المعاقون حقاً
ظهرت قضية الإعاقة الجسدية و العقلية في المجتمعات البشرية ، كظاهرة إعلامية و حالة اجتماعية ، بالتزامن مع نشوء الجمعيات الانسانية في أوائل القرن الماضي ، و بالتحديد .. في المجتمعات الأوروبية و الغربية ، وتحديداً أكثر .. من خلال نشوء المنظمات الدولية الإنسانية ، العالمية منها أم الإقليمية . و هذه بدورها أيضاً ، ذات منشأ غربي .
و يلاحظ في هذا الصدد ، أن موضوع الإعاقة الجسدية و العقلية ، قد تم تناوله في البلدان و المجتمعات الغربية المتقدمة ، ضمن السياق السليم و العقلاني الصحيح ، سواء من المنطلق العالمي أم الإنساني أم الاجتماعي . و غالباً ما يتم تصنيف هؤلاء ( المعاقين ) جسدياً أم عقلياً ، ضمن فئة ( ذوي الاحتياجات الخاصة ) . هذا المفهوم انسحب بدوره في السنوات اللاحقة إلى العالم العربي حيث اتخذت تلك القضية موطن قدم لها في وسائل الإعلام و الصحف و الدوريات ، بالإضافة إلى المؤسسات و الهيئات التي عنت بتلكم الحالات من الأشخاص .
على أنه في العالم العربي ، قد نحا الموضوع إلى جانب العواطف أكثر منه الدقة الاصطلاحية التوصيفة أو الطبية . لكن ما يهمنا في مبحثنا هذا هو تناول ذلك الجانب العلمي الاصطلاحي لهذه القضية و إبراز الدلالة الوهمية الخاطئة له ، التي توردها وسائل الإعلام العربية بفئاتها كافة ، فضلاً عن سوء الاستخدام و الهدف المراد لهما أن يبرزا نهاية المطاف .
إذا نظرنا إلى كلمة ( معاق ) من منظور التمحيص و التدبّر ، لوجدنا أنها في مضمونها و حيثياتها الدلالية اللغوية لا تنطبق على ما يظهر في المستويين الإعلامي و التنظيمي المؤسساتي الاجتماعي لأصحابها . فكلمة ( معاق ) جاءت لغوياً من كلمة ( إعاقة ) و من فعل ( أعاق – يعيق ) . و الإعاقة هنا هي المنع مع توفر إمكانية القيام بالفعل ، أي بمعنى أن عملية الإعاقة تقع منطقياً و لغوياً على شخص قادر جسدياً و عقلياً ، على القيام بفعل معين و يمتلك كل الإمكانات المادية و الجسدية و العقلية و النفسية للقيام به بمفرده بشكل كامل تماماً ، لكن يوجد مانع خارجي دخيل يمنعه من القيام بعمله هذا ، أو بأحسن الأحوال يحول دون إتمامه على أكمل وجه . و لمعرضنا هذا أمثلة كثيرة لا تعد و لا تحصى منها على سبيل المثال .. الرياضي السباح الذي يسبح في بحيرة للوصول إلى الضفة الأخرى لكنه يواجه تيار مائي معاكس يمنعه من الوصول إلى هدفه . أو الشخص المحترف الذي يتسلق الجبال لكنه يصطدم بمنحدر صخري قاسٍ يمنعه الوصول إلى القمة .. أو الشخص الذي يخترع آلة أو جهاز معين لكنه لا يمتلك الأموال الكافية التي تؤهله لإنتاج اختراعه هذا و صناعته ، فالعامل المادي هنا يمثل عائقاً بالنسبة إليه يعيقه عن إنجاز أي مشروعه هذا .. أو الشخص الذي يروم القيام بعمل ما و يمتلك الإمكانات و المقومات اللازمة لذلك ، لكنه يمتنع عنه أو لا يجرؤ على القيام به نتيجة لتهديد خارجي من شخص أو جهة ما يمثل عائقاً له .
إن هؤلاء الأشخاص و أضرابهم هم الذين يقع عليهم فعل الإعاقة هم هنا .. المعاقون حقاً ، وعامل الإعاقة في هذه الحالة يمثل أنواع عدة منها الطبيعي كالتضاريس القاسية .. أو المادي كنقص في الأموال أو الدعم المادي و ما إلى ذلك .
إذن .. فالإعاقة منطقياً بصورتها و حالتها الصحيحة الصواب ، هي فعل أو عملية تقع على شخص أو جسم معين له كل المقومات و العوامل الذاتية للقيام بفعل أو حركة أو عملية معينة ، لكنه يتعرض إلى عامل و مؤثر خارجي يعترض طريقه و يمنعه من إكمال مهمته أو فعله أو حتى مجرد القيام به ، و بمجرد زوال هذا العامل أو العارض الخارجي ، يمكن لذلك الشخص أو الجسم معاودة عمله أو استكماله بكل بساطة .
اما أن يوجد شخص هو في وضعه الافتراضي الأساس عاجز عن القيام بفعل معين نتيجة لقصور ذاتي نفسي داخلي فيه ، عائد إما لعيب خَلقي أو عيب عقلي ذو منشأ طبيعي ظهر منذ الولادة ، فهذا ما لا يمكن أن يقال عنه ( معاق ) لأن عملية الإعاقة بمعناها الاصطلاحي الحقيقي الصحيح ، لم تقع عليه أصلاً لا بل على العكس تماماً ، نرى أن هؤلاء الرهط من الأشخاص ( كالمُقعَد أو المشلول أو المشوه خَلقياً أو مبتور العضو أو المتأخر عقلياً ) مع كل تقديرنا و احترامنا لوضعهم ، نرى أنه تقع عليهم عناية خاصة و زائدة من قِبل أفراد المجتمع و هيئاته و دوائر الدولة و مؤسساتها ، و يحظون بالرعاية ذات الخصوصية و الامتيازات و المراعاة في معظم نواحي الحياة اليومية العامة . كما يحظون برعاية و اهتمام وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها و لهم الحق كل الحق في ذلك . فالشخص ذو الاحتياجات الخاصة ، هو بالأساس غير قادر على القيام ذاتياً و افتراضياً بأفعال معينة يقوم بها الأشخاص المكتملون خَلقياً و عقلياً . حتى الأديان قد راعت وضع هؤلاء فاستثنتهم من أمور معينة و جعلت لهم وضع خاص يتناسب مع احتياجاتهم الخاصة ، جاء في القرآن الكريم
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } [النور : 61] .
و جاء أيضاً
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور : 60]
و التعريف العلمي الصحيح لهؤلاء القوم هو .. ( ذوي الاحتياجات الخاصة ) و بالتالي فهم لا يصلحون لأن يقع عليهم فعل و توصيف ( الإعاقة ) . لكن أي نعم .. يمكن أن يقع عليهم فعل و توصيف ( الإعاقة ) إنما ضمن مجال و سياق الأفعال و التصرفات التي يمكن لهم أن يقوموا بهما بالرغم من العاهات و العيوب الخَلقية التي نشأت فيهم منذ الولادة أو انتابتهم فيما بعد . كأن ينوي شخص أعرج مثلاً أو مبتور الساق ، إنشاء متجر أو دكان بقالة ، لكن ظروفه المادية الصعبة تعيقه عن ذلك . أو يروم شخص آخر مُقعَد على كرسي متحرك و يمتلك المال الكافي ، استصلاح أرض معينة لكن طبيعتها الصخرية القاسية تعيقه عن ذلك ... الخ . و لا أدلّ على ما ذهبنا إليه فيما سبق من قول ، هو أن نسبة لا بأس بها من ( ذوي الاحتياجات الخاصة ) لديهم إمكانات ومواهب فنية و حرفية و صناعية و عقلية متميزة يقومون بتنفيذها و يعجز عنها الكثير من المكتملين خَلقياً ، لا بل يوجد من هؤلاء الرهط رجال أعمال كبار يديرون مؤسسات تجارية و صناعية كبيرة و لديهم مشاريع اقتصادية ضخمة .
إذن .. بناء عليه و عليه بناء ، يبرز في هذا السياق السوآل الملحاح .. من هم المعاقون حقاً ؟؟؟ و لماذا يتم تجاهلهم و إلصاق صفة ( الإعاقة ) بأشخاص غيرهم ؟؟؟!!! إن المعاقون حقاً هم في زمننا الحالي و عالمنا العربي .. أناس كاملين عضوياً و عقلياً و يمتلكون الأفكار الناضجة النيرة السوية لحل مشكلات المجتمع لكنهم يصطدمون بعوائق و موانع كثيرة متعددة منها الاجتماعية أو الدينية أو السياسية أو الاقتصادية المادية . ومنها ما هو طبيعي عفوي ومنها ما هو مقصود .. المعاقون حقاً في زمننا هذا ، هم الذين في الحالات الافتراضية الطبيعية و الطبعية يتسمون بالتفوق العقلي و العلمي و الفكري و يمتلكون إرادة الفكر و القرار والتطوير ، لكنهم يتعرضون لإعاقة كبيرة رهيبة منظمة و ممنهجة في بعض الأحيان ، فضلاً عن التعتيم الإعلامي و الاجتماعي و غياب الرعاية الرسمية و الحكومية عنهم .. أي باختصار يمكن تعريف المعاقون حقاً بأنهم .. ذوي الاحتياجات الأساس لما يتنعم به ذوو الاحتياجات الخاصة الحقيقيين من دعم مادي و إعلامي و حكومي و اجتماعي و مؤسساتي .
أنا نزار يوسف صاحب هذا المقال و صاحب المؤلفات و الكتب و المقالات .. أنا إنسان معاق و من ذوي الاحتياجات الأساس لما يتنعم به بعض ذوي الاحتياجات الخاصة مما ذُكِرَ آنفاً ، و غيري الكثر الكثر من هم أعلى مني سوية و مرتبة و مقام و ممن ربما قد استصغر نفسي أمامهم .
و المشكلة أن ذوي الاحتياجات الخاصة قد تعايشوا منذ ولادتهم و إلى وقتهم الذي عاشوه بالوضع الذي هم فيه كونه قد شكل بالنسبة لهم وضعاً افتراضياً طبعياً و اعتيادياً في آن معاً و بالذات بالنسبة إلى أولئك الذين ظهرت فيهم العاهات الجسدية مذ ولادتهم أو أولئك الذين لديهم تخلف و قصور عقلي ، فهؤلاء بالأساس لا يعرفون ما إذا كانوا معاقين أو ذوي احتياجات خاصة أم لا .
و ما نريد قوله نهاية المطاف .. هو وجوب وضع الأمور العلمية و الاصطلاحية و الاجتماعية في نصابها الصحيح مع كافة التعاطف الكامل و التام مع ذوي الاحتياجات الخاصة و التقدير و الاحترام لهم ، و تقديم كل ما أمكن لهم من عون و مساعدة .. لكن أن يتم استبدال هؤلاء بهؤلاء و تمويه المعاني و المقاصد الحقيقية و إيقاع اللبس فيها خدمة لأغراض معينة ، فهذا ما لا يمكن أن يستقيم .
لا زلت أذكر تلك الحادثة عندما صادفت ذات يوم أحد الأشخاص المصابين بما يسمى ( البلاهة المنغولية ) عافاه الله و إيانا و أحسن مثواه و إيانا .. خارجاً من أحد شعب التجنيد و بيده دفتر خدمة العلم و عندما وقعت عيناه عليّ أخذ يصيح و يقول .. أنا عميد .. أنا لواء .. أنا عقيد . فاقتربت منه و انتزعت دفتر خدمة العلم و فتحته لأجد فيه عبارة تقول .. أعفي من الجيش لأنه مجنون .
نزار يوسف .
www.facebook.com/nizary3
التعليقات (0)