ثورة النّعاج
سامي القريني
لِنفترضْ مثلاً، أنّك رأيتَ - مصادفةً - نعجة تثور في وجه ذئب، وتثغو بأبجديّة مستعارة من هنا وهناك وكأنها تريد أنْ تثبت وجودها المتواضع أمام هيبة الذئب، ولكنْ .. بطريقة غبيّة جداً ومهارة بائسة لا توصلها إلاّ إلى اشمئزازها من غبائها وتهوّرها، لتواجه حتفها بمحض إرادتها. أكان ذلك انتحاراً، أمْ موتاً بمفهوم مختلف ؟ حين يعبر هذا المشهد القصير والمضحك حدّ الغثيان أمام عينيك المحدّقتَين بعمقٍ إلى تفاصيله، تحاول أن تجتهد في إغلاقهما وفتحهما مراراً في آن واحد، لكأنّك تسعى إلى الخروج من دائرة رؤاك. لكنّ يقينك يتوكّأ على عكّاز شكّك هذه المرّة. يستحيل بعد ذلك تعليقك على ما شاهدته أو إبداء رأيك فيه. إنّ ما رأيتَه لا تصدّقُ رؤيتَه عين، ولا تستسلمُ لسماعه أذن. لأنّ النّعجة أنثى الخروف، وهي حيوان مسالم إلى أبعد الحدود، تدرُّ اللبن والحليب وتهيم باحثة عن غذائها، تلك هي مهمّتها الحقيقية في الحياة. ولكنّك قد تصاب بالدهشة وتصطدم بك هواجس تساؤلاتك عندما ترى نعجة لا تدرّ غير سمومها وتخلّفها. هل أرادت النعجة «الرجعيّة» أن تتمرّد على تقاليدها لتمارس حياتها بشكل آخر، أو تحت مظلّة «تقدميّة - تنويريّة» ؟ أم أنها أعلنت حربها على نفسها قبل إعلانها الحرب على غيرها، فماتت ؟! أسئلة كثيرة تفتّش عن إجاباتها في هذه الصحراء الثقافية القاحلة. نستنتج من خلال الحادثة التي رويتها أمراً مهماً للغاية، وهو أنّ الثقافة اليوم لم تعدْ تخصّ الكائن البشريّ فحسب، لأنها متوفّرة للنّعاج أيضاً ! بدليل أنّ الحالة الثقافية ليست سوى مجموعة من المظاهر، تشمل الممارسات والقواعد الأساسية في كيفية العيش والتّأقلم بأسلوب حضاري. إذن، فهي ملك للكائنات الحيّة جميعاً. قد يكتسبها الإنسان بالقراءة والبحث وأساليب المعرفة المتنوعة، أما بالنسبة إلى النّعاج فإنها تحصل عليها بالفطرة لأنها لا تتقن القراءة. فلا تلومنَّ نعجة «نصف مثقفة» - فطرياً - إذا غضبت وثغت بما يصعب عليك فهمه - كإنسان -، وارفع كأس صبرك وطمأنينتك بصحة الثقافة !
قالت لي : وَجّهنا إليك دعوة للمشاركة في أكثر من «أمسية شعرية» في مواسم ثقافية مضت، فاعتذرتَ عن المشاركة بعد إلحاح واتصالات «لم يُردّ عليها». ماذا تطلب من رابطة الأدباء بعد كل هذا ؟! سألتُ نفسي : بعد كل هذا ؟! ، يا أَلله .. «عدم فهم الآخر .. كارثة !» كما يقول آلبير كامو. سوف أُبقي سؤالها دون إجابة لأسباب، أولها أن تدرك هذه المؤسسات الثقافية أن ما نطلبه ليس هدفاً شخصياً، وليس مشاركة في مهرجان داخل الكويت أو خارجها، وليس بحثاً عن جائزة أو «مخصّصات» مالية أو مناصب إدارية. وثانيها أن تكون لدى هذا المبدع - في أي مجال كان - عقلية جادة تستوعب الرأي الآخر وتناقشه بكل محبّة واحترام. ليس بيننا مماتنة على الإطلاق فالودّ مازال قائماً بيننا، وكلنا نريد حراكاً ثقافياً يواكب العصر. فمن الذي سيصغي إلى مقترحاتنا إذا كان مجلس إدارة الرابطة «المفخّخ» لا يستطيع تنفيذ اقتراح بسيط كفتح باب العضوية للأدباء العرب. وأفدح الكرب أن يقترح أحد الأعضاء تغيير اسم الرابطة، من «رابطة الأدباء»، إلى «رابطة الأدباء الكويتيين». يا للإنجاز ! أين القومية العربية التي كانت متجذّرة في القلوب قبل عقدين من الزمن ؟ قد تُغيّر الحروب أموراً كثيرة، ولكنها لا تُغيّر مبادئ المرء. السؤال هنا، ما الذي حدث في عقل رابطة الأدباء بعد الغزو العراقي ؟ هل هو «الزهايمر الثقافي» أم ماذا ؟ يرى البعض أن ترميم مطبخ الرابطة وتزيين الحديقة من الإنجازات التي تستحقّ الشكر، فلْنشكرْهم، لكي لا نلام ! إنّ في صدري ناراً لن تخمد أبداً إلاّ بتحرير المؤسسات الثقافية من رؤسائها الذين شاخت مقاعدهم وهم مازالوا يتربعون عليها. متى سنشعر ببحبوحة الثقافة ودفء الحريّة، ومتى ستصبح أرضنا الممروتة مزدهرة بأزاهير المعرفة ؟ ومتى سنشفى من «إنفلونزا التخلّف» ؟ وماذا سنفعل حين تتزوج «متى» «لا ..» لينجبا «لن» ؟!
سنظل نكتب حتى تتوقف رئة القلم عن استنشاق ما في داخلنا من أنين ولوعة !
التعليقات (0)