بسم الله الرحمان الرحيم
في أنَّ المكلَّف يعلم بعقله ما كلف من دون سمع
اعلم أنَّ ما تفتقر صحة السمع إليه، لا يجوز أنْ يحتاج فيه إلى سمع، لأنَّه يؤدي إلى حاجة كل واحد منهما إلى صاحبه، وذلك يُوجِب ألَّا يوجدا جميعا. وقد بينا أنَّ السمع هو الكتاب والسنة، ولا يصح معرفة صحتهما إلَّا مع العلم بأنَّه تعالى حكيم، ولا يفعل القبيح، فلو لم يمكن معرفة ذلك عقلا، لم يصح معرفة السمع البتة، وقد بينا أنَّ المعجز يدل على النبوات كدلالة التصديق، فإذا لم يصح أنْ يعْلَم تعالى صادقا بقوله وقول رسوله، فيجب إلَّا تصح معرفة النبوات بقولهما، وذلك يُوجب أنْ يعرف من جهة العقل. وقد بينا في باب النظر والمعارف، أنَّه يمكن التوصل إلى معرفة الله بأدلة العقل، فلا يحتاج في ذلك إلى سمع؛ وبينا أنَّ التخويف الذي عنده يجب النظر، قد يحصل بقول الداعى وورود الخاطر، فلا يصح أنْ يقال إنَّه يُحتاج إلى الحجة لأجل ذلك. على أنَّ التكليف لو افتقر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته، لوجب في النبى ألَّا يصح تكليفه إلَّا بنبى آخر، ثم كذلك في جميعهم، وهذا يُوجب ألَّا ينتهى المكلفون إلى حد، ومتى قال المخالف في النبى الأول إنَّه يعرف التكليف من دون سمع وارد، قلنا بمثله فى جميع المكلفين؛ فإنْ قال فى أولهم إنَّه تعالى يخاطبه / فيستغنى عن النبى، فقد علمنا أنَّ محاطبة القديم تعالى في أنَّه يَحتاج في معرفة صحته إلى دليل يجرى مجرى المعجز، كمخاطبة النبى، فيجب في ذلك الأول ألَّا يصح أنْ يَعرف ما كلف إلَّا بالسمع، ولا يُعرف السمع إلَّا بالعقل، وذلك يؤدي إلى تعلق كل واحد منهما بالآخر.
وبعد، فإنَّ الذى يعلمه العاقل باضطرار، لا يفتقر فيه إلى سمع، كالعلم بقبح الظلم، وكفر النعمة، ووجوب الإنصاف والشكر. وكذلك لا يحتاج إلى السمع فيما عليه دليل معلوم من جهة العقل، لأنَّه يمكنه أنْ ينظر فيه، فيعرف المدلول؛ فإنْ جاز فيما هذا حاله أنْ يفتقر إلى سمع، ليجوزَن في السمع أنْ يقال فيه إنَّه يفتقر إلى سمع آخر، ومتى قيل فيه إنِّه مستقل بنفسه، من حيث إنَّه يُمْكن أنْ يعرف به الحكم، فكذلك القول في أدلة العقل.
وبعد، فإنَّه إنما يجب النظر في صدق النبى والقبول منه، إذا خاف المكلف من ترك النظر في ذلك مَضرة، فإنْ لم يعلم بالعقل أنْ هذه الطريقة يعلم بها وجوب العقل، لم يصح أنْ يعرف السمع، هذا يوجب كون العاقل عارفا بوجوب كل أمر يخاف في تركه مضرة، فقد صار العقل مستقلًا بذلك من دون سمع، وسائر ما نعلم به العقليات يحل هذا المحل، فيجب أنْ يستقل به. وقد بينا بطلان قول المُجْبرة، الذين يقولون إنَّ العقل لا يعرف الفرق بين الحسن والقبيح، وإنَّ ذلك موقوف على الأمر والنهى بوجوه كثيرة، فليس لأحد أنْ يقول: إنما يحتاج إلى السمع ليفصِل العاقل بين الواجِب والقبيح.
وبعد، فإنَّا نبيِّن أنْ السمع إنما يُعلم به ما يكون مصلحة ومفسدة في التكليف العقلى، ولا يحسن أنْ يَرِد إلَّا لهذه الفائدة، فلولا أنْ التكليف العقلى يستقل بنفسه، لما صح ورود هذا السمع، ولذلك جوزنا في كثير من المكلفين ألَّا يكون لهم ألطاف فيما كلفوا، فلا يحسن بَعْثة النبى إليهم، لأنَّه متى عُلم من حال المكلف أنَّه يقوم بكل ما كُلف على كل وجه، أو يقضى على كل وجه، فبعثة للأنبياء فيه، لا فائدة فيه، وإنما يبعث تعالى رسله لأداء الأُمور التى إذا اختلفت الشرائع، وضح فيها النسخ، وليس كذلك حال العقليات، لأنَّها لا تختلف في الوجه الذى حصل فيه التكليف.
فإنْ قال: فيجب أنْ يجوزوا خُلُو التكليف العقلى من السمعى، على كل حال.
قيل له: إنَّ أهل العقول يجوزون ذلك، بشرط أنْ يُعلم من حالهم أنَّه لا لطف لهم في ما يحمله الرسول، فأما أنْ يجوزوا ذلك مع كون الشرائع لطفا لهم، فبعيد، لأنَّه تجويز لما يجب أنْ يعلم فيه الوجوب، لكنه لا يمتنع ألَّا يكلف الله تعالى في الأصل إلَّا مَن لا لطف له في الشرعيات، فلا يبعث ليهم الرسل، ويكون بعثه عبثا، لا فائدة فيه لو فعله، تعالى الله عن ذلك. وسنبيِّن هذه الطريقة عند الكلام في النبوَّات.
المصدر: الأصلح استحقاق الذم، التوبة، من صفحة 151- 153.، وهو الجزء 14 من موسوعة "المغني في أبواب العدل والتوحيد" للقاضي عبد الجبار.
الكلام في النبوات موجود في الجزء 15 من موسوعة "المغني في أبواب العدل والتوحيد".
التعليقات (0)