المقارنة التاريخية:
شاع كثيرا استخدام منهج المقارنة بين مختلف الحوادث والوقائع التاريخية بالرغم من اختلاف عاملي الزمان والمكان!...المقارنة هنا لها شروطها الموضوعية حتى تكون دقيقة وصائبة لان التاريخ وكما هو معروف عنه انه يكرر نفسه بوسائل وادوات ووجوه متعددة كما ان المتحكمين بالامور هم الذين يرسمونه ويضعونه للاجيال اللاحقة في اكبر مهمة تزوير!وعليه فأن الاستفادة من المقارنة الاستدلالية هي وسيلة ناجحة لغرض قراءة الماضي بدقة وتحليل الحاضر بقوة واستقراء المستقبل بعمق من خلال الاستفادة من تحليل المقارنة التاريخية.
من اكثر الامثلة التاريخية المقارنة شيوعا هي تكون بين الثورات بأعتبارها محركات سريعة الايقاع ومؤثرة في جملة التطور البشري سواء اكانت سلبا او ايجابا،والتي حدثت في حقب زمنية مختلفة،وايجاد الاسباب والظروف والنتائج المشتركة هو السائد ضمن هذا المنهج التحليلي،وقد يصيب الباحث وقد يخطأ ولكن اهمال عاملي الزمن وتراكماته والمكان وتأثيراته هو الذي يضعف المقارنة وفوائدها ويشوه نتائجها!...ومن الخطأ نسب ثورة ما الى اخرى بصورة مطلقة...صحيح ان التأثيرات هي واسعة وتتخطى الحدود وقد تظهر مشتركات عديدة ولكن لكل حدث تفاصيله الدقيقة التي لا تتطابق مع اخر،وعليه فأن المقارنة التي تعطي نتائج نسبية هو الادق في العلاقة بين الحوادث التاريخية المتوالية.
يمكن الاستفادة من المقارنة الاستدلالية بصورتها العمومية في قياس قوة الخصم ونقاط ضعفه في تجاربه السابقة او اسباب القوة والضعف،ومن خلال ذلك يتم النفاذ الى الثغرات بغية اخضاعه!...وقد اخطأ الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عندما توقعوا في البداية انها سوف تكون بطيئة وثابتة من خلال مقارنتهم لها بالحرب الاولى!...بينما فشل العرب في مقارنتهم لميزان القوة بينهم وبين اسرائيل مما سبب لهم فشلا ذريعا في الحروب المشتركة! وهناك الكثير من الامثلة على المقارنة الصائبة والخاطئة.
فرض الايديولوجيات ضمن اطار ثابت في مقاييس المقارنة هو خطأ كبير يقع فيه الجميع!...فالماركسيون فسروا الثورات العربية كجزء من تفسيرهم التاريخي مثلا على انها ثورات طبقية ضد الفئات المتحكمة!واهملوا عوامل الدين او الثقافة والتقاليد القبلية والاجتماعية التي هي عادة مهمشة ضمن الصراع الطبقي المحرك للتاريخ وفق المنظور الماركسي!بل ان الامر وصل حتى للثورات التحررية او الدينية فكانت التحليلات ضعيفة ومخيبة للامال لكون العوامل الاخرى سائدة على عامل الصراع الطبقي!...وهذا ليس محصورا ضمن هذا المذهب الفكري بل ان التفسير القومي للثورات وقع في نفس الخطأ! فقد يكون هنالك اسباب متعددة لا علاقة لها بالعامل القومي قد ساهمت في التحريك والاثارة مثل الرغبات المحلية الانية،ولكن قولبة الحاضر من خلال مقارنته ببعض الحوادث في الماضي والتي لعب فيها العامل القومي دورا رئيسيا،هو خطأ كبير لعدم اعترافه بالعوامل والعناصر المستجدة في الموضوع!.
الكثير من الاحداث تقع نتيجة لتراكمات موروثة وبخاصة في القهر والاستعباد وعليه فأن المقارنة التاريخية هي وسيلة ليست فقط للتفسير بل لاستبيان اقصر الطرق في التخلص من التراكمات المؤلمة التي ينبغي الخلاص منها وفق اطار جديد لا يمكن ان يكون بعيدا عن قراءة الماضي ومقارنته وفق منهج موضوعي لايميل للتحيز او يغض الطرف عن احد!.
مازال الكثيرون يقعون بنفس الاخطاء السابقة وهو اهمال يتحمل وزره الطبقات المثقفة الواعية لانها هي التي تحمل راية القيادة والاصلاح والتوعية، فالجهلاء يسيرون وفق منهج متخلف يعتمد الغرائز البشرية مصدرا له! وعليه فأن التعويل عليهم هو ليس خطأ فحسب بل هو كارثة استطاعت شعوبا كثيرا تداركها ولكن بعد تقديم تضحيات جسيمة!.
من المقارنة التاريخية استنبط الكثيرين من المؤرخين والمفكرين نظريات جديدة ودروسا وعبر لتفسير الماضي والحاضر وايضا توقعاتهم للمستقبل!... القراءة الجديدة للتاريخ هو منهج ثابت ومتجدد بأستمرار ويكشف بين الحين والاخر افكارا مبدعة تعطي تفسيرات دقيقة ومقنعة وتتخلص من القراءات التي يتحكم بها العامل الايديولوجي الذي يكون احيانا ناتجا من الحقبة الزمنية الماضية.
في العلوم الاخرى:
دخلت المقارنة ضمن العلوم الدينية والانسانية الاخرى،فمثلا ظهر علم الاديان المقارن الذي يضع دراساته التحليلية حول منشأ الاديان والمذاهب المتفرعة وتاريخها ومناهجها ويبين نقاط الاختلاف والتلاقي مع الاخرين،وقد تبين للجميع الفوائد العديدة لذلك العلم من خلال تبيان المشتركات بين الجميع والتي تغطي عادة عليها الخلافات الدينية والسياسية وتعطي صورة مشوهة ومرعبة للعاملين في السلك الديني او الدين عموما!...فالحوار الديني والمذهبي لا ينجح الا بعد الاعتراف بحق الاخر في التواجد والخصوصية وهو بذلك يكون احد نتائج الاديان المقارن.
ومن ضمن العلوم الدينية، ظهرت ايضا علوما فرعية اخرى تختص بالمقارنة،مثل الفقه المقارن والذي يتميز بفائدة كبيرة من خلال الاستعانة بكافة مباني وفروع علم الفقه وتاريخه والمسائل الناتجة عنه والمقارنة بينها واصدار النتائج،ويعتبر كتاب الاصول العامة للفقه المقارن للعلامة محمد تقي الحكيم من اشهر الكتب المنهجية التي تناولته بالشرح والتعليق.
في علم اللغة المقارن برزت اهميته من خلال معرفة اصول اللغات المشتركة واللهجات المتفرعة وتبيان القواعد اللغوية ومنشأها واصول الكلمات ومشتقاتها واللفظ ومخارجه والتطور الذي يحصل لكل لغة وهي مثل الكائن الحي ينمو بأستمرار وغيرها من الفروع التفصيلية في هذا العلم الحيوي.
ولا تقل اهمية الادب المقارن عن غيره من العلوم الاخرى المستحدثة،فهو نقد تحليلي بين مختلف النصوص والفروع الادبية سواء اكانت من لغة واحدة او عدة لغات بل وايضا يكون ضمن مقارنته بالفنون الاخرى التي لها علاقة بالادب،وهو يبين درجة التلاقح بين مختلف الاداب والتأثيرات والاصول التي مرت عليها،كما يظهر عوامل الوحدة الحضارية والقدرة على منح الوجود الانساني معنى مشترك بعيدا عن التعصب والانغلاق...
المنهج المقارن في مختلف العلوم والاداب هو جهد معرفي لتبيان الاصول والفروع وتاريخها وبيان مواقع الاتفاق والخلاف واعطاء تفسيرات جديدة لمختلف الظواهر والحوادث والنتاجات المادية والمعنوية،وقد اصبح علامة فارقة في التطور المعرفي ولا نستغرب مستقبلا اذا ظهر علم جديد ومنه يتفرع علما للمقارنة فقد اصبحت العلوم الانسانية من الاتساع والدقة الى درجة يحتاج الى المقارنة في داخل كل علم او علاقته بالعلوم الاخرى.
التعليقات (0)