في النّظرة التشريعيّة للعقود تبرُزُ دوماً صورةُ الشيء المعقود عليه وهو محلّ الإجراء لمثل هذه الاتفاقات بين طرفين معيّنين لبدْءِ حقبةٍ جديدة من التواصل مع الغرَض لم تكُن موجودة قبل العقد،وفي عقود الإجارة والبيع والتعاملات الاقتصادية كلّها لا بدّ من وجود عَيْنٍ يتمّ التفاوض عليها ومن ثمّ الاستقرار على نوعيّة محدّدة من الانتفاع مُقابل ثمنٍ أو قيمة ملموسة أو معنويّة ..
وتسري هذه العقود وفقَ ما اقتضتْهُ ألفاظُ المُقنّنين لمثل هذه الحالات أو وضّحته شروح الباحثين في الفقه أيّاً كانت الدّيانة وأيّاً كانَ الاستمداد،وهذه الصورة لا تخفى على أحدٍ يفهمُ بأنّ الحياة تبادلات والدّنيا دَيْنٌ وقضاء،ولستُ بمُتجنٍّ على الإرث القديم الزاخر من فقهيّات الدين الإسلامي إن قلتُ بأنّ من المصادر والكتب والمراجع ما ركّزَ على ناحية ضيّقة غير مقصودة في أصل الشّرع عندَ الحديث عن "النّكاح" كبابٍ مهمّ من أبواب فقه الأحوال الشخصيّة ..
وبعضُنا يظنّ أنّ الكلام عن مثل هذه الأمور والتحديدات اللفظيّة وتحرير محلّ التوافق من فضول القول ومن التنطّع في الدين،وحسبي أن أبيّنَ بأنّ الكلام والألفاظ هي التي ينبني عليها التاريخ وهي التي بها وصلَنا الوحي وتواترتْ بمؤدّاها الرسالات واستمرّ بها اتصال القديم بالحديث،ولولا الخلاف على الكلام والحروف والمعاني لجعل الله النّاس أمّة واحدة ولكنّ حكمتَه اقتضَت اختلافاً وابتلاءً وتمحيصاً ..
وهناك خلافٌ مشهور بينَ أصحاب المذاهب في شريعتنا الإسلاميّة عن مَاهيّة المعقودِ عليه في عَقدِ النّكاح الشرعي،بمعنى أنّ ما تّفقَ عليه طرفا العقدِ ليكونَ هو مجال هذا التّعاقد ماهو؟ فبعضهم جعلَ "المنفعة" بمدلولها العام هي موضوع العقد،وآخرون تحرّوا منطوق النصوص وزعموا بأنّ "الوطء" هو موضوع التعاقد ويقصدونَ بذلك فعلُ الرّجل،وانحَازَ قسمٌ إلى معنى أكثرُ اتساعاً من الوطء وقالو إنما هو "الاستمتاع" ليجمعوا بينَ غرَضٍ مطلوب من الجنسين الرّجل والمرأة على حدّ سواء،بينما يأتِ اليومَ من يُفتينا بسرعةٍ وجُرأةٍ بأنّ المعقودَ عليه هو "المرأة" بكينونيّتها وذاتها وشحمها ولحمها ..
ومن أعجَبَهُ بأن تكونَ "الزّوجة" هي موضوع العقد نظرَ إلى أنّ الطرف الأول هو "الوليّ" والطرف الثاني هو "الزوج" ولا معنى لبقيّة الأطراف ولو كانت إنسانيّة سوى أن تكونَ مادّةً للعقد وهي "المرأة" كما يحدثُ في عقود البيع والشراء فهناكَ بائعٌ ومشتري وسلعةٌ وثمن،وهم لا ريبَ لا يقصدونَ ـ البتّة ـ تشبيهَ الزواج بالبيع والشراء ولا يقصدون الإنقاصَ من حقّ المرأة الإنسان ولا التقليل من شأن عقود النكاح الذي قالَ عنه الله عزّ وجلّ بأنّه "مودّة ورحمة" بل هو تقريب المفهوم لمن يفهمُ الفقهَ أصلاً فتلقّفَ الناس التقريبَ والمثالَ على أنّه قالَبٌ للحكمِ وجعلوه نصّاً من حادَ عنه فقد لغَا ..
الذي أشعُرُ بهِ وأنا أبحثُ هذه المسألة منذ فترة بأنّ عقد النكاح من العقود المقدّسة التي سمّاها الشارع عقداً من باب التأكيد على الرباط والرابطة والوفاء بالعهد والميثاق لأنّه تعالى قالَ عنه "ميثاقاً غليظاً" وعبّرَ عن الشخصِ ألذي أخذَ هذا الميثاق بأنّه المرأة حيثُ قال "وأَخَذْنَ" ونونُ النسوة جليّةٌ هنا ثمّ قال "منكم" وهمُ الرّجال أو الأزواج،ولا يُتصوّرُ أبداً أن يكونَ ذاتُ الشخص موضوعاً للتعاقد وطرفاً فيه،وربّما اعترضَ فاهمٌ وقال "في استئجارِ العُمال،الأجيرُ طرفٌ في العقد وموضوعٌ له" فأقول إنّ الأجيرَ طرفٌ في العقد أمّا موضوع العقد المعقود عليه هو عملُه ونِتاجه وليس هو بذاته وإلا لأصبحَ استرقاقاً وليس عقدَ عمل ..
كرّمَ الإسلامَ الإنسانَ رجلاً كانَ أو امرأةً طفلاً كانَ أو كهلاً وجعلَ الولاية في النكاحِ حفظاً للحقوق التي غالباً ما ينزَعُ الرجال بسبب الذكورة إلى هضمها واستضعاف صاحبتها،ولم يكن يوماً من الأيام الوليّ طرفاً في العقد بمعنى أنّه يملكُ امرأةً يُحلّها لغيره بعقدِ نكاحٍ على هذا الفهم أبداً،بل الفقهُ والشرعُ أعطاهُ ميزةَ مُلكِ عقد إجراء العقدِ وعبّر عن ذلك بقوله "بيدِهِ عُقْدةُ النِّكاح" ومن ثمَّ نهاه عن العَضْلِ والمنع كما وهبَ للقاضي شرعيّة إصدارِ الأحكامِ وفضّ المُنازعات،ولم تَكُن "المنفعة" وإن ارتفعَ مفهومها لأن تستوعبَ كلّ ما يطلبُه الإنسان معقوداً عليه في عقد نكاحٍ شرعي ربّاني،بل المنفعة من توابع التزام أحكام الخالق قطعاً ..
ولا مجالَ نهائيّاً لأن يكونَ "الوطء" موضوع العقد بهذه النظرة الضيّقة ولو كانَ هوَ نيّةُ الراغب في الزواج وهوَ هدف الراغبة في التزويج،والقرآن الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبيانُ الصحابة الأبرار عن حقيقة هذه العلاقة الخاصّة بين الرجال والنساء في إطار النكاح الشرعي صراحةً ووضوحاً جاءَ لإظهار الحقائق وتوضيح الحكم الشرعي الذي لا يحتمل التأخير أو التلبيس أو التدليس وليسَ لأنّ "الاستمتاع" الجسدي هو غايةُ مُنَى الراغبين والمتديّنين والنّاس أجمعين ..
في اعتراض المُخالفين لنا في الدّين وحسْبَ وصفِ الكتاب العزيز قالوا "إنما البيعُ مثلُ الرّبا" ولم يَنْفِ الله تبارك وتعالى هذا الشّبَه بينهما على من أوردهُ كحجّةٍ على ربّه بلْ أجابهم بما يجبُ الانحناءُ له سمعاً وطاعة والاستكانة لهُ تنفيذاً وتركاً وقال "وأحلّ اللهُ البيعَ وحرّمَ الرّبا" فالفارقُ إذاً في ميادين معيّنة بينَ أمرين فيهما صفاتٌ مشتركة من بعضهما البعضُ هو الامتثال الشّرعي فالله يعلمُ من خلَقَ وهو اللطيف الخبير ..
وفي النّكاحِ كذلك الشارع الحكيم فرّقَ بين علاقةٍ مُحرّمة شرعاً ذات مفاسد رآها الناسُ بأعينهم وبينَ علاقة أشهرها أطرافها بينَ أحبّائهم وأصدقائهم وفرحوا بها ودعوا لها الضّيوف وجهّزوا فيها الولائم بأنّ هذه حلالٌ وتلك حرامٌ،فالمعقودُ عليه إذاً هو "الحِلُّ" بما يدلّ عليه من معاني التسليم بالحاكميّة والحكم لربّ العالمين على الصّفة التي طلبَها منّا دونَ تقليل من شأن طرفٍ ولا انحيازٍ لجنس دون آخر ..
وعلى هذا فأطراف عقد النكاح هما "الزوج والزوجة" فقط والوليّ شرطٌ كما الوضوء للصلاة،والشاهدان واجبٌ كما واجباتُ الصّوم،والمهرُ كرامةٌ وحقّ أوجبه ربّ الناس لإمائه في الأرض،والإشهارُ من السلوكيّات التي اختارها الله لنا لتنزيه هذه العلاقة عن الشبهات،والوليمة صدقةٌ يُباركُ الخالقُ بها بداية أسرة جديدة في بناءٍ إسلامي مُنير مستنير ..
وما يجعلُنا نُعيدُ ونكرّرُ على أنفسنا مثل هذه الخلاصات هو الارتقاء بمعانينا ومفاهيمنا لتصلَ إلى المستوى الذي أراده الله لنا بقوله "ولقدْ كرّمنا بني آدمَ" ولسنا بالمُستائين ـ وحاشانا ـ من أحكام فقهنا ولا تفصيلات مُتوننا وكتبنا ومصادرنا الإسلاميّة الأصيلة ولكنّنا هكذا نفهمُ ما تعلّمناه ونفخرُ بما هدانا الله إليه ..
التعليقات (0)