بعد أن تبددت سحب الخوف والصمت، بفعل العواصف التي بدأ هبوبها من مدينة سيدي افني وازدادت شدتها في باقي المناطق، بعد الثورات المتلاحقة في العالم العربي، من الأجواء السياسية بالمغرب، تحولت شوارع المملكة فجأة الى ساحة استعراض للقوة، تعج بمختلف الأصوات بما فيها تلك التي كانت وإلى عهد قريب مبحوحة لا تعرف للصمت بديلا.
وهكذا اكتشفت الجماهير وجوها غريبة عن الصراخ تلفها من كل الجوانب وتحفها بما يكفي من الدعم والمساندة، شخصيات لم يكن ولن يكون لها أبدا حجم حقيقي تستطيع به التأثير على ميزان اللعبة السياسية.
فاذا كانت حركة 20 فبراير ، التي ليست في الحقيقة أول من بادر إلى المطالبة بالإصلاحات الدستورية، استطاعت ان تكتسب زخما والتفافا حزبيا وشعبيا قادها إلى موقع التحدث باسم الشعب، فإن العديد من الاحزاب الكرتونية الباحثة عن موقع متقدم في المرحلة القادمة ما انفكت" تعوي مع الذئاب" كما يحلو للألمان القول، وحاولت جاهدة تخليص لسانها من عقدة الصمت السادي الذي لازم سلوكها السياسي لمدة طال أمدها، وهي التي كانت تشهد على معاناة الشعب الذي ظل ولايزال ضحية يئن تحت سوط سياساتها الظالمة.
إن إحدى الخطوات الاولى التي يستدعيها مسار الاصلاح اليوم هي اعادة تأهيل الحقل الحزبي وتخليصه من الاحزاب الإدارية التي ارتبط وجودها ببث السموم، كما الأعشاب الضارة، لإعاقة أي نمو لفعل سياسي سليم.
ولهذا فالمشهد السياسي المغربي في ضوء المرحلة الجديدة لم يعد يتحمل هذا التناسل الخطير لأحزاب سياسية كانت نتاج ممارسة غير شرعية في دار المخزن. فحتى في وجود إصلاحات دستورية تضمن صلاحيات واسعة للحكومة و تمنح مصداقية لصناديق الاقتراع، فإن الساحة الحزبية لن تكون في مأمن من تدخلات قد يراها أصحابها ضرورية لتحريك هذه البيادق الحزبية مما سيسهم حتما في تشويه اللعبة السياسية وتسميمها من جديد.
إن المشهد الحزبي يجب أن يخلو من هذه الاطارات الفارغة و يُحصر في الوان سياسية واضحة ومشرقة تستطيع ان ترسم معالم المرحلة الجديدة وتدفع بعجلة الاصلاح على مسار التغيير المنشود.
فالمواطن المتعطش إلى المشاركة الفعالة، والتي يأمل من خلالها أن تترجم إرادته ورغبته في التغيير إلى واقع حال، مختلف عن سابقه، يضمن له العيش الكريم، سيعجز لا محالة عن تشكيل رؤية واضحة أمام واقع مَشهد تتكدس فيه الالوان المتناثرة ويصيب المرء بعمى الالوان. فالمساحة الواسعة التي تحتلها احزاب ادارية كالأصالة والمعاصرة و الاتحاد الدستوري، لا تتكئ على أي مشروع سياسي بإمكانه إعادة الثقة في العمل الحزبي، تصبح بالفعل مصدرا مزعجا إن لم نقل مثبطا لأي رغبة متجددة في الدخول لمعمعة المنافسة السياسية.
هل من حقنا أن نأمل في أن تتحرك مسطرة القضاء، تماما كما تحركت في تونس ومصر، باتجاه حل الأحزاب الإدارية التي شرعنت الفساد طيلة العقود الماضية وساهمت بدورها السلبي في مقاومة الزحف المنادي بالإصلاحات الدستورية من خلال إيهام الجميع بجدوى لعبة كان الشعب فيها الخاسر الوحيد وكانوا هم دوما من الرابحين.
لهذا، فبعد ثورة الملك من أجل الشعب يسرنا أكثر أن نرى هذه الاحزاب السياسية خارج اللعبة حتى لا تضيع أهداف الثورة سدى. أما فتح باب الاستشارة على مصراعيه أمامها، داخل اللجنة الخاصة لمراجعة الدستور، ففيه إضفاء لشرعية على أحزاب لم يكن مبرر وجودها سوى وقف زحف أخرى ذات مصداقية اكبر و تسير بثبات نحو توسيع قاعدتها الشعبية.
لقد كانت اُولى الخطوات على مسار الديمقراطية بعد الثورة في تونس ومصر ، هي حل الاحزاب التي رافقت الانظمة الحاكمة في مشروع الفساد والإفساد في البلدين معا، ولهذا فرحيلهم دفعة واحدة لم يكن أمرا يؤسف عليه بل على العكس تماما فقد اطمأن الجميع على أن الثورة لم تغادر الايادي الامينة التي حرصت على منع سرقتها وعملت جاهدة على تحقيق اهدافها.
فإذا كان من المنطقي أن نعبر عن فرحنا عقب قرار الملك الشجاع بالدفع بعجلة الاصلاح في لحظة تاريخية هامة، فمن الواجب كذلك أن نطمئن على سلاسة المسير وسلامة المسار حتى تصل قاطرة التغيير سالمة دون أن تفوت موعدها.
ولعله من العبث أن نستمر في استنزاف الطاقة والجهود من خلال إزالة العصي المتراكمة من داخل العجلة، عوض أن نتخذ قرارا لا يقل شجاعة وهو تقييد أيادي النسف و المؤامرة ومنعها من الحركة ضد تيار التغيير الجارف.
فالتغير كالبنيان لا يقوم إلا بعد أن يستوي على أساس قوي وسليم يستطيع مقاومة تحديات المراحل والأزمات، لكنه لن يبلغ تمامه ومبتغاه إن كنت تبني و كان غيرك يُهدِم.
فالضمانات الحقيقية لنجاح ثورة الملك والشعب هي خوض المعركة الأخيرة والحاسمة وذلك باقتحام ما تبقى من جيوب المقاومة المتربصة ودكها في مواقعها حتى لا يتجدد نشاطها السري وتحاول استعادة ما فقدته في معركة الإصلاح الدستوري على جبهة الفساد.
التعليقات (0)