وحكام وقادة إلا إذا كانوا على مستوى الحدث والإنجاز .. ولا يفرق التاريخ في ذلك بين من حقق إنجازات باهرة لشعبه والإنسانية ، او من ارتبط إسمه بكوارث لشعبه وأحداث سلبية مدمرة ... وبمثل ما احتفظ التاريخ على سبيل المثال لقيصر بعقلانيته وأوكتافيوس بإندفاعه ؛ كذلك احتفظ لنيرون وهتلر بجنونهما وتخريبهما وحماقتهما ...... ولكن الملك بعنخي كان في هذا المجال من فئة السوبر الذين اهتزت لهم في زمانهم قلاع المقادير وانخلعت قلوب الطغاة وتهاوى عرش كل جبار عنيد ...... وفتحت له صفحات التاريخ صدرها الغض البض العارم ليسطر فيها ما يشاء وكيف شاء ....ومن ثم فقد كان على موعد من حفاوة وتقدير متجدد عبر العصور ، من لدن أهله وغير بني جلدته على حد سواء.
الملك السوداني بعنخي ....
أطلقت الصحافة العالمية المتخصصة مسمى (الفراعنة السود) على ملوك السودان الذين حرروا مصر من غزاة الشمال والشرق وسيطروا على مقاديرها لفترة من الزمان
وعليه فإنه لايمكن إغفال الوقوف في حضرة تاريخ هذا الملك السوداني العظيم؛ ولأسباب عديدة لا تتعلق فقط بإنجازاته في مجال تحقيق النهضة ، وتوفير الحياة الكريمة لشعبه وإنما لبراعته كذلك في القيادة السياسية ، وقراءة الأحداث والظروف المحيطة على نحو لا يخلو من عبقرية يحسده عليها كل القادة الذين جاءوا من بعده ، وتتمتع بإعجاب ودهشة العديد من البشر على مختلف مستوياتهم ومشاربهم.... ولقد كان جلالته على نحو من درجات الإيمان تجعلك في حيرة من أمرك . ذلك أن السلطة تسكر عقل صاحبها عادة وتدير وجهه بعيدا عن التزامات العبـد الإلهي لتهوي به وبإيحاء وتزيين من حاشيته في غياهب عبادة الذات .... ولكننا نرى بعنخي رغم ما وصل إليه من سلطة امتدت وتوسعت لتشمل كل بوصة مربعة من وادي النيل تقريبا ؛ إلا انه ظل متواضعا أمام أوثان وآلهة ديانة هذا الوادي القديمة، ولا يخرج من معركة إلا ليدخل معبدا يشكر ويقدم القرابين ويطلق في وجهها الأملس البخور ، ويوقد لأعينها الحجرية الباردة الشموع.
مملكة نبتـــة:
كــان بعنخي (وينطق إسمه لدى السودانيين بعـانخـي) من ملوك مملكة نبتة التي تمخضت عن اتحاد ممالك السودان الشمالي من الشلال الأول (قرب أسوان حاليا) وترامت حدودها شرقا بمحازاة البحر الأحمر وامتدت جنوبا إلى جبال الحبشة وغربا إلى حدود ليبيا الحالية ..... ويمتد تاريخ تكوين هذه الممالك ونشوء أنظمة الحكم فيها إلى سنة 4000 ق.م تقريبا حيث كان يشار إليها مجتمعة بمسمى ((أثيوبيا)) ..... وكان أول صدام مؤرخ بينها وبين المملكة المصرية يعود إلى ما بعد تاريخ 3703ق.م خلال حكم الملك ببي الأول ثاني ملوك الدولة المصرية السادسة ....
لكن الفترة التي شهدت بزوغ فجر مملكة نبتة المتحدة إلى مسامع العالم القديم، ورصدها كحضارة إنسانية معترف بها فقد استقر رأي المؤرخون وعلماء الآثار على أنها كانت من سنة 1600 ق.م إلى سنة 664 ق.م. ..... أو على نحو من 936 سنة بالتمام والكمال لتشغل بذلك من عمر الزمان المتسع فترة من بين أطول الفترات التي سجلها التاريخ لممالك بشرية على وجه الأرض . وكان إسم العاصمة هو ايضا ((نبتة)) وتقع بالقرب من جبل البركل الذي كان يسمى ((الجبل المقدس)).
.... والملاحظ أن الديانات المصرية لم تنتشر في مملكة نبتة إلا خلال الفترة المعاصرة لحكم الأسرة المصرية رقم 21 . وسبب انتشارها يعود إلى لجوء العديد من الكهنة المصريين إلى السودان إثر خلاف مع بعض ملوك هذه الأسرة التي حكمت مصر خلال الفترة مابين 1110 ق.م و 980ق.م ..... وحيث نرى أن الملك بعنخي عند قدومه مصر زار العديد من المعابد ، وكان يحلف بالإله ((آمون رع)) ، وقام بزبارة مدينة منف الدينية قرب القاهرة الحالية ، وقدم القرابين إلى وثنها الرئيسي ((بتاح)) وغيره من آلهة فرعية مساعدة.
نشأة العلاقة بين نبتة ومصر:
مـع بداية حكم الأسرة الخامسة عشر لمصر التي بدأت بعد عام 2214ق.م حدث وأن احتل الهكسوس (الرعاة العماليق) القادمين من جنوب آسيا .. احتل هؤلاء مصر وحكموا شعبها بالحديد والنار قرابة 614 عاما امتدت مابين أعوام 2214ق.م و 1600ق.م ..... وعرفت فترة حكمهم بعصر دول ثلاثة جكمت مصر هي الدولة الخامسة عشر ، و الدولة السادسة عشر و الدولة السابعة عشر ........
ويبدو انه كان هناك أخطاء ما تتعلق بأسلوب إدارة هؤلاء الرعاة الأجلاف للدولة وميلهم الدؤوب إلى حسم أمورها مع الشعب المصري بالسيف لاغير، وعلى نحو حدّ من قدرتهم على التغلغل وسط المجتمع المصري والتمازج معه ، وبالتالي غياب التفاعل والمعلومة التي تساعد على استئصال شافة المقاومة السرية التي قادها حثيثا أبناء ومن ثم احفاد الملوك المصريين، الذين اطاح بسلطانهم الهكسوس. فتسنى لهؤلاء الأحفاد الاحتماء في أقصى جنوب مصر ، والقدرة على تشكيل جيوش مقاومة صغيرة لمشاكسة الدولة الهكسوسية وإثارة الفتن والقلاقل لنظامها بين حين وآخر في جنوب مصر. وربما امتدت المقاومة إلى الشمال أحيانا أخرى... ويحسب لهذه المقاومة ان الوهن لم يعتريها طوال فترة حكم الهكسوس لمصر ، رغم أنها ظلت مقاومة محدودة ضعيفة التاثير من حيث حجم الخسائر البشرية التي يمكن تكبيدها للعدو المحتل..... وعلى نحو بدت فيه شبيهة في العصر الحالي بصواريخ قسّام حماس التي تثير الرعب وتمنع النوم وتقطع حبل الشخير اكثر مما تدمر وتقتل.
وعليه فقد كان تفضيل البعض الآخر من ابناء الملوك المصريين اللجوء إلى السودان، وإقامة ما يمكن تسميته بمخيمات مصرية متفرقة داخل السودان هو الذي ساهم في تنظيم وإذكاء جذوة اتقاد المقاومة المصرية المسلحة ضد الهكسوس. وعلى نحو مكنها في النهاية من بناء قوة عسكرية ضاربة بمساعدة من السودانيين مكنتهم من تحرير بلادهم فيما بعد بقيادة أحمس....
وتجدر الإشارة إلى مدينة ((أرقــو)) الحالية في شمال السودان ، كانت مركزا من مراكز اللجوء المصري داخل السودان على عهد الهكسوس ، وحيث لا تزال أرقو تحتفظ بمسحة فرعونية وطابع مصري على استحياء ، يتجلى في سنح وألوان واشكال سكانها الأصليين الذين فضل أجدادهم المصريين البقاء بها حتى بعد طرد الهكسوس من مصر .... وإن كنت اعتقد أن هؤلاء ربما كانوا نتاج تزاوج مصري من سودانيات ، فضلن فيما بعد البقاء في أوطانهن بعد عودة أزواجهن المصريين إلى ديارهم ، وبقي معهن العديد من أبنائهن وبناتهن على نسق ما نراه الآن في مدن التماس الحدودي والقبلي بين شمال وجنوب السودان ، من نتاج لزيجات مماثلة بين شماليين وجنوبيات يطلق عليهم في الجنوب مسمى ((الملكية)) ويتجاذبهم الولاء بين الطرفين .... وإن كانوا في معظمهم أكثر ميلا إلى أحضان امهاتهن واخوالهم في الجنوب دونا عن أعمامهم في السودان .. ولا غرابة في ذلك فـصرامة العـم وحصاره وكثرة تحقيقاته واسئلته طاردة ، وحضن الأم ودفئها وحنانها لا يقــاوم .... والخالة أم ، والخال والد كما يقال.
حكاية الملك المصري أحمس :
كان أحمـس من بين أولئك الأحفاد المشار إليهم آنفا من نسل الملوك المصرية الذين لجأؤا للسودان بعد عام 2214ق.م .... وهاهو يتقرب لبلاط ملوك نبتة ، ويفلح في الزواج من إحدى بنات ملوكها. وبذلك حصل على دعم لا محدود لتحقيق رغبته المتأصلة في طرد الهكسوس من مصر ... وقد تحقق له بالفعل ما سعى إليه وقام بطرد الهكسوس وتاسيس الأسرة الثامنة عشر (1600ق.م – 1380ق.م) كأول ملك مصري يحكم مصر بعد غياب دام 614 عام بالتمام والكمال شكل فيما بعد سابقة تاريخية لفترة استعمارية تعتبر من بين الأطول في العالم.
وقد شهدت العلاقة بين هذه المملكة المصرية ومملكة نبتة إزدهارا وحميمية خلال عهد الملك احمس ، ولكنها سرعان ما بدأت تتأزم بعد وصول الملك تحتمس الأول ثالث حكام الأسرة 18 إلى السلطة وكانت له حروب ومناوشات مع مملكة نبتة.... ثم هدأت الأحوال كثيرا على عهد الملكة حتشبسوت (خامس ملوك تلك الدولة في الترتيب) التي ما كانت ترى في الأطماع وإثارة الحروب مع جيرانها من منافع ، وبالتالي فقد ازدهرت في عهدها العلاقات التجارية والثقافية بين مصر والسودان.
الملك الدموي تحتمس الثالث:
وهــو الملك السادس في ترتيب الأسرة المصرية الثامنة عشر حيث استمر النزاع والحروب على عهده وبلغت أوجها مع مملكة نبتة ، وتعامل بشراسة ووحشية مع كل من وقع تحت يده من سكان المناطق الحدودية الشمالية المتاخمة لجنوب مملكته. وقد غـزا بنفسه اطراف مملكة نبتة وحرق فيها الأخضر واليابس ونهب المواشي والذهب والأموال والنفائس والمحاصيل ، وأسر الفتيات والأطفال .... وظل الحال على هذا المنوال حتى عهد ((حور محب)) آخر ملوك هذه الأسرة المصرية التي اسسها أحمس.
أسباب التوتر في العلاقات السودانية المصرية:
لا أحــد يعرف بالقطع الأسباب الرئيسية الحقيقية الكامنة وراء هذا التوتر في العلاقات بين مملكة نبتة و ملوك الأسر المصرية التي تعاقبت على حكم مصر بعد طرد الهكسوس .... وربما كان من الممكن إيجاد تفسير منطقي مقنع لو كان التوتر في العلاقات وهذا التعدد والتنوع في الحروب والمعارك مرده تصفية حسابات وانتقام .. ولكن المتواتر أن مملكة نبتة لم تكن على علاقة ودية أو تحالف سياسي مع ملوك الهكسوس ضد المصريين .. بل على العكس من ذلك تماما فإن العكس هو الذي كان حيث أوى السودان المقاومة المصرية للهكسوس وكان دمار الهكسوس إنطلاقا من السودان ....
ولكن التاريخ لا يشير كذلك إلى حدوث اية مناوشات تذكر بين ملوك نبتة وملوك الهكسكوس في مصر. بل على العكس من ذلك كانت التجارة مزدهرة وطرقها مفتوحة ، قد فرض كل طرف على الآخر جباية معلومة على القوافل التجارية التي تعبر حدود البلدين ، سواء تجارة السودان من ذهب وسن فيل وريش نعام وبخور وجلود وماشية إلى اسواق مصر و فلسطين والشام والجزيرة العربية . أو عبور المنتجات المصرية متمثلة في المنسوجات على نحو خاص عابرة أراضي مملكة نبتة من الشمال إلى الجنوب إلى داخل السودان وأفريقيا ، دون ان يعترضها ((قطّـاع طـرق قـومية)) ...... أو ((جباة ولايات ولصوص)).
وفي غياب الحاجة وقتها إلى تحديد حصص مياه النيل ؛ ربما كان الطمع في الثروات الطبيعية التي توفرت لمملكة نبتة من ذهب وعسل نحل ومواشي وريش نعام على نحو خاص ، هو أحد الأسباب التي توترت بسببها العلاقة بين مملكة نبتة وملوك الأسر المصرية التي تعاقبت على حكم مصر بعد زوال دولة الهكسوس ...... وقد يكون سبب التوتر والمناوشات المتعددة تلك مردها للخلاف بين الطرفين في تحديد مدى مسئولية مملكة نبتة في السيطرة على الحدود الشمالية لمملكتهم ومنع قطاع الطرق من بــدو الصحراء المنفلتين من مهاجمة صعيد مصر بغرض النهب والسلب ، أو السماح للمعارضين المصريين ومن بينهم الكهنة ورجال الدين اللجوء إلى السودان والاختباء فيه وتشكيلهم هاجسا أمنيا لا يستهان به لملوك مصر بالطبع ... وبالتالي كانت الحاجة إلى ((تدجين)) مملكة نبتة بوصفها لها سابقة في دخول جيوشها إلى مصر لمساعدة أحمس على طرد الهكسوس ، وعلى نحو شكل فيما بعد عبئا إستراتيجيا على سلامة الدولة المصرية من إمكانية تكرار هذا المسعى على يد مجموعة مصرية أخرى معارضة تتخذ من السودان قاعدة لها !!!؟ ... وتبقى كل التفسيرات والتصورات ممكنة في علاقة حساسة بين شعبين متجاورين....
ويبقى رغم كل ذلك حقيقة تاريخية واحدة ، أرجو أن يخضعها الاستراتيجي المصري للدراسة والتحليل ومن ثم الخروج بقناعات .... وهي أن مصر وعلى مر العصور لم يجري غزوها واحتلالها بواسطة أجنبي إلا من ناحية الشمال أو الشرق أو الغرب ..... ولكنها كذلك وبنفس القدر لم يجري تحريرها أو محاولة تحريرها من ربقة حكم اجنبي إلا من جهة الجنوب حيث السودان العظيم.
دخول الملـك بعنخــي مصر :
خــلال فترة حكم الأسرة الثالثة والعشرين التي امتدت ما بين 980ق.م و 810ق.م كثرت الخلافات الداخلية وعم الوهن ربوع مصر وانفلت الأمن. وضعفت السلطة المركزية على نحو أدى إلى إنقسام مصر إلى 20 ولاية مستقلة عن بعضها، تتنازعها الأطماع والمكائد والمناوشات .... وكان لابد أن يحدث جراء ذلك فراغ سياسي وأمني في جنوب مصر مما أضطر فيه ملوك نبتة إلى ملء هذا الفراغ ، لأسباب أستراتيجة وتكتيكية لابد منها ولو إلى حين .
وظل الحال على ما هو عليه حتى عام 721 ق.م حيث تمكن أحد الأمراء المشواشيين الطموحين القادمين في الأصل من ليبيا ويدعى ((تفنخت)) من توحيد الولايات المصرية في الشمال تحت قبضته ، وأسس العائلة الحاكمة رقم 24 في مصر ، وزحف يريد بسط سلطتة على ما تبقى من إمارات مصرية في الصعيد والنوبة السفلى ، فتصدى له الملك بعنخي بعـد صبـر مثيـر للجـدل ، وجرت بين الطرفين مواقعة واحدة انتهت بانتصار جيوش بعنخي ودخوله مدينة ((منف)). ولكن بعنخي لم يؤثر التورط أكثر في مصر ، فعاد إلى عاصمته نبتة دون أن يحصد ثمار انتصاره في شكل احتلال مباشر لمصر.
وتجدر الإشارة إلى أن المشواش قبيلة ليبية يطلق عليهم أصحاب اللحى المدببة وكانوا من الضخامة بمكان وبارعين في استخدام السيوف ، وبالتالي المعارك التي تتطلب الالتحام المباشر مع العدو عكس جنود نبتة الذين كانوا بارعين أكثر في رمي المنجنيق والسهام . وكانوا يلقبون برمـاة الحـدق (العيون) حيث كانوا قادرين على خرق عيون أعدائهم بالسهام من على مسافات بعيدة ... وكان المشواش قد دخلوا مصر عن طريق الواحة الداخلة حيث استقروا هناك بداية ثم تنامت قوتهم مع مرور السنوات ، واستغلوا فترة التفكك والانحلال الذي عصف بالدولة المصرية فتقدموا إلى داخل مصر وسيطروا على شمالها بقيادة ((شيشنق الأول)) الذي حكم شمال مصر مابين عامي 950ق.م و 929ق.م وأسس الأسرة الحاكمة رقم 22
وفي حقيقة الأمر فإن التواجد النبتـي (إن صح التعبير) في النوبة السفلى وصعيد مصر، لم يكن يعد في الأصل بمثابة احتلال ، بل كان تواجد باهت على شكل تحالف ، ودعم عسكري لأمرائها وعلى رأسهم النمروذ أمير الأشمونيين ، الذي كان الحليف الرئيسي لنبتة حسب ما سيجري إثباته لاحقا. بل وكان تحالف النمروذ مع تفنخت هو القشة التي قصمت ظهر بعير صبر بعنخي على طموحات تفنخت ، وأدت إلى تدخله في مصر.
بالفعل كان الملك بعنخي في مراقبته عن كثب لتحركات تفنخت ، وكأنه يمد حبل الصبر إلى ما لانهاية ، أو كأنه لا يمانع فيما يجري. وكأنه كان يرى أن توحيد شمال ووسط مصر تحت سلطة ملك واحد قوي ، ربما كان أفضل استراتيجيا لمملكة نبتة بحسبان أن قوة مصر ستقف حجر عثرة أمام أية أطماع خارجية تأتي لها من الشرق والشمال ... وحيث أن الجيوش الغازية لمصر حتما ستمد عنقها بعد أن يستتب لها الأمر إلى النوبة العليا .. هكذا كانت ولا تزال جدلية التاريخ في وادي النيل وإلى عام 1898م تؤكد ذلك ، وحيث لم يتعرض السودان للغزو العسكري من القوى السوبـر إلا من جهة الشمال قادما عبر مصر ...
لقد كانت الوفود المصرية تترى على بلاط بعنخي في نبتة تتساءل عن حياده واسباب صبره على تفنخت ............... !!!
والمشاهد ان الملك بعنخي ظل على هدوئه وصبره يرقب تحركات تفنخت إلى ان حدث ما أعتقد انه شكل لديه تهديدا استراتيجيا خطيرا لطبيعة اللعبة السياسية في صعيد مصر المتاخمة لأرض النوبة السفلى ، ذلك ان ملك الأشمونيين في تلك الفترة وكان إسمه ((النمروذ)) ، وبعد أن كان على عداء ومقاومة شرسة مع تفنخت وعائقا له أمام زحفه نحو الجنوب ؛ إذا بالنمروذ وبعد استيلاء الملك تفنخت على مدينة منف الدينية وزحفه نحو عاصمة وقرى الأشمونيين يخاف العاقبة ويرضى بعرض تفنخت له تشكيل تحالف عسكري وسياسي معه ، أقر فيه تفنخت النمروذ على ملكه ومنحه منطقة أهناس الجنوبية زيادة له في رقعة أرضه ....
كان الأشمونيون من مواطني صعيد مصر . ولهم مملكة صغيرة ويعبدون حصانا من نحاس يضعونه على مدخل مدينتهم ولهم كذلك شجرة لبخ ضخمة يقدسونها وإسمها ((بيرسـا)) .... ويقال أن شيطانا (والعياذ بالله) كان يسكنها وانهم كانوا يتخذون من أوراقها وثمارها شفاءا لهم من بعض الأمراض.
أسباب تدخل الملك بعنخي في مشاكل مصر:
حسـب ما وجد منقوشا وموثقا على حجر بمدينة نبتة ونقل فيما بعد إلى المتحف المصري بالقاهرة أبان احتلال التركية السابقة للسودان ، فقد كتب بعنخي قصة انتصاره على الملك تفنخت واكتفي هنا بنقل بعض اهم ما جاء فيها فيما يتعلق ببداية تدخله لحسم امر هذا الملك:
((في غرة توت من السنة الحادية والعشرين من حكم ملك الوجه القبلي والبحري بعنخي ميامون ..... بلغني أن الملك تفنخت استولى على مدينة منف وغيرها من المدن المصرية الشمالية وسار نحو الجنوب بجيش جرار فأطاعته الأمراء وأعيان البلاد وصاروا تحت رجليه أذلة كالكلاب حتى وصل إلى أهناس الجنوبية فحصرها حصارا شديدا ودام على قتالها حتى فتحها. وكان الأمراء يبعثون إلي بالرسل يسألون عن سبب قعودي عن تفنخت وعدم المدافعة عن الوجه القبلي وقالوا أن النمروذ رئيس الأشمونيين هدم حصون نقروس ودمرها مخافة أن يأخذها تفنخت والتجأ إلى مدينة أخرى واقتفى تفنخت أثره فاضطر إلى الخروج عن حزبي والانضمام إليه فغمره بأنعامه وأعطاه أهناس الجنوبية . فعند ذلك أرسلت إلى قوادي الذين في ثيبة (الأقصر حاليا) وغيرها من بلاد مصر أن يستعدوا لقتاله ....... ))
قالوا سمح القول عن خشيم سيدو:
هذا مثل سوداني محلي معناه أن الحديث يحلو عندما يخرج من فم صاحبه ......
وعلى أية حال فربما أكون كالمغرد خارج السرب أو قد لأ أكون ... ولكن المشار إليه أعلاه والذي جاء على ((لسـان)) بعنخي نفسه ولا يزال منقوشا على الحجر ، يوضح على نحو لا يقبل الشك أو المواربة ، أن خروج النمروذ عن حزب و حلف بعنخي كان بالفعل هو السبب الرئيسي في تدخل بعنخي للدفاع عن بقاء هذا الحلف بتقليم أظافر تفنخت ، بوصفه قد تجاوز حدود اللعبة في ذلك العهد ووفق معطياته الاستراتيجية وتبعاته السياسية ....
وربما تكون هناك أسباب أخرى مرتبطة بإهمال تفنخت للجانب الديني ، وعدم رعايته لمعابد الآلهة المتعددة في ذلك العهد ، لاسيما وإننا نراه وهو في أوج ضعفه وعرضه الاستسلام لبعنخي يتحدث عن ((معبودين)) فقط ويتجنب الحديث عن ((الآلهة)) ... فهو يذكر معبوده هو معبود الشمال ((مونت)) ... ثم وخضوعا للهزيمة يشيد بمعبود الجنوب ((نبتا)).... ووراء هذه الصياغة ما وراءها في عرف الساسة ودواوين وبروتوكولات الملوك.
ومن ناحية أخرى لابد أن نأخذ في الاعتبار النزعة الدينية القوية لدى بعنخي على نحو خاص ، ولدى الشعبين السوداني والمصري على نحو عام ، وحيث كان بعنخي يحرص دائما على إبداء نزعته الدينية هذه . ويشفعها عمليا بكثرة تردده على زيارة المعابد في نبتة ومصر العليا لاسيما معابد مدينة الأقصر التي كانت تحت إدارة وحكم نبتة ، وترسيم الكهنة له باعتباره إبنا للمعبود ..... ولا ننسى بالطبع أهمية الثقل المعنوي الذي كان يشكله الكهنة والسدنة ورجال الدين وسط عامة الشعب ، وحيث كان أي خلاف ((جذري)) بين هؤلاء الكهنة والملك فيما يتعلق بتغيير العقيدة أو تقليص الميزانية ، عادة ما ينتهي بموت الملك بخنجر مسموم مغروس على ظهره غيلة وغدرا ... أو بتناوله طعام أو نبيذ أو شراب مسموم .....
ولا مناص من الذهاب إلى الاعتقاد بأنه كان للكهنة أيضا دور مهم في تحريض بعنخي على إيقاف تفنخت عند حدّه أو على نحو يحفظ مصالحهم ومكانتهم الدينية المهددة.
لقد ذهب البعض في السودان ولا يزال إلى القول ، بأن بعنخي ((غـزا)) مصر ، وكأنه يهدف من وراء ذلك إلى ((التوسع وتحقيق أطماع)) ... وهذا غير صحيح ....
وقد ذهب البعض كذلك إلى القول بأن بعنخي ((غــزا)) مصر لأن ملكا من ملوكها ((أساء للخيول)) ... وهذا غير منطقي .... وما هكذا ينفق ويهدر ملوكا بحكمة بعنخي ثروات شعوبهم ويستنزفون دماء شبابها.
وتساءل البعض الآخر بنفس القدر : لماذا ترك بعنخي مصر وعاد إلى حضن عاصمته نبتة دون أن يترك خلفه ((واليا)) .. أو (( حاكم عـام )) سوداني لحكم مصر ، على نسق ما فعلت التركية السابقة في السودان بعد احتلاله عام 1821م ثم الحكم الثنائي بعد عام 1898م ؟!
تعليمات الملك بعنخي لقادته العسكريين:
وتتلخص هذه التعليمات والوصايا كالآتي:
1) عدم مهاجمة تفنخت ليلا هجوم الخادعين بل مهاجمته متى رأوا أنه أعد جيوشه وخيله وسار لقتالهم.
2) أن إقامة العدل الإلهي هو الأساس الذي تدخل فيه الجيوش المعركة وليس مجرد الأطماع في الأموال والسلب والسبايا.
3) وجوب الخضوع للمعبود وتطهير الجسم والملابس عند دخول المعابد الدينية .... أو بمعنى آخر احترام العقيدة وعدم تخريب دور العبادة.
4) تعظيم المعابد الدينية وعدم دخولها حاملين السلاح والحرص عند دخولها بارتداء ملابس زاهية غالية على نسق ملابس الأعياد.
5) الاستعانة بالمعبود الإله في المكره والمنشط وطلب النصر منه.
كان سيدا على الملوك ... وعابدا لكل الآلهة:
من الواضح أن الوازع الديني لدى الملك بعنخي كان قويا وكان يشغله كثيرا وعلى نحو أنه حين جاءه خبر لجوء حليفه السابق ((النمروذ)) إلى مدينة أرمنت وتحصنه فيها اشتد غضبه وأقسم أن يتولى قيادة الجيوش بنفسه بعد أن يحتفل بأعياد رأس السنة في معبد جبل البركل وتقديم القرابين لمعبوده آمون .. وما أن حل اليوم التاسع من شهر توت المشار إليه في بداية روايتة المنقوشة على الحجر ؛ حتى كان بعنخي ومن معه من الجيوش قد وصلوا إلى الأقصر وأكملوا فيها احتفالهم السنوي بمعبودهم آمون. ثم توجه بعنخي إلى أرمنت حيث يتحصن النمروذ وقام بتشديد الحصار على المدينة ورماها بالمنجنيق لمدة ثلاثة أيام متواصلة ، دفع على إثرها النمروذ لطلب الصفح والغفران من بعنخي ، وبادر بإرسال زوجته وبناته وأخواته وحريم عائلته إلى إحدى زوجات الملك بعنخي مشفوعات بالهدايا الثمينة لها (كان بعنخي متزوج من أربع نساء) للتوسط لديها في الحصول على عفو الملك ، فسجدت زوجة النمروذ وبناته وأخواته وحريمه أمام زوجة بعنخي طالبات الصفح للملك النمروذ ... وكان لهن ما جئن له وبعث الملك بعنخي الى النمروذ للحضور ومقابلته ، فحضر النمروذ وأبدى من علامات الندم وكلمات الاعتذار فبادره الملك بعنخي بقوله:
- لقد سددت طريق الحياة على نفسك يا نمروذ.
فقال النمروذ:
- لو صعدت إلى السماء كالسهم لأدركتني. كيف لا وقد أخضعت بلاد الجنوب وأطاعتك بلاد الشمال فهل لنا أن نستظل بظلك ، فقد أفنى بأسك جميع رجالنا.
ثم خرّ النمروذ ساجدا أمام الملك بعنخي وقال له:
- أنا أحد عبيدك الذين يدفعون الجزية لخزينتك فاحسب ما تجمع من عبيدك كلهم وخذ مني جزية تزيد على مجموع جزيتهم.
لسنا في معرض سرد حصاد المعارك:
ثـم مضى الملك بعنخي في طريقه شمالا يريد تفنخت ، فكان الملوك والأمراء والعامة يخرجون إليه بالورود والرياحين يحملون الهدايا وأموال الجزية تعبيرا عن الولاء والخضوع .... وبالجملة فقد خضعت له مصر من الشلال الأول جنوبا إلى المصب شمالا ... ولسنا هنا في مدارج الحماسة لوصف معارك النصر وحساب الأرباح والخسائر. فهذا ليس بالحصاد الذي ينشده السوداني في علاقته بالمصري منذ فجر التاريخ ... وكذلك لقناعتنا التي لا يرقى إليها شك في أن بعنخي ، ومن بعده سباقون ثم ترهاقا لم يكن هدفهم الاستراتيجي احتلال مصر ، بقدر ما كان رفع الظلم عن كاهل أهلها وإعادة الأمور إلى نصابها ، وفق معادلة التعايش السلمي على امتداد هذا الشريان المائي الحساس الذي يجري وتعدو معه الحياة وسط وادي ضيق... وحيث كانت هذه المعادلات عادة ما تختل إثـر كل احتلال أجنبي لمصر.... واضعين في الاعتبار حقيقة تاريخية لا مراء فيها وهي أن كل احتلال أجنبي جرى للسودان ، كان قادما من إتجاه الشمال بعد احتلاله لمصر.
حكاية الخيول :
سبق وأن ذكرت أن البعض في السودان يذهب إلى القول بأن سبب دخول بعنخي مصر كان إساءة ملك من ملوكها للخيول ... وفي حقيقة الأمر أن الرواية التي جاءت على لسان بعنخي، المنقوشة في حجر نبتة الموجود حاليا بالقاهرة تفيد بعكس ذلك تماما . ذلك أن الرواية تقول أن الملك بعنخي بعد أن قبل استسلام واعتذار النمروذ له ، توجه إلى قصر النمروذ وطاف في أروقته وحجراته ، ثم جاءته محظيات الملك والجواري الحسان النواعم الكواعب الأتراب خاضعات منبهرات لوهج قوته وعظمته، وراغبات غير متمنعات يرتمين ذليلات تحت قدميه ولسان حالهن يردد: ((هيت لك)) ولم تغلق الأبواب بعد ..... فلم يلتفت بعنخي إليهن ...
كان بعنخي صاحب مبدأ وحامل رسالة وذو همة عالية رفيعة ، وسمو روحي يتفوق على مجرد الانشغال بملذّات المشروب والمركوب وتحسس الغض وتلمّس البض، ولثم الخدود ورشف رحيق الشفاه ، وضم القدود والكشح الهضيم وإشباع اللذات الحسية على نحو شهواني فوق أنثى ؛ دون علاقة عاطفية متبادلة محرّضة ......
وبدلا من التوجه للسهر وسط ربات الحجول فوق السرر المرفوعة والأباريق والأكواب الموضوعة في المخادع والمضاجع كعادة من أسكرته نشوة النصر من الملوك والحكام ، توجه بعنخي بنفسه مباشرة يتفقد اسطبلات الخيول في قصر النمروذ ، فوجدها جائعة بلا علف ، فغضب وقال موجها كلامه للنمروذ:
- إن إجاعة خيولي هي أقبح ذنب جنيته أيها النمروذ.
فقال النمروذ:
- لا تغير قلبك بالغضب أيها الملك ، فإني سأخبر سيد الخدم بغضبك وأعـد العلف لخيولك.
لم يكن تفقد الخيول رغبة من بعنخي في إشباع هواية ركوب الخيل وإعدادها لرهانات السباق أوممارسة رياضة البولو .... ولكنها جاءت جزءا من تفقد القائد الأعلى لجهوزية قيادة كتيبة من سلاح المدرعات بمقاييس هذا الزمان .... ولم لا ينشغـل قائد ملهم مثل بعنخي بهذا في زمن الحرب خاصة ، وقد إنشغل قبله نبي عظيم مؤيد من السماء هو سليمان بن داود عليهما السلام باستعراض الصافنات الجياد حتى توارت بالحجاب؟؟
كانت هذه إذن ؛ كل الحقيقة فيما يتعلق بحكاية الخيول .. وسنظل نظلم ملكا عظيما من ملوكنا ، لو استمر بعضنا في ابتسار مجد هذا الملك العفيف عبر التمسك بالقول أن بعنخي جرّد الجيوش لغزو مصر لمجرد إسـاءة حاكم بهـا للخيـول.
أو ربما كان البعض هؤلاء قد إنساقوا منبهرين خلف خطوط الموضة الإنسانية الحديثة الجوفاء رغم جاذبيتها، والتي تتزعم حفلات الاستقبال والكوكتيل فيها بعض زوجات أثرياء الغرب ، والقواعد المتهالكات من نجمات هوليود السابقات.. ثم باتت الآن تغزو دول العالم الثالث (على غرار إنجرار البعض خلف مدافعات جانبية من قبيل ((الإشتراكية في الإسلام)) أبان سطوة الاتحاد السوفيتي على الفكر العربي بعد نكسة يونيو 1967م ، ثم ((الإعجاز العلمي في القرآن)) خلال العقدين الأخيرين من سنوات القرن الماضي) ....
وعليه فقد تخيّل أصحاب فكرة الخيول ، أنهم بذلك يعطون إنطباعا بالحداثة في مدحهم وإطرائهم لمليكهم التاريخي ، وإشباعا ذاتيا بأن بعنخي كان من بين رواد ((جمعية حقوق الحيوان)) ... هذه الجمعية التي نشأت في الغرب كما أشرنا ، والمثيرة للجدل في حقيقة نواياها المبيتة خلف الستار نسبة لتوجهاتها الصليبية والأنجليكانية الواضحة من جهة ... وبسبب أن جـل إهتمام منتسباتها المشـار إليهن ينصب على فئة ((الذكـور من كلاب الـوولف)).
... وكان عابدا لكل آلهة وادي النيل
كان بعنخي على ما يبدو على قناعة بأن أرض مصر هي بمثابة ((الأراضي المقدسة)) بمفاهيم هذا الزمان .... ولأجل ذلك لم يخلو تدخله العسكري في مصر بهدف إرساء دعائم الاستقرار في وادي النيل .. لم يخلو من مسحات دينية واضحة المعالم قام خلالها باداء مناسك ((الحج)) والزيارة لكل معابد مصر، وعلى نحو يرضي به كل الآلهة المتعددة حسب ديانة وقناعات ذلك الزمان ، في هذا المكان من وادي النيل الممتد من جبال الحيشة جنوبا وحتى المصب شمالا.
وعلى سبيل المثال كان االنمروذ قد أهدى لخزينة بعنخي مقدارا عظيما من الذهب والفضة والجواهر والخيول ، وذكر خلال مقابلته له أن هذه الأموال بمثابة جزية يدفعها له .... ولكن بعنخي لم يكن في حاجة للذهب والفضة والجواهر، وهو القادم من أرضها. فأمر بإهداء هذه الأموال إلى خزينة معبد آمون رع في الأقصر.
وقبل اهتمامه بحقوق الحيوان كان بعنخي أكثر اهتماما بحقوق الإنسان ودون كيل بمكيالين ... فلم يعرف عن بعنخي أنه قتل واحدا أو أكثر من أهالي المدن التي اخضعها ... وان جل القتلى كانوا من العسكريين المقاتلة الذين وقفوا في طريقه وخاضوا معارك ميدانية ضد جيشه . وقد كان بعنخي حريصا على منع قادته من ممارسة أي نوع من أعمال الانتقام والنهب والسلب والاغتصاب ضد الأسارى والأهالي ، وعلى نحو كان عادة مايحدث في أحوال أخرى مماثلة ، وبمباركة أو غض طرف من القيادة العليا بعد وقوع كل مدينة محاصرة بالقوة في قبضة محاصريها منذ فجر التاريخ وإلى الآن ..... وما نحن بما جرى في كوسوفو على يد الصرب أو ما يجري في فلسطين على يد اليهود ، وفي العراق بعد احتلاله على يد الأمريكان بالصـم والبكــم أو العـمـايـا.
وقد حرص بعنخي على زيارة كافة المعابد الدينية المقدسة في ذلك الزمان ، والدخول للصلاة وتقديم الهدايا والقرابين والجلوس إلى الكهنة والسدنة. بل كان عادة ما يرسل الوفود أمامه تفاوض أول ماتفاوض على إخلاء الطريق لموكب بعنخي لزيارة المعبد والصلاة وتقديم القرابين ....
جاءه ملك أهناس بهدايا من ذهب وفضة وجواهر وأحجار كريمة وخيول مطهمة ، فقبلها ومنح الأموال إلى معبد ((بتاح)) وكافة اوثان ((منف)) .... وأقام الصلاة في معبد ((شيتي)) وإلى الإله ((سوكاري)) ..... وأعلن هناك أنه قد عفا عن الجميع ما عدا الطغاة .. ونهى عن قتل وسلب المدنيين أو من يستسلم من القادة والرؤساء والعسكريين. وأقسم انه لن يقتل إلا من أغضب المعبود .... ففتحت بيوت الخائفين أبوابها ، وخرجت على إثر ذلك الجموع من شعب مصر تترى دون خوف. ونشط الجميع خلف أرزاقهم ، ودارت عجلة الانتاج والبذر والحصاد ، وقد باتوا يجدون الإطمئنان وينعمون بالسـلام .... وهو لا شك كان على دراية تامة بأن تعدد دورة الانتاج الزراعي في مصر خلال الموسم الواحد (على عكس السودان) لا تحتمل التأخير في البذر والحصاد وإعداد الأرض للمحصول التالي...... ولأجل ذلك بادر إلى إشاعة الإطمئنان وسط أفراد شعبها من ملاك الأراضي والفلاحين تلافيا لما قد يهدد مصر من مجاعات.
ومضى بعنخي في طريقه نحو شمال مصر على هذا المنوال ، يشيع السلام ويشدد على الاستقرار. ويغمر المعابد بالهدايا والقرابين حتى وصل إلى ((معبد الشمس)) وقد أصبح ضمن ضواحي القاهرة حاليا ، فصلى الملك بعنخي هناك مرتين وأقيمت لأجله لاحقا ((صلاة الباب)) ، وهي صلاة خاصة يؤمها كبار الكهنة ، وادخل بعدها إلى مقام الإله ((رع)) حيث شاهد السفينة المقدسة وأطل من الكوّة المخصصة فشاهد الشمس في ضريحها .... ثم خرج بعنخي من المقام وأمر بإغلاق الباب وختمه بختمه الملكي. وأمر الكهنة أن لا يفض أحد ختمه ولا يسمح لأحد بدخول المقام تبجيلا له وحفاظا على حرمة الدين بمفاهيم جاهلية العقيدة في ذلك الزمان والمكان.... وارتحل بعنخي إلى معبد ((توم)) حيث أدى فيه الصلاة كذلك. وواصل بعنخي سفره في مدن الوجه البحري والدلتا ، يزور معابد آلهتها ... يحي الطقوس الدينية الخاصة بها ويكسو الأضرحة ويقدم القرابين ويطعم الجوعى ، ويهدي كل ما يجري تقديمه له من جزى إلى المعابد ، بغرض تعميرها وصيانتها والإنفاق على متطلباتها ومتطلبات ومنصرفات الكهنة والحراس والقائمين على أمرها من بخور ومأكل وملبس وغير ذلك .....
وهكذا نرى أن الأمر لم يكن غزوا كما يشيع البعض ، ولكنها كانت بركة ونعمة وأعياد ، شملت كل مصر عم فيها الخير على يدي بعنخي وشمل السلام والاستقرار الربوع.
من آثار الحضارة السودانية
بعنخي يحقق لمصر الاستقرار الذي جاء من أجله :
ربما كان للقوة السوبر التي يمتلكها بعنخي في شكل إدارة خلاّقة ، وموارد ضخمة مستغلة واقتصاد مزدهر وجبهة داخلية متماسكة ، وجيش جرار مدرب ومؤهل على أقصى درجة من الاحترافية ، سببا في إقناع أمراء المدن المصرية بان لا سبيل لمقاومته ... ثم ان بعنخي كان يمد يديه بالسلام لكل أمير منهم . ولم يكن في حقيقة الأمر يضمر غضبا سوى على حليفه السابق النمروذ ، جراء نقضه للحلف من جانب واحد ، وخيانته للعهد والصداقة التي ربطت بينهما ... ولم يكن يبدي شكوكا سوى لنوايا تفنخت .... وكان بعنخي يسعى كذلك حثيثا لإرساء دعائم العدل في أرجاء وادي النيل على نحو عام، ليتفرغ الشعب للانتاج والعبادة التي كان يوليها اهتماما بالغا كما هو واضح من سيرته ... ولأجل ذلك فقد تلمس في سياسة تفنخت الطموحة الكثير من المخاطر التي قد تحدق بهذا المسعى الذي كان يرتجي فيه الخير لمصر وينسحب ذلك على نبتة بطبيعة الحال ....
لقد كان تفنخت ذكيا ولكنه لم يكن شجاعا ولا شهما أو صاحب رسالة عامة ومبدأ قومي ثابت على استعداد للتضحية بنفسه من أجله ... كان واحدا من أولئك الملوك والقادة الذين لا يمثلون سوى قبيلتهم ولا يعملون إلا من أجل تحقيق مصالحها وحدها ولسان حاله يردد : ونشرب إن وردنا الماء صفوا ... ويشرب غيرنا كدرا وطينا
بل وكان من اولئك الذين ولا يعبدون سوى القوة ... فيبطش بها إن كانت له ويستكين لها وينشد العفو والمغفرة إن كانت عليه ... فترك جيشه في منف ثم ركب جواده وهرب لاجئا إلى عقر داره في الشمال ، بعد أن أوصى قادته بالثبات أمام بعنخي الذي كان على راس جيوشه في ميدان المعارك !!! فكان لزاما على هكذا جيش أن يخشى المواجهة ويميل للتشتت والهزيمة والخذلان ساعة اختراق بعنخي لحصون وأسوار منف التي كان جيش تفنخت قد تحصن داخلها.....
ورغم كل ما أثاره تفنخت سابقا وحاضرا من تصرفات وطغيان فإن بعنخي لم يتعامل معه كعدو شخصي ... ولكن جل ما كان يخشاه بعنخي هو أن تقع مصر باكملها فريسة لملك يحتل موقع القطب الواحد بمثل هذه القيم والمثل والمفاهيم فيضيع امرها ويسودها الطغيان والقتل من كافة جوانبها ... ولأجل ذلك ؛ فإن لم يكن من بقاء تفنخت بد؛ فلا مناص من قص شواربه وتقليم أظافره ..... فمصر بلد زراعي يلزمه الاستقرار في المقام الأول، وحكمها بذهب المعز خير من حكمها بسيفه ..... ومجالها الحيوي في حقيقة الأمر عبارة عن شريط ضيق يحيط بجانبي شريان مائي ينبع بعيدا عنها بمسافات خرافية .... وهي ببراعة الوصف القرآني الكريم ليست سوى أرض جرز ساق الله عز وجل الماء إليها في آية من آياته الكريمة ، وفضل منه وإحسان ونعمة لا تخفى على العقل.... ووراء كل ذلك ليس سوى الصحراء القاحلة حيث لا ملجأ ولا مهرب إذا وضع السيف فوق الرقاب ...
وعلى نحو كهذا فإن هيمنة قطب أحادي طاغية مثل تفنخت على مقادير شعبها سيكون مدمرا لها ومهدد لاستقرار نبتة في الجنوب على حد سواء ...
ولكن الواقع ايضا كان يفيد بأن تفنخت ليس سهلا ، فهو يمتلك اقتصادا زراعيا قويا ومياه وافرة ويهيمن على شبكة معقدة من شبكات الري ، ولديه جيش بلغ تعداده مئات الآلاف. ...... وأن القضاء عليه يستلزم القضاء على كافة المشواشيين الذين ليس لديهم ما يتحصنون به بوصفهم أجانب قادمين من ليبيا ... ليس لديهم سوى بعضهم البعض يلوذون به .. أو بمعنى آخر فإنه لم يكن لديهم مجال حيوي في مصر يلجأؤن إليه ويتفرقون في خلاله .... وبينهم وبين موطنهم الأصلي في ليبيا الصحراء وآلاف الأميال وسنوات طويلة من الإغتراب والهجرة لاشك أنها قطعت جذورهم وعلاقتهم باصولهم .... وعليه فلا مناص في حالة المواجهة العسكرية إلا من أمر واحد هو كسر بيضتهم وإستئصال شافتهم وإبادتهم من على وجه ارض مصر تماما .... وتحويل من تبقى من أطفالهم ونسائهم إلى عبيد وإماء وجواري ومحظيات ...
ولكن هذا الخيار لم يكن من خيارات بعنخي. وهو كما راينا حريص على دينه وإرضاء آلهته ونظافة كفيه من دماء الأبرياء أو من استسلم وابدى الخضوع واستكان... ثم هو صاحب مبدأ وقيم ومثل معلنة في مجال الحق والعدل والشرف والرجولة لا يحيد عنها.
كانت في البساط معادلة صعبة ، وخيارات اصعب تزاحمت أمام فكر وعقل وتفكير بعنخي ... وربما كان بعنخي محظوظا حين أسعفه تفنخت بالحل الذي كان يرتجيه ، بإحلال السلام دون خوض حرب يتعرض فيها المشواشيين إلى الإبادة الجماعية على يديه فيتلطخ سيفه بدمائهم .......
ولأجل ذلك لم يكن بعنخي حين أعلن امام ابواب مدينة ((منف)) أنه لم ياتي إلا ن اجل تحقيق السلام في ربوع مصر .... وأنه لن يسئ إلى أحد .... وأنه لن يعاقب إلا من طغى .... ولن يقتل إلا من أغضب المعبود ....... لم يكن يزايد أو يشيع كلمات جوفاء بغرض الاستهلاك المحلي
كان بعنخي يعني ما يقول .... ويرغب في أن تصل رسالته تلك إلى الجميع وعلى راسهم تفنخت .....
ووصلت الرسالة بالفعل إلى تفنخت. فأرسل إلى بعنخي يعرض الاستسلام دون شروط ويعلن الخضوع .... وكانت فحوى رسالته إلى بعنخي كالآتي:
((أكظم غيظك أيها الملك الظافر فإني وجل من رؤيتك ولا طاقة لي على حربك وقد امتلأ قلبي رعبا منك لأنك كمعبود الجنوب ""نبتا"" وكمعبود الشمال ""مونت"" وأنت الموصوف بالثور المنصور. إن أردت شيئا لا يعارضك فيه احد وقد بلغت الآن جزائر البحر وأقمت في حمى المعبودة ""نيت"" فرارا من سطوتك وخشية من تعنيفك الموجع وتوبيخك المؤلم فأنا الخادم وأنت السيد . أفلا يعفو السيد عن خادمه؟ خذ لخزانتك كل ما املكه من ذهب وحجارة نفيسة وخذ أجود ما عندي من الخيول والسروج . وابعث برسول من قبلك ليزيل الرعب من قلبي ، فاذهب معه إلى المعبود واحلف يمين الطاعة أمامه))
.... فكان سرور الملك بعنخي بذلك لا يدانيه سرور وغبطة ، فلم يتلكأ ولم ينتظر بل اسرع بإرسال كاهن معبد الشمس الأكبر والقائد العام للجيش إلى تفنخت ، فأعطاهما تفنخت ما وعد به من جزية وذهب معهما إلى معبود الشمال ((مونت)) فأعلن التوبة ، وأقسم يمينا مقدسة بولائه للملك بعنخي . فقبل الملك بعنخي توبة تفنخت وعفا عنه ورضي باستلام الجزية منه. وأقرّه على ملكه في شمال مصر. وجعله نائبا له في مصر.
وعلى إثر ذلك جاءت الوفود والأمراء تترى على مقر الملك بعنخي من كل انحاء مصر فاستقبلهم جميعا. وكان قد امر بإدخال الملك النمروذ عليه وحده أولا . وجعل بقية الأمراء بمن فيهم تفنخت ينتظرون واقفين على أرجلهم في الخارج . ثم أدخلهم بعد أن قرّب إليه الملك النمروذ وأجلسه قريبا منه للدلالة على اهميته الاستراتيجية لديه ، وليدرك باقي الأمراء بمن فيهم تفنخت أن لا مجال لأحلام السلطة والمساومة واللعب بالنار على تخوم ومناطق تماس الحدود الشمالية لمملكة نبتة.
عــودة بعنخي للسودان :
كان وداع الشعب المصري وهو يهتف على طول الطريق الذي اتخذه الملك في عودته استفتاءا شعبيا لا تنقصه الشفافية ، حول التأييد المنقطع النظير للسياسة التي اتبعها بعنخي، في معالجته لعوامل عدم الاستقرار التي سادت مصر في تلك الفترة التي عاصرت سنوات ملكه .... وحيث لم يكن التشرذم وحده هو المشكلة ولكن كان لهذا التشرذم ذيول أخرى خطيرة ، أهمها إهمال الجانب الديني وعلى نحو لم تعد فيه المعابد وأوثانها التقليدية تحظى بدعم الحكام المالي ، فأصبحت خرابات ينعق فيها البوم. وبات الكهنة والسدنة يتضورون جوعا ..... وجاء حضور بعنخي إلى مصر بمثابة الزيارة التي أعادت الروح إلى هذه المعابد ومعبوداتها وطاقهما الكهنوتي، فأعاد بذلك اللحمة إلى المجتمع المصري من جديد.
وفي واقع الأمر فإن مصر تظل مدينة لبعنخي ، لأنه عمل جاهدا على إعادة الاستقرار إلى ربوعها ، واجتهد للحيلولة دون تفكك النسيج الاجتماعي بها ... وهو وإن كان قد فرض نفسه كمرجعية لكل الأمراء ، إلا أنه ترك هؤلاء على حكم ولاياتهم ومدنهم دون تغيير بمن فيهم تفنخت ، الذي ظل على عهده ويمين الولاء الذي قطعه لبعنخي حتى وفاته.
ومهما قيل ويقال فإن التاريخ لابد أن يحفظ لبعنخي أنه الملك والقائد الأجنبي الوحيد الذي دخل بجيشه بلادا فاستقبله شعبها بالورود والرياحين ، ثم غادرها عائدا إلى وطنه وقد خرج شعبها بكل عفوية وصدق يودعه ويحي موكبه على جانبي الطريق ، وعلى ضفاف النيل العظيم وهو يهتف بكل الصدق والعرفان بالجميل ويغني له الأناشيد والأهازيج مرددا:
((أيها الملك المنصور بعنخي . لقد أتيت وحكمت الوجه البحري وصيّرت رجاله أذلة كالنساء وحل الفرح في قلب أمك التي ولدتك فصرت شهما. وأعطاك ((آمون)) جوهره ، فبشرى لك أيتها البقرة التي ولدت ثورا كان له على ممر الازدهار ذكر مخلد وملك مؤيد ألا وهو الملك بعنخي الملك المحب لقسم ثيبة))
ثم مالبث أن مات بعنخي ، وخلف بعنخي على الحكم الملك ((كاتشا)) الذي كان ضعيف الرأي ، فنقض تفنخت عهده مما أضطر كاتشا إلى إخلاء مصر من جنود نبتة وحامياتها التي تركها بعنخي ... ثم ما لبث أن توفى تفنخت فتولى الحكم بعده إبنه باكوريس الذي نجح في بسط سلطته على كامل مصر بعد ذلك..... ولكن سرعان ما عادت نبتة لتفرض سلطتها من جديد بعد وفاة ملكها كاتشا وتولي ((الملك سباقون)) مقاليد الحكم فيها....... ولهذا قصة أخرى وواقع وتفسير جديد آخر.
التعليقات (0)