المفتي علي جمعة لايعرف أين إختفت الجمال يوم الغار
مصعب المشـرّف
الجمعة 2 محرم 1437هـ
خلال حلقة يوم الأربعاء 14 أكتوبر 2015م من برنامج (والله أعلم) على الهواء مباشرة ؛ سأل الكاتب الصحفي والسيناريست السينمائي المصري المعروف "صلاح عيسى" عبر الهاتف ... سأل الشيخ الدكتور علي جمعة (مفتي الديار المصرية السابق) ..... سأله أين تم إخفاء الجمال التي إستعان بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة الشريفة من مكة إلى يثرب؟
علل صلاح عيسى تساؤله بأنه يكتب حاليا بعض السيناريوهات التي تتناول الهجرة النبوية الشريفة . وقد حسب السيناريست المعجزات التي صاحبت الهجرة النبوية الشريفة .. فعدّد الحمامة التي إتخذت لنفسها عشاً باضت فيه وعكفت على إحتضان بيضها .. ثم والعنكبوت الذي نسج خيوطه على مدخل فتحة الغار .. وتساءل أين إختفت الجمال التي إستعان بها أشرف الخلق وصاحبه الصديق ؟
أغلب الظن أن سيناريست بحجم "صلاح عيسى" ما كان ليختلط عليه هذا الأمر (أمر الناقتين) ؛ لولا أنه شاهد فيلم "هجرة الرسول" بطولة الممثلة ماجدة وطليقها إيهاب نافع ... فقد كان سيناريو ذلك الفيلم ساذجاً محشواً بالأخطاء .. ولعل أهمها هو تصويره أن الناقتين قد تحركتا من بيت أبي بكر مباشرة تحملان رسول الله وأبي بكر إلى خارج مكة ..... وهذا خطأ شنيع.
لم يجد الشيخ علي جمعة إجابة شافية على سؤال السينارست السينمائي .. وعلل الأمر (إختفاء الناقتان) إلى أنها المعجزة المنطقية الأهم في سيرة الهجرة النبوية الشريفة .. وأنها الأبقى من معجزة الحمامة ونسج العنكبوت (وهو رأيه الشخصي).
وذهب إلى القول بأن موضوع الحمامة والعنكبوت ليس له سند . وإنما جاءت الإشارة إليها فقط في سيرة "الحلبي" المسماة "إنسان العيون في سيرة المأمون" .
وختم الشيخ علي جمعة إجابته بأن الجمال ربما أخفيت في مكان ما خلف الغار . أو أن الله قد أخفاها من أعينهم بقدرته عز وجل.
ربما يكون سؤال السيناريست قد فاجأ فضيلة الدكتور علي جمعة .... ومن ثم فلا يسعني هنا سوى التأكيد على أن الكمال لله وحده .. وأن العصمة لرسله وأنبيائه.
وعليه أستميح الشيخ علي جمعة بتوضيح الآتي:
1)أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غادر مكة المكرمة ؛ هو وصاحبه أبي بكر الصديق ليلاً مشيـاً على الأقـدام .. ولم يستعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة بالجمال .. وكان خروجهما من منزل أبي بكر الصديق .
2)والشاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلقى أمر الله عز وجل بـ "الخروج" من مكة ؛ وأذن له بـ "الهجرة" .. جاء "متلثماً" إلى منزل أبي بكر الصديق ساعة الهجيرة (ما بين زوال الشمس إلى قبيل العصر) فأسر إليه بالأمر الإلهي ؛ وبشره بأنه سيكون رفيقه وصاحبه في الهجرة .... فأعلمه أبو بكر الصديق أنه قد إشترى ناقتين . ودفع بهما إلى دليل من المشركين إسمه "عبد الله بن أريقط" . سيتولى إرشادهما في الطريق . فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشترط أن يدفع من ماله الخاص ثمن ناقته . والتي هي على الأرجح تلك التي أطلق عليها فيما بعد إسم "القصواء".
ومن ثم فلربما يكون الأفضل حصر سيناريو "الخروج" من مكة ؛ و "الهجرة" إلى يثرب على النحو الآتي:
1)إجتماع كفار قريش بدعوة من أبي جهل في دار الندوة ؛ للبحث في كيفية القضاء على الدين الجديد ، الذي يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2)إنتهى هذا الإجتماع إلى الإتفاق على إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وسلم . وأن يشارك في التنفيذ شباب منتخب من كل قبائل قريش ، وتلك المتحالفة معها في المنطقة مابين نجدٍ والحجاز .....ثم ومفاوضة بني هاشم لاحقاً على الرضا بالديّة.
ونشير هنا إلى الخطأ الذي يقع فيه البعض حين يظن أن أبي جهل قد جمع الشباب من (جميع قبائل العرب) ... فهذا ما كان ليتسنى له بهذه السرعة حتى في عصرنا الحديث . وإنما المقصود بتلك القبائل قبائل قريش . وربما في معيتهم حلفائهم من قبائل أخرى مجاورة في الطائف ، وحول مكة ما بين نجدٍ والحجاز..
كذلك تبقى الإشارة إلى فرضية أنه كان هناك فترة زمنية إمتدت لأيام . أو ربما أسابيع ما بين إتخاذ قرار الإغتيال وبين تحديد ساعة الصفر لتنفيذه....
كما لا يوجد في الواقع نص صريح يفيد بأن تسريب (مشروع) تلك المؤامرة قد وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر الوحي بنزول جبريل عليه السلام ؛ أو بالوحي من الله عز وجل مباشرة إلى قلب رسوله صلى الله عليه وسلم ...
كذلك لم تتطرق كتب السيرة النبوية إلى إيراد فرضية أن هناك من كفار قريش من قام بتسريب فحوى المؤامرة إلى بعض حلفائهم وأصدقائهم ، وربما أصهارهم وذوي النسب من بني هاشم (أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم). فسارع بعض بني هاشم إلى إطلاعه ليأخذ الحيطة والحذر ويدبّر أمره. لا سيما وأن بني هاشم ؛ وعلى رأسهم حمزة والعباس رضي الله عنهم كانوا على إطلاع بمبايعة الأنصار لرسول الله ، وكانا شهوداً على بنود ومواد تلك المبايعات.
أكثر الإحتمالات الواردة إذن ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أخذ علماً (إنسانياً أرضياً) عبر شخص أو آخر ؛ بأن هناك (مبدئياً) مؤامرة ما يجري تدبيرها بشأنه بقيادة أبو جهل في دار الندوة ..
ومن ثم فقد توقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... توقع بذكائه الوقاد .... أن ساعة مجيء أمر الله عز وجل له بالخروج قد أزفت ، وباتت قريبة متزامنة مع تصاعد وتيرة تدبير المؤامرة ، وبالتالي فقد توقع مجيء الأمر من السماء بالخروج والإذن بالهجرة ما بين لحظة وأخرى .... وهذا عين ما حدث بالفعل وتطلب سرعة التنفيذ.
وأكبر الأدلة التي تقف إلى جانب توقعي هذا هو عدم سماحه لأبي بكر الصديق بالهجرة إلى يثرب . فكان دائماً ما يرد على طلب أبي بكر بالإذن له .. كان يرد عليه بقوله الشريف: [لاتعجل لعل الله يجعل لك صاحبا].
3)ولا جدال في أن " كشف ساعة الصفر" إنما كانت من الله عز وجل . فقد نزل جبريل عليه السلام إلى الأرض . فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الكفار يأتمرون لإغتياله الليلة. وأن الله قد أذن له بالخروج والهجرة . وأن عليه أن لا يبيت الليلة في بيته......
والملفت للنظر هنا هو قول جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لاتبيتن الليلة في بيتك ] .... وهو ما يدل على أن الله عز وجل قد منح رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من خيار لجهة تحديد ساعة الخروج من مكة ....
الصيغة واضحة هنا لا لبس فيها .. أو كأن الله عز وجل يقول له : [أخرج من مكة في الوقت الذي تراه مناسبا .. .... ولكن عليك الإلتزام بتوجيه أن لا تبيت الليلة في منزلك].
وهو عين ما توقعه رسول الله صلى الله عليه وسلم مسبقاً ..... "توقع أن يأتي الأمر على نحو يتطلب منه سرعة التنفيذ من فوره".
ويأتي هذا الكشف عن ساعة الصفر مصداقاً لقوله عز وجل (الآية 30) في سورة الأنفال: [وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين].
4)بعد تلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن بالخروج والهجرة وكشف جبريل عليه السلام له ساعة الصفر التي سينفذ فيها تجمع كفار قريش مؤامرة الإغتيال . فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ربيبه وإبن عمه علي بن أبي طالب أن يؤدي لاحقاً الأمانات التي كانت لديه إلى أهلها . وأن يبيت الليلة في فراشه . ... ثم إنتظر حتى جاء وقت الهاجرة فخرج متلثما إلى منزل صاحبه أبي بكر الصديق... وكان ذلك آخر عهده بمنزله.
5)إنتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق إلى أن حلّ الظلام بمكة . فخرجا من باب خلفي أو كوة خلف المنزل . وسارا مشياً على أقدامهما حتى وصلا إلى حيث "غار ثور" في جبل ثور جنوب مكة .
6)بعد أن ذهب من الليل ما يكفي لإنقطاع الطرق وخلوها من المارة . تسلل أبو جهل ومعه الفرسان نحو منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبعد إقتحامهم باب المنزل ؛ وجدوا أن الراقد على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو علي بن أبي طالب . فسأله أبو جهل عن رسول الله . فأجابه بأنه لا يدري أين ذهب.
7)توقع أبو جهل من فوره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم بساعة الصفر بشكل أو بآخر فذهب يبيت في منزل أبي بكر ... وحين لم يجدهما هناك ؛ أدرك أنهما قد خرجا من مكة . فأرسل يستعين ببعض الخبراء في تتبع الأثر ....
8)لم تكن آثار أقدام رسول الله وصاحبه أبي بكر قد محيت بعد . فقاد خبراء تتبع الإثر أبو جهل وفرقته إلى حيث جبل ثور . وهناك وجدوا أن آثار الأقدام قد إنتهت إلى الغار .. غار ثور.
9)لم تحدد كتب السيرة النبوية الشريفة ما إذا كان أبو جهل قد خرج من فوره يتتبع أثار أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبة الصديق رضي الله عنه . أو أنه إنتظر إلى شروق الشمس.
عرف عن أبو جهل حماقته وعدائه المتطرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرته منه منذ صباه ... وسيناريو تتبع الآثار والوقوف أمام مدخل غار ثور ربما كان قد حدث في توقيت قبيل الفجر ... فلم يأبه أبو جهل بالتمعن بعينيه داخل الغار .. وإنما إكتفى لحماقته وإستعجاله على الإستدلال بخلو الغار حين رأى نسيج العنكبوت والحمامة تحتضن بيضها أنكر إحتمال أن يكونا داخل الغار. ووافقه على هذا العقم كل من وقف حوله وبجانبه أمام باب غار ثور من كفار قريش.
دفع الإستعجال والحماقة أبي جهل إلى المسارعة بمغادرة المكان بهدف عدم إضاعة الوقت . والإستغراق بدلاً عن ذلك بالبحث في مناطق أخرى حول جبل ثور حتى أشرقت الشمس ؛ فيئس وعاد ذليلاً مهزوماً إلى مكة .... وتلا ذلك مرحلة الإعداد للمطاردة لمنعهما من الوصول إلى يثرب وبذل الجوائز المغرية لكل مغامر ..... وهي المرحلة التي إستعان فيها ابو جهل من جانبه بالخيول والإبل... فاستغرق أمر التمويل والإعداد والتنسيق أياماً.
10) أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل غار ثور ثلاثة أيام؛ كان يأتي إليهما خلالها كل من عبد الله بن أبي بكر (وكان غلاماً يافعاً) فيخبرهما بما يدور في مكة من أحاديث .. ثم تأتي السيدة أسماء بنت أبي بكر تحمل الطعام والماء .. ويأتي بعدها عامر بن فهيرة مولى أبو بكر الصديق بأغنامه . فيمحو أثر أقدام عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء رضي الله عنهم أجمعين.
11) بعد مرور ثلاثة ايام . جاء الدليل عبد الله بن الأريقط على الميعاد يقود الراحلتين (الجمال) . ومن ثم إنتهى فصل (الخروج من مكة) بإختيار من الله وإذنه ...... وبدأ فصل آخر هو (الهجـرة إلى يثرب) بإختيار وإجتهاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فكان خياره صلى الله عليه وسلم (والله أعلم به) .. كان خياره الذي إرتآه للدعوة الإسلامية ونهوض دين الله الحنيف هو يثرب التي أصبحت فيما بعد مدينته المنورة.... وأصبح قبره فيها هو أشرف مكان في الكون... والمسافة ما بينه وبين منبره روضة من رياض الجنة. عليه أفضل الصلاة والتسليم.
من جميع ما سبق . فإنه ينبغي التسليم والقناعة لدى كل مسلم أو كاتب سيناريو . بأن قصة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة . وهجرته إلى يثرب . إنما إجتمعت لها من المعجزات الإلهية ما اجتمعت .. وكذلك إحتمعت لها من ذكاء وكفاءة وجهاد وصبر وقدرات المعصوم صلى الله عليه وسلم الشخصية ما اجتمعت.... وكذلك إجتمع لها معنى الصداقة المثلى في أبي بكر الصديق .. أو كما يقول الشاعر : عن المرء لا تسأل وأسأل عن قرينه.
وفي رباطة جأشه وصلابته عند المواقف العصيبة ؛ رسّخت سيرة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة ، أنه لم ينس في غمرة ذلك الموقف العصيب أن يلهج لسانه الشريف بالدعاء اليقين قائلاً:
{الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا . اللهم أعني على هول الدنيا وبوائق الدهر ، ومصائب الليالي والأيام.
اللهم أصحبني في سفري ، وأخلفني في أهلي ، وبارك لي فيما رزقتني ، ولك فذللني وعلى خلقي فقومني وإليك فحببني ، وإلى الناس فلا تكلني.
رب المستضعفين وأنت ربي ، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض ، وكشفت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين ، أن تحل علي غضبك ، أو تنزل بي سخطك . أعوذ بك من زوال نعمتك ، وفجأة نقمتك ، وتحول عافبتك ، وجميع سخطك . لك العتبى عندي خير ما استطعت لا حول ولا قوة إلا بك}.
ثم وقف عند خروجه بالحزورة في سوق مكة . وأدار وجهه الكريم نحو مكة حيث نشأ وترعرع ؛ يودعها قائلاً: [والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله لله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت}.
ثم ها هو نبي الرحمة وصاحب الإسراء والمعراج ، يطمئن صاحبه أبي بكر في أحلك ظرف ؛ وكفار قريش يقفون أمام مدخل الغار. حين قال له أبو بكر "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا" .... فيجيبه صلى الله عليه وسلم بقوله:
- { ما ظنك يا أبا بكر بإثنين الله ثالثهما؟}. و {لا تحزن إن الله معنا}.
فجاء قوله عز وجل مصدقاً (الآية 40) من سورة التوبة:
[إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم].
التعليقات (0)