المغترب و.. الموت!
يخاف المغترب من الموت خوف الشاة من الذئب، ولا يراه زائراً طبيعياً يقوم بتلك الزيارة مرة واحدة في العُمر، ولا يطرق البابَ قبلها، ولا يستأذن في الدخول، لكنه في كثير من الأحيان يرسل رسائل غير خطيـّـة يبلغك فيها بأنه في الطريق إليك وقد يتعطل بعض الوقت أو عدة سنوات.
المغترب في العالم العربي، وخاصة دول الخليج، يعرف أن مصيره إذا لم يعُــدْ جسداً وروحاً، عاد جسداً فقط، ينزلق نعشه من أحشاء الطائرة، فيستقبله أهل وأحباب، شاهد بعضهم في زياراته المتكررة، ولم ير آخرين منذ مغادرته الوطن الأم، وجاء بصحبتهم بنات وأولاد سمعوا عنه، وتلقوا هدايا منه في البريد أو لدى زياراته.
المغترب في العالم الغربي لم يحسم أمر قبره بعد، فقد يعود في نعش أكثر أناقة وفي رحلة منظمة من سلطات بلده المضيف، وقد يبقى لأن من سيقوم بزيارة قبره يعيشون في الغربة، زوجة وأولاد وحفنة صغيرة من الأصدقاء، ينتهي الأمر باثنين فقط منهم يواظبان على زيارة قبره في العام الأول لا غير.
المغترب في دول المهجر، الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، لابد أن يكون قد حسم أمر مكان دفنه في المقبرة القريبة والتي تزينها الزهور والأشجار المنخفضة والمظللة لمقبرته الأنيقة.
أما المهاجر للبرازيل وفنزويلا وساحل العاج والأرجنتين فلا يعرف أكثر مشيعيه جذوره، فينعتوه بأنه تركي إذا كان سوريا أو لبنانيا مسلما، وإذا كان مسيحيا فهو من ( أرابيا) وهي تشمل كل الاحتمالات.
ليس من السهل أن تقوم بتشييع صديق لك توفاه الله في الغربة لأن احتمال تواجدك في مدينة أخرى كبير، وأن خبـر الوفاة جاءك متأخراً، وأنكما لم تجتمعا في السنوات الماضية إلا مرتين في حفل العيد الوطني بسفارة بلدك.
طعم الموت واحد لا يتغير، في الوطن الأم أو في الوطن المضيف، ورغم أن ملك الموت لا يخيف من أتى يقبض روحه، إلا أن الأحياء يثيرون شائعات غير صحيحة عن الزائر الطيب الذي تلقى الأمر من رب العالمين بانتهاء أجل مقيم أو مغترب.
تنقبض النفس لدى الحديث عن الملك الزائر، ويتشائم البعض، ويغض أكثرنا الطرف عن الحقيقة في أن الضيف الحامل أمراً سماوياً لا يتردد أمام فزع وخوف سكان الأرض.
أعجب ما في المغترب أنه اختار حياته الجديدة ويظن أن ملك الموت سيضاعفها له في الوطن المضيف.
بعض المغتربين في السعودية يفرح أهلهم لأن دفنهم متناغم مع الأرض المقدسة، وكأن ذنوبهم سيمسحها المكان، والحقيقة أن دود الأرض في أي بقعة على وجه البسيطة لا يكترث للمكان أو الجنسية أو الدين ، ويكذب الأهل على أنفسهم لأن الرغبة الدفينة هي دفن ابنهم في مقبرة الأسرة مع من رحل مبكراً .. أعني في موعده مع القدر.
هنا تــَـبـين قدرة المشاعر الدينية التي تخجل أمامها المشاعر الانسانية فيفتخرون أن أباهم أو أمهم أو ابنهم دُفن في مكة المكرمة، ولم يشيّعه أهله ويبكون عليه وهو تحت الأرض بجوار اسم العائلة. وكل الذي فوق التراب تراب.
الموت في الغربة يقوم بزيارات للاستكشاف وجس النبض وتخويف المهاجرين، رغم أنهم خائفون حتى النخاع من الزائر غير المرغوب فيه.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 23 يناير 2014
التعليقات (0)