المكي مصطفي عثمان عشت يا مبدع ...
بقلم / الزبير محمد علي
صحيفة صوت الأمة 19/1/2010
في محيطنا العربي عامةً وفي وطننا السودان خاصة تهميشاً للمبدعين كتهميش الأنظمة الحاكمة لحقوق الإنسان والحريات العامة .
وهذا بخلاف سلوك المجتمعات المتقدمة التي تبحث دائماً عن المبدعين أكثر من بحثها عن النفط والذهب ، وتوفر لهم معينات الحياة التي تساعدهم علي تنمية قدراتهم الإبداعية .
إن بلداننا بإنتهاجها لهذا السلوك تكون قد ساهمت تاريخياً وأسهمت حاضراً في هجرة العقول المبدعة إلي الدول الغربية .
إننا نجد لهولاء عذراً لهذه الهجرة وفقاً للشواهد التالية:
كم ممثل مات في بلادنا لأنه لم يستطع توفير ميزانية السفر إلي الأردن .
وكم شاعر طُرد من منزل الإيجار لعجزه عن دفع ميزانية الأُجرة المنزلية ، إننا لا نجدُ دليلاًً علي ذلك أقوي من عجز السفارة السودانية في مصرعن دفع أُجرة الشقة التي أقام فيها شاعرنا الكبير بازرعة في القاهرة عندما كان يتشفي هناك .
كثير من المبدعين لعدم تسكينهم في مؤسسات خاصة ، لجأ إلي قيادة الركشات ، وأخرين لتأجير الأمجادات طلباً للرزق في دول تُحاصر مواطنيها في رزقهم إلا من أنعم الله عليه بحظوة عند أهل السلطة .
إنه واقعٌ مرير كالحنضل ، واقعُ صوره البروفيسر عبد الله الطيب عند رثائه للشاعر محمد المهدي المجذوب بقوله :
وكانت بلادي تقبُر الناس قبل أن يموتوا وكم فيها النفيس غبين
إلي متي سيظل حال المبدعين في بلادي بهذه الصورة القاتمة ؟ متي تدرك أنظمتنا أن تكريم المبدعين والبحث عنهم أغلي وأثمن من البحث عن اليورانيوم والنفط ؟ أو إن شئت قل المدرعات والرصاصات المطاطية!.
إن مبدعي اليوم مع واقعهم المؤلم الذي يعيشونه ، إلا أنهم لم يبخلوا علي مجتمعنا في وقتهم الضيق جداً بما يحملون من إبداع.
ولكن مع إجتهادهم هذا فإن الجهات المعنية لا تُولي إهتماماً بما يكتبون ، فتجد أكثرهم كتب رواية أو ديوان شعر ، إلا أن كتاباته تظل حبيسة في غياهب المخازن بسبب العجز عن دفع تكلُفة الطبع.
في يوم الإثنين 4/1/2010ِ كنت في مقر صحيفة صوت الأمة أتبادل الحديث مع الإخوة في أسرة التحرير وعلي رأسهم أستاذ صديق عبد الله ، وكان متزامناً مع ذلك إجتماعاً للمكتب السياسي لحزب الأمة ، وعند خروجي من مكاتب الصحيفة في وقت متِأخر من الليل صادفت الأستاذ المكي مصطفي عثمان خارجاً من الإجتماع ، فهاتفني منادياً شخصي الضعيف قائلاً لي : هذا هو ديوان شعري الذي طُبع قبل أيام . قلت له بثقالة زائدة : تُريد أن تهديه إلي . فأستحي لخلقه القويم وتواضعه الجم قائلاً لي بصوت منخفض : نعم هدية ! .
قال لي ذلك علي الرغم من أنه يُعاني عجزاً في سداد فاتورة الطبع – ولكنه ربما إستدرك أنني طالب وحال الطلاب معلوم !- في عهد الإنقاذ الحالي.
وبعيداً عن الحالة المشئومة تلك ؛ فإننا سندلف مباشرةً إلي سياحة في ديوان المكي الذي طُبع في شهر ديسمبر الفائت بعنوان ( الزود )، وهي ستكون سياحة روحية ، فكرية ، سياسية ، إجتماعية.
السياحة الروحية :
لقد كانت قصيدة المكي في مدح خير البرية (ص) رائعة بكل ما تحمله الكلمة من معني ، وأوجه القأري مباشرةً إلي إقتطاف ثمار تلك الفاكهة النبوية :
وله الشفاعة يوم هولِ جهنَم هادي الأنام بحبه كم أسعدا
لمكارم الأخلاق جاء متمماً بين الشرائع بالشمول تفردا
تكليفه للعاقلين بشرعه يدعو بحكمته وكم ذا أرشدا
لله درك أيها المكي لقد صورت لنا نبي الرحمة (ص) بصورته المتكاملة ، فلم تكتفِ بمدح الصوفية في التركيز علي الروح والأخلاق فقط ؛ بل تجاوزت ذلك إلي أن التكاليف الشرعية نفسها لا تقوم إلا علي العقل ؛ وهذه الميزة يُحاول بعض المسلمين نفيها عن الإسلام بحجة أن الأحكام الشرعية واضحة لا تحتاج إلي فهم ! فقط علينا التطبيق أما الفهم فمصيره ( من تمنطق تزندق!) .
السياحة الفكرية :
لا شك أن الساحة الفكرية في بلادنا الإسلامية تشهد جدلاً محتدماً بين مقولات التقليد للأصل كرِكون ، ومقولات إتباع النهج الحداثوي كإرتهان .
ولكن هناك تيار ثالث لا يقبل التضحية بالماضي من أجل الحاضر ، ولا يرضي برهن الحاضر والمستقبل للماضي ؛ بل يري أن في الماضي ثمة هدايات قطعية واجبٌ أخذُها ، وإرشادات ظنية واجبُ فحصُها ، ومنجزاتٍ حديثة واجبٌ تمحيصُها لتتجنب أمتنا أتون الصراع الفكري المستمر بين تياري التقليد والحداثة .
هذا المشروع الفكري الوسطي جسده لنا المكي في أبياته التالية :
دين التسامح دين العفو دينكم دين النجاة من التعذيب في لهب
دين الرياضة دين الفن متزناً لا للمجون أباح اللهو والطرب
دين تحرك فقهاً في تعامله نحو المصالح نفعاً غير مستلب
دين تمدد بين الناس بالحسني بالحلم أوصي فلا للقهر والغضب
أعطي النساء حقوقاً ليس ينقصها بالبر أوصي لذي الأرحام والقرب
السياحة السياسية :
في الفكر السياسي إيديولوجيات تعتمد القهر أسلوباً للحكم . إيديولوجيات تمتد من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار ولكن يربطها الإستبداد والتسلُط كوسيلة للطلوع فوق رقاب الناس ،إن التاريخ الإنساني ملئ بأمثال هؤلاء– هتلر- موسليني – ستالين – وفي وطننا العربي – التجربة البعثية في سوريا والعراق – والتجربة الناصرية في مصر.
لقد شهد السودان في تاريخه بعد الإستقلال تسلطاً مقتبساً من هذه الإيديولوجيات الإستبدادية ، ولكن الوطنيون من أبناء السودان مافتئوا يُقاومون ذلك الإستبداد مستخدمين في ذلك كافة أنواع المقاومة – من المواجهة العسكرية وحتي المواجهة الأدبية التي تبث الروح المعنوية لدي الناس .
إن المكي بشخصيته جسد هذه المقاومة بأشكالها المختلفة ، فالرجل ذهب إلي أرتريا وقاوم النظام مقاومةً عسكرية ، ثم ما برح يُنظم أبياته الأدبية مستنكراً سلوك النظام ونحيل القأري هنا إلي قصيدته بعنوان الدبابة ؛ وهي قصيدة سطرها عندما جاءت قوات الأمة في نداء الوطن فلمَا وصل كبري الفتيحاب ورأي الدبابة قال:
يا دبابة كفاك إتلمي ظلمك طول يا دبابة
يالأرهبتي الشعب الطيب قسمتيهوا شيوخ وتعابة
يالخليتي بناتنا عوانس يالسكنتي رجال عذابة
ربنا قادر إنه يزيلك وينهي الدانة يميت ضَرابها
أحسن ترجعي لثكناتك تحرسي وطنك يا دبابة
وتخلينا نعيش حرية ونار الفتنة نقفل بابا
السياحة الإجتماعية :
الشعر له أهمية في مجالات حياتية مختلفة ، من بينها الجانب الإجتماعي ، وقد ذكر لنا د/ إبراهيم النقر أستاذنا في الجامعة أن الشعر في مجالاته المختلفة يمكن أن يساعد في رفعة المجتمع وتقدمه أو إنحطاطه ، مستشهداً بأهمية الشعر في الجانب الإجتماعي ؛ حيث أورد أن ثقافة الشلوخ للنساء لم تتوسع في المجتمع السوداني إلا عندما تباري شعراء ذلك العصر في مدح الشلوخ علي نحو ما قال الشاعر:
قُوم بينا قُوم بينا حلو درب الطير في سكينة
ودرب الطير هو نوع من أنواع الشلوخ ، ولكن عندما رفض بعض الشعراء هذا التوجه ، وذهبوا إلي حي المسالمة الأمدرماني– حيث نسائها لا يتشلخن – علي نحو ما جاءت به الأُغنية ( لي في المسالمة غزال!) أسهم هذا التوجه الشعري الجديد مع عوامل أُخري في إزالة ثقافة الشلوخ من دنيا المجتمع السوداني.
إن شعر المكي في جانبه الإجتماعي لم يتطرق إلي مثل هذه القضايا ، وإنما ذهب إلي منحي إجتماعي لا يقل أهمية عن سابقه ، فقد ركز في ديوانه علي تنظيم الشعر في أشخاص قدموا لهذا الوطن زمرة شبابهم منهم من قضي نحبه ، ومنهم من هو حيٌ بيننا ولا زال يبذل الغال والنفيس في سبيل نصرة الدين والوطن .
إنني لا أريد أن أكون حاجزاً بين التعرف علي تلك الشخصيات التي مدحها أو رثاها المكي في ديوانه؛ تلك الشخصيات هي :
الإمام الصادق المهدي قال فيه :
فريد عصرك في القادات إن خبِروا فمن لغيرك دمع الحب ينهمر
سمح الطليعة لا تكفيك رؤيته كم بالتشوق يهفو القلب والبصر
أحببته في الله حباً لا أحدده فدونه النفس والأهلون تهتدر
في رثاء السيدة سارا الفاضل قال :
فكان حظك في الأزواج من أسرِت في ظل حضرته الألبابُ والفكر
نذرت عُمرِك للأوطان ساخيةً لحب شعبك منك القلب ينفطر
أفلت شمساً فبات الكون في ظُلمٍ وبات شعبي علي الأحزان يصطبر
في مدح الأميرعبد المحمود أبو قال :
صوتٌ تلا آياته كم للقلوب يُرقق
أسر العقول بوعظه في القول لا يتشدق
إنني مع إجتهادي لوضع صورة الديوان أمام القارئ ، إلا أنني أقول أن ما أوردته في هذه المقالة هو بمثابة ما يُكفَي شُرب الطير من ماء البحر ، ولا أجد تعبيراً أنقله للقأري أبلغ من تقديم الإمام الصادق المهدي للديوان حيث قال :
" من أراد أن يطَلع علي تجسيد للشبابية ، وتعبير عن ملامح كياننا بشقيه الأنصاري والسياسي فليُقبل علي هذا الديوان ذي القصائد القصيرة الرشيقة الآسرة ".
كما أنني أود أن أشُير إلي أن هذه المقالة تاتي في إطار كسر الروتين العام المعتاد في مجتمعنا والذي فحواه ( أن الإعتراف بإبداع الأشخاص يكون بعد موت المبدع ) وفي ثقافتنا الشعبية ( الله لا جاب يوم شُكرك! ) في إشارة إلي أن يوم الشُكر هو يوم الموت.
كما ألفت النظر في خاتمة هذه المقالة إلي المقتدرين من أبناء كياننا ، إلي الإسهام مع الأستاذ المكي في تغطية تكاليف الطبع ، ذلك أن هذا الديوان هو ثلث إنتاج الرجل من الإبداع الشعري ، ولكن لا يستطيع أن يطبع تلك الدواوين مع عجزه عن دفع تكاليف طباعة ديوانه الحالي بعنوان ( الزود )
إننا نتعشم أملاً في ميسوري الحال في كياننا إلي المساهمة مع الأخ المكي مالياً لتغطية تكلفة الديوان رعايةً للإبداع ،وترقيةً للأدب الأنصاري الذي ألهب في الماضي وسيُلهب في المستقبل نفوس الناس.
التعليقات (0)