بعد مفاوضات مطولة وشاقة باشرها السنة المنصرمة؛ المبعوث الشخصي لأمين العام للأمم المتحدة كريستوفر روس مع جبهة البوليساريو والجزائر لاقناعهما بحضور مفاوضات غير رسمية تشرف عليها الأمم المتحدة لحل مشكل الصحراء، حيث كانت جبهة البوليساريو تشترط لاستئناف المفاوضات بما أسمته بـ "تخفيف الإجراءات الأمنية المغربية في الصحراء"، وبإطلاق سراح "مجموعة سالم ولد التامك"، المعتقلين بتهمة التخابر مع العدو ضد أمن الدولة المغربية. لكنها رضخت أخيرا للجلوس على طاولة المفاوضات دون أن تفلح في ذلك، وإن كان المغرب قد أفرج عن واحدة من المعتقلين لأسباب صحية.
ويأتي إعلان الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" عن استئناف مفاوضات تمهيدية حول الصحراء بين المغرب والبوليساريو في 10 و 11 فبراير الجاري، على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1871؛ وكذا القرارات السابقة، متزامنا مع رسالة كان قد بعث بها وزير الخارجية المغربي الطيب الفاسي الفهري إلى الأمين العام للأمم المتحدة مؤخرا، تتهم الجزائر بإعاقة المفاوضات حول الصحراء، وتشير إلى رفض الجزائر تطبيع العلاقات مع المغرب؛ إلا إذا تم التوصل إلى حل لقضية الصحراء على أساس مبدأ تقرير المصير، وذكرت الرسالة بالتصريحات التي كان أدلى بها رئيس المجلس الشعبي الوطني "عبد العزيز زياري" عقب زيارته لمناطق تخلى عنها المغرب بعد التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار سنة 1991، وذلك لتسهيل مأمورية بعثة المينورسو في المنطقة، وقال حينها "إن بناء اتحاد المغرب العربي لن يتحقق إلا إذا تمت تسوية قضية الصحراء الغربية وعلى أساس إقرار حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره".
ومعلوم أن الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة "بان كي مون" بعد أن عبر عن أمله الصادق في أن تتمكن المنظمة من إحراز تقدم في المفاوضات بين الأطراف، أكد على أن تسوية سريعة لقضية الصحراء "ستكون مفيدة للسلم والأمن في المنطقة، وهو ما يعني أن الأمم المتحدة تستشعر التخوفات من هشاشة الأمن والاستقرار الإقليميين بالمنطقة بسبب مشكلة الصحراء، كما يلتمس في خطابه الإحساس بما ظل ينهي به المغرب علم المنتظم الأممي من أن المناطق المجاورة للصحراء قد تحولت إلى فضاء لتهريب الأسلحة، والهجرة السرية والإرهاب والاتجار في البشر.
وكان الأمين عام للأمم المتحدة قد أكد في وقت سابق من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا أن مبعوثه الشخصي للصحراء "كريستوفر روس" كانت له مباحثات "نشيطة" مع الأطراف المعنية، قبلت إثرها الأطراف بالدخول في مفاوضات مباشرة غير رسمية، منبها إلى ما أسماه بالنتائج التي "كانت جد مجدية" حسب تعبيره في مفاوضات غشت الماضي في دورنستاين النمساوية.
وتوقف المحللون كثيرا على خطاب بان كي مون، حين قال: "إننا سنعمل الآن على تطوير النتائج مع الأطراف المعنية". مضيفا "أنه إذا ما تطورت الأمور في منحى إيجابي، ستكون هناك إمكانية لاستئناف المفاوضات"، واعتبروا أن عباراته هذه تعد جديدة من نوعها، لأنها مطبوعة بنبرة حازمة وصارمة.
نبرة تؤكد حسب المتتبعين بأن صبر الأمم المتحدة بدأ في النفاذ، ولذلك فإن بان كي مون لَمَّح إلى الأطراف بضرورة الدخول إلى المفاوضات بجدية على أمل إحراز تقدم لحل نزاع الصحراء. وهو ما يعني أن المفاوضات ستنحو هذه المرة منحا تصاعديا يراكم نتائج المفاوضات السابقة، هو ما يستخلص من قوله: "أن المفاوضات ستعقد على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1871؛ وكذا القرارات السابقة".
بعض المتتبعين يعتقدون أن الأمم المتحدة وهي تحضر لمفاوضات تمهيدية جديدة حول الصحراء، فإنها من الممكن أن تكون قد أحست بتطورات جديدة في مواقف الأطراف، وذلك على خلفية قبول الجزائر بإقامة مقر (أفريكوم) على أراضيها، بعد مفاوضات شاقة تقول مصادر مطلعة أن الجزائر حصلت خلالها على امتيازات سياسية بخصوص موقف الولايات المتحدة الأمريكية حيال قضية الصحراء وامتيازات عسكرية تتعلق بصفقات تسلح، وقيام الجزائر بدور المفاوض العسكري باسم القوات الإفريقية أمام إدارة أوباما.
كما أن الأمم المتحدة تتفهم تعقد مشكلة الصحراء عبر تبدل وتغير المواقف الدولية في الأمانة العامة للأمم المتحدة، إلا أنها مطالب بتدبير الملف للوصول إلى حل بات يثقل كاهل ميزانيتها، ولذلك سارعت إلى الترحيب بمقترح مجلس الأمن الأخير، وسارعت بتوفير غطاء سياسي لجهود مبعوث الأمين العام في المنطقة "كريستوفر روس"، وأعادت إصدار قرار تطالب فيه الطرفين بمواصلة المفاوضات بدون شروط مسبقة وبحسن نية مع الأخذ بعين الاعتبار الجهود المبذولة، في إشارة إلى المقترح المغربي.
وترى تحليلات سياسية أن مطالبة المغرب بمفاوضات جديدة حول قضية الصحراء الغاية منها إحراج جبهة البوليساريو التي لا تملك لحد الآن مقترحا بديلا غير قرار الاستفتاء الذي أصبح تطبيقه من سابع المستحيلات بفعل عامل الزمن وتغير الكثير من الأشياء وشروط التنمية التي أقامها المغرب على الأرض، وتذهب هذه التحليلات أن غاية المغرب هو الحصول على مؤشرات لتنزيل الجهوية الموسعة في الأقاليم الجنوبية، حيث سيضع ذلك البوليساريو أمام واقع جديد.
كما أن ربط الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" جلوس الأطراف إلى طاولة المفاوضات حول الصحراء بوضعية الأشخاص المحتجزين في تندوف، يعد ورقة إضافية كسبها المغرب بناء على ضغوطات مارسها على المفوض السامي لشؤون اللاجئين، فانعكست في تقريره الأخير الذي رفعه إلى الأمين العام يشتكي فيه الوضعية الصعبة لهؤلاء، ويشتكي فيه عدم سماح الجزائر للمفوضية بإحصاء سكان المخيمات.
وتأتي هذه المفاوضات التمهيدية مسنودة بتأييد مجلس الأمن الدولي، على لسان وزير الشؤون الخارجية الفرنسية "برنار فاليرو" الذي تترأس بلاده حاليا مجلس الأمن، وقال "فاليرو": "أن الهدف من هذه المباحثات، بعد تلك التي جرت في غشت الماضي في دورنستاين (النمسا) هو "الإعداد لجولة خامسة من المفاوضات الرسمية، من أجل التوجه نحو حل سياسي عادل ودائم ومقبول من لدن الأطراف في إطار الأمم المتحدة"، مذكرا بروح نص القرار الدولي 1871 الداعية إلى اعتماد الواقعية والتحلي بروح التوافق حتى تدخل المفاوضات مرحلة مكثفة وجوهرية. وهو نفس الرأي الذي عبرت عنه اسبانيا بمناسبة رئاستها الدورية للاتحاد الأوربي هذه السنة.
ومن جهة أخرى يأتي موعد هذه المفاوضات بعد بعث الملك محمد السادس لوفد رفيع المستوى إلى الجزائر يضم وزير الخارجية الطيب الفاسي الفهري واثنين من كبار مستشاريه، إضافة إلى "فؤاد عالي الهمة" أحد المشرفين على مقترح الحكم الذاتي المغربي لتقديم العزاء بوفاة السفير الجزائري السابق لدى الرباط "العربي بلخير"، وهو بذلك يحاول حسب المراقبين فتح اتصالات رفيعة مع الجزائر، وتأكيد لاستمرار اليد المغربية الممدودة إلى الجزائر، تحسبا لأي تليين في الموقف الجزائري أو لترتيب أسس جديدة للتعاون فيما بين البلدين.
ويسجل إلى حدود الآن أن الأطراف ستتوجه إلى هذه المفاوضات بنفس المواقف التي دخلت بها مفاوضات "منهاست" الأمريكية، حيث يرى المغرب أن مقترح الحكم الذاتي الموسع للصحراء تحت السيادة المغربية يمثل الحل العقلاني والمقبول للقضية، خصوصا وأن هناك نسبة مهمة من اللاجئين الصحراويين يفضلون العودة للعيش تحت السيادة المغربية بالنظر إلى المشاريع التنموية الضخمة التي أطلقها المغرب داخل الإقليم، ولأنه لا يمر يوم واحد دون تسجيل حالات هروب مواطنين صحراويين من مخيمات تندوف نحو أقاليم الصحراء.
ويعزز المغرب مقترحه اليوم بالدعوة إلى الانطلاق من قرار مجلس الأمن الأخير رقم 1871، وفي هذا التنبيه إشارة إلى ما عبر عنه صراحة المبعوث الأممي السابق "فان فالسوم" الذي قال للصحافة: "أن استقلال الصحراء ليس مطلبا واقعيا"، وذلك بالتزامن مع انتهاء جولات مفاوضات منهاست دون إحراز أي تقدم، وشكل تصريحه ذاك الضربة التي قسمت ظهر بعير جبهة البوليساريو؛ التي ظلت متشبثة بخيار تنظيم الاستفتاء. وهو الأمر الذي أثار حفيظتها فطالبت بتنحية "فان فالسوم"، واتهمت الأمم المتحدة بالتراجع عن أحد مبادئها "تقرير المصير". وتبين من ردة فعل العنيفة لجبهة البوليساريو والجزائر أنهما أحستا بأن مقترح الحكم الذاتي قد خلخل لدى المنتظم الدولي المعنى القديم لـ "مفهوم تقرير المصير".
وتصف العديد من العواصم المبادرة المغربية بالجدية وذات المصداقية. وكانت واشنطن أولى هذه العواصم المؤيدة، لأن المقترح المغربي يأتي منسجما وطبيعة رؤيتها الجيواستراتيجية تجاه منطقة مهددة بنشاطات الجماعات الإرهابية المسلحة وشبكات تهريب السلاح والمخدرات والاتجار في البشر وتبييض الأموال... ويتأكد الموقف الأمريكي من استحالة إقامة دويلة جنوب المغرب، لكونها لن تكون بالقادرة على مواجهة تهديدات المنطقة، في وقت تراقب فيه الولايات المتحدة تنامي نفوذ الجماعات المسلحة بالصحراء الإفريقية.
ويقابل الموقف المغربي موقفا متصلبا لجبهة البوليساريو والجزائر المتمسكين بمبدأ تقرير المصير الذي يعني استقلال الصحراء عن المغرب، وهي الأطروحة التي تراجع تأييدها على المستوى الدولي، لأن تقرير المصير لم يعد يعني بالضرورة الاستقلال.
ويسجل المراقبون أن هذه المفاوضات تأتي في سياق إعلان المغرب الشروع في تطبيق جهوية متقدمة بالصحراء، وهو ما سيخفف عنه من وطأة الورقة الحقوقية التي تشهرها البوليساريو ضد المغرب في المحافل الدولية، حيث يعتبر المغرب أن ذلك يعد أخر أوراق البوليساريو والجزائر. بعدما أحرجه توظيف البوليساريو والجزائر للبعد الحقوقي في الصحراء أمام الأمم المتحدة عبر تكثيف البيانات المنددة بما تسميه "قمع القوات المغربية"، ووصلت نتائج هذا الضغط ذروته خلال أزمة "أميناتو حيدر".
ولعل ذلك ما يبرر سعي المغرب اليوم إلى التسريع بإصلاحات التدبير السياسي والتنظيمي لجهاته، وخاصة في الأراضي الصحراوية من خلال مبادرة تطبيق الجهوية المتقدمة في الصحراء، والتي ستجعل حينها من التفاعلات السياسية والاجتماعية والاصطدامات التي كانت تحصل بسبب مطالب اجتماعية واقتصادية تنموية بين بعض المواطنين الصحراويين والمصالح الأمنية المغربية شأن صحراوي لا يعني المغرب من الناحية الحقوقية، وبالتالي إفشال ضغط الورقة الحقوقية التي تشهرها جبهة البوليساريو والجزائر ضده لدى الأمم المتحدة.
وتجدر الإشارة أن الدبلوماسية المغربية ولسوء تدبيرها لأزمة "أميناتو حيدر" على حد تعبير الرأي العام المغربي، قد كبدت مقترح الحكم الذاتي المغربي ويلات المنظمات الحقوقية، ومنها منظمة "هيومن رايتس ووتش" التي سجلت على المغرب خلال السنة الماضية تراجع الوضع الحقوقي، وأشارت إلى اعتقال أعضاء مجموعة سالم التامك، كما أن إسبانيا ولاحتواء المطالب الشعبية التي تعاطفت مع "حيدر" عدلت في موقفها جزئيا إن صح التعبير، وذلك حينما أشارت إلى عدم اعترافها بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية. إضافة إلى اعتراض ألمانيا من داخل الاتحاد الأوربي على ما أسمته بـ "استغلال الثروات الطبيعية للصحراء الغربية".
وستجرى هذه المفاوضات أيضا في وقت أعلنت فيه حركة خط الشهيد المنشقة عن جبهة البوليساريو إلى التهديد بالدخول في مفاوضات مباشرة مع المملكة المغربية وتحت إشراف الأمم المتحدة، من أجل ما أسمته بـ "حل سياسي منصف متوازن وعادل".. "إذا ما استمرت قيادة البوليساريو في سياسة التعنت والهروب إلى الأمام" ورفض مطالب التيار المعارض فيها بفتح الحوار وعقد مؤتمر طارئ تشرف عليه لجنة تحضيرية مستقلة بعيدا عن وصاية القيادة الحالية".
وسجلت الحركة تأييدا ضمنيا لمقترح الحكم الذاتي، حين أشار زعيمها "محجوب السالك" إلى أنه لو استفتي الصحراويون اليوم بشأن البقاء في مخيمات تندوف والحكم الذاتي، فسيختارون الحكم الذاتي.
ويوجه المغرب اليوم نظر المنتظم الدولي إلى أن جبهة البوليساريو ليست الممثل الوحيد للصحراويين، بدليل أن غالبية الصحراويين يدعمون اليوم مقترح الحكم الذاتي الموسع، كما أن عددا من قيادات البوليساريو العائدة إلى المغرب انخرطت بقوة في مطلب الحكم الذاتي الموسع في الصحراء، باعتباره الحل الوحيد الواقعي وذي المصداقية من أجل تسوية قضية الصحراء.
كما أن انتباه المغرب إلى توظيف قيادات جبهة البوليساريو العائدة إلى الصحراء للقيام بجولات دبلوماسية لدى دول أوربا والولايات المتحدة الأمريكية ولدى كل الدول الأكثر تأثيرا لكسب مزيد من التأييد لمقترح الحكم الذاتي، يقودها القيادي في جبهة البوليساريو والعائد مؤخرا إلى المغرب "أحمد ولد سويلم"، من شأنها أن تبطل عن الجبهة صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي.
ويرجج الملاحظون عدم إحراز أي تقدم في المفاوضات المرتقبة، وذلك بالنظر إلى مفاوضات الطويلة التي قام بها المبعوث الأممي كريستوفر روس مع البوليساريو والجزائر للقبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات من جديد، وبالنظر إلى عدم تسجيل أي جديد في موقف جبهة البوليساريو سيطيل من عمر الصراع حول الصحراء، وسيمنح فرصة مواتية لتطبيق الجهوية ووضع البوليساريو أمام أمر واقع تطبيع الجهوية المتقدمة / الحكم الذاتي، مما سيفرض ضغطا جديدا لإخراج المارد في تندوف والالتحاق بالصحراء.
وينذر ذلك ببداية نزيف جماعي كبير في الصف الداخلي لجبهة البوليساريو؛ أو بالأحرى تزايد عمليات الفرار من مخيمات تندوف نحو الأقاليم الصحراوية، ولعل ذاك ما بدأت تحس به جبهة البوليساريو والجزائر، حيث عُلِم مؤخرا من مخيمات تندوف أن القوات العسكرية الجزائرية شرعت في بناء حواجز رملية حول المخيمات.
Elfathifattah@yahoo.fr
0663215880
التعليقات (0)