لقد تطبّع المغاربة على حقيقة ظلت سائرة المفعول في الركح السياسي ببلادنا، ومفادها أن السياسيين يُسوّدون الواقع لما يتموقعون في المعارضة لكن يلمعون صورته ويجعلونه ورديا لما يكونون في الحكومة ويضطلعون بتسيير الشأن العام. لكن الواضح للعيان أن المعارضة الحالية مازالت تبحث عن نفسها، في ظل وضعية التي تعيشها اليوم والتي لم تحياها المعارضة في أي فترة من فترات تاريخ المغرب منذ خمسينات القرن الماضي.
أسئلة كثيرة أضحت تحوم حول المعارضة الحالية: هل نتوفر اليوم على معارضة فاعلة داخل حياتنا السياسية؟ وهل المعارضة الحالية تعبر عن وجه من أوجه الاختلاف الخلاق وبهذا تكون بمثابة قوة دفع للحكومة من خلال توجيهها و نقدها ومراقبة عملها؟ وهل المعارضة تعني المبالغة في انتقاد الشكليات والسلوكيات الشخصية بدل التركيز على الفعالية النقدية للسياسات العمومية؟
مكونات المعارضة
تتكون معارضة اليوم أساسا من حزب الأصالة والمعاصرة والاتحاد الدستوري وحزب التجمع الوطني للأحرار وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فالأحزاب الثلاثة الأخيرة اضطلعت بتسيير الشأن العام، وتتحمل المسؤولية المباشرة أو غير المباشرة بخصوص واقع الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أوصلت المغرب إلى ما هو عليه الآن. وهي أحزاب معارضة لحكومة مهمتها الأولى هي تنزيل الدستور الجديد على أرض الواقع. كما أن الجزء الكبير من المعارضة الحالية يتشكل من أحزاب تأسست في دواليب الدولة وبدعمها وجاءت لتمييع الركح السياسة وإفراغ اللعبة السياسية من فحواها. هذا علاوة على تورط عدد من قيادييها في فضائح فساد بعضها عُرض على أنظار المحكمة.
المعارضة والدستور
ومن المفارقات الغريبة، في الوقت الذي تفتقد المعارضة فحواها منحها دستور يوليو 2011 دورا هاما وضمن لها مكانة تخولها حقوقا، من شأنها أن تمكّنها من النهوض بمهامها، على الوجه الأكمل، في العمل البرلماني والحياة السياسية. كما جعلها تشارك فعليا في مسطرة التشريع عن طريق تسجيل مقترحات قوانين بجدول أعمال المجلسين ورئاستها لجنة التشريع و المشاركة الفعلية في مراقبة العمل الحكومي عن طريق ملتمس الرقابة، ومساءلة رئيس الحكومة واللجان النيابية لتقصي الحقائق.
إن الدستور الحالي أراد أن يؤسس قواعد لمعارضة قوية قصد تمكينها من لعب دورها كاملا غير منقوص، لكن الضعف البيّن الذي تعيشه المعارضة الحالية حال دون ذلك.
واقع حال المعارضة
ومما زاد من انكشاف أمرالمعارضة ارتباطها القوي بلوبيات مقاومة الإصلاحات التي حظيت بترحيب شعبي، وهي الإصلاحات التي لم تدعمها فعليا أغلب الأحزاب المحسوبة على المعارضة.
وظلت المعارضة تتهم حكومة ابن كيران بتهميشها بصفة ممنهجة ، حيث اعتبر محمد أوجار، رئيس مركز الشروق (التجمع الوطني للأحرار) ، أن الحكومة لا تشرك المعارضة في اتخاذ قراراتها في الكثير من المستويات والقضايا الكبرى، من ضمنها تأجيل الانتخابات، وقرار الحكومة بإبعاد الوسيط الأممي المكلف بقضية الصحراء المغربية. في حين أقرّ إدريس لشكر، القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي أن الحكومة ظلت تسعى إلى إقصاء المعارضة وتهميش دورها. هذا في وقت ظل رئيس الحكومة يدعو في خطاباته أحزاب المعارضة إلى التعاون لإخراج البلاد من الأزمات التي تعيشها، معتبرا أن أحزاب الحكومة وأحزاب المعارضة ليسوا خصوما أو أعداء بل متعاونون لما فيه مصلحة المغرب والمغاربة، وأنه ليس من المصلحة الوطنية استغلال خطاب الصراحة والحقيقة الذي تنهجه الحكومة لبث روح اليأس في نفوس المواطنين والترويج للتيئيس.
أما المواطن المغربي المتتبع لشؤون السياسة، فيبدو أنه ملّ من الخطابات الخشبية التي تتحدث عن محاربة الفساد و محاسبة الضالعين فيه ويعتبر أن لا الحكومة و لا المعارضة تحمل خطاب بناء المستقبل و تعمل على الاختباء وراء أخطاء الماضي و تسويق خطاب لا يمكن أن يكون إلا صراعات سياسية و تصفية حسابات الماضي بعيدة كل البعد عن طموحات الشعب الداعية للحرية و الكرامة و العدالة. فالحكومة الحالية تريد فضح الحكومة السابقة التي أصبحت بقدرة الشعب في المعارضة و الشعب ينتظر الفعل السياسي الذي سيضمن له العيش الكريم و أنسنة المؤسسات الخدماتية والاطمئنان عن الغد بدل التهم المتبادلة تارة تأتي من الحكومة وتارة أخرى من المعارضة لتعرية بعضهم البعض، في وقت وجب على الجميع القطع مع صفحات الماضي و فتح صفحة جديدة لبناء الوطن و ليس تدميره.
وفي هذا السياق يقول الباحث ياسين گني: " إن المتتبع لمواقف العدالة و التنمية و لمواقف اليسار بأغلب تشكيلاته يجعل منه يخرج بموقف مفاده أن التياران قد استطاعت الدولة أن تحتوي قوتهما الجامحة و التعاطف الكبير الذي اكتسباه في الشارع، و بدخولهما المؤسسات الرسمية أصبحا في نظر أغلب المواطنين المهتمين بالشأن السياسي جزءا من اللعبة وهذه رسالة ذات وقع أرادت الدولة أن توصلها إلى الوعي و اللاوعي الجمعي للمجتمع المغربي وخاصة المسيس منه والذي لن يجد حضنا معارضا قويا يلتجئ إليه. وبهذا قد نجزم قاطعين أن النظام المغربي أصبح يضم التشكيلات المعارضة التي قوته و أصبحت مدافعا عليه وإن وقفت في وجه الحكومة. وبهذا ضمنت الدولة استمرارية نظامها بأسسه القوية المضمونة من طرف حكومة منفذة و معارضة تمتص الغضب الجماهيري."
حال المعارضة يدعو إلى القلق
إن حال المعارضة الحالية يدعو إلى القلق الكبير بالنسبة للوطن ولمستقبله، اعتبارا لدور المعارضة في التحول نحو الديمقراطية، وبالنظر لما يمكن أن تشكله من قوة اقتراحية ونقدية عالية، وتعبير عن مطالب وقضايا المجتمع والتزام نضالي إلى جانب الفئات الشعبية، وتحضير الطرح البديل لما فشلت فيه الحكومة ، بدل الاكتفاء بالتموقع في موقع عرقلة الإصلاحات، خصوصا تلك التي ثمّنها الشعب المغربي. إنها كما قال الباحث السوسيولوجي عبد الرحيم العطري: " المعارضة التي فُرض عليها وضع المعارضة".
ويرى عبد الرحيم السليمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس الرباط، أن المعارضة في المغرب تعيش حالة من "اللا توازن" لكونها لم تجدد تكوينها، ولم تحدد مفهومها بدقة وفق المتغيرات، وتعيش عدم الاستقلالية، ويغرق جزء منها في وهم الشرعية التاريخية.
خطاب المعارضة
قولا، تتفق أحزاب المعارضة الأربعة على مبدأ الحداثة، والتفكير في مجتمع وتطور جديدين، وانفتاح جديد للمجتمع المغربي على الرأي العام الدولي والاستثمارات الأجنبية.
لكن عموما يظل خطاب المعارضة الحالية بعيدا كل البعد عن خطاب الحلول البديلة، إنه إما أن يكون خطابا تعجيزيا أو خطابا "يتشفى في الحكومة" حيث تتربص المعارضة في انتظار كبوة أو خطوة متعثرة لهذا الوزير أو ذاك للانقضاض عليها. في حين أن الظرفية تتطلب خطابا يقترح البدائل للتصدي للمعضلات عوض الاقتصار على إبراز فشل الحكومة. لذا فإن المعارضة الحالية سرعان ما خبت جذوتها، وأضحت تعيد إنتاج نفس الخطاب ونفس التصرف، ولا مخرج من هذه الدائرة المفرغة إلا باعتماد خطاب الحلول والبدائل.
لكن يبدو أن المعارضة الحالية فاقدة لزمام المبادرة وفاقدة للهامش الضروري الكافي من الاستقلالية الذي من شأنه أن يجعلها تتوفر فعلا على السلطة في اتخاذ قراراتها والتعبير عن مواقفها دون لف ولا دوران. كما أنها غالبا ما تستسلم للضغوطات وتدخل في متاهات المزايدات واللعب على الحسابات الشخصية الضيقة. هذا ما أفقدها لعب دور الند السياسي للحكومة، القادر على تحقيق التوازن الذي دونه لا سبيل لإرساء قواعد ديمقراطية حقة. علما أن كل المحللين السياسيين يجمعون على القول إن المعارضة الفاعلة هي بمثابة صمام الأمان، كما أنها عامل جوهري في امتصاص غضب الجماهير. لكن المعارضة الحالية اجتمعت فيها كل مواصفات معارضة المنابر والخطاب. وهذا وضع يخدم السلطة ويساهم في تعميق حالة التنافر بين الدولة والمجتمع، ويساعد أيضا على تجميع شروط الإحباط والسخط والتذمر وفقدان الثقة في اللعبة السياسية والاقتناع بعدم جدواها.
هذا هو واقع المعارضة الحالية، بما في ذلك الأحزاب السياسية التي كانت بالأمس القريب متمرسة في مجال المعارضة السياسية وذات خبرة وحنكة طويلة فيها.
في واقع الأمر يشكو المغرب حاليا من غياب معارضة تمثل قوّة قادرة على طرح البديل في تدبير الشأن العام، هذا ما يجعل اللعبة السياسية – رغم آلياتها الجديدة المتقدمة عن السابق- دون جدوى.
أي معارضة يحتاجها المغرب؟
إن الفترة العصيبة التي تجتازها بلادنا تتطلب – أكثر من أي وقت مضى- معارضة فاعلة وفعّالة في جعبتها بدائل وتتوفّر على قوّة اقتراحية ولها القدرة على ابتكار حلول ذات جدوى كفيلة بالتخفيف من حدّة المعضلات المتراكمة التي نتخبط فيها. ولن يتأتى هذا للمعارضة الحالية إن هي لم تتوفر على تصور واضح للوضع ولواقع الحال، وعلى فهم عميق للمشاكل المطروحة.
في هذا السياق يبرز تساؤل جوهري: كيف يمكن للمعارضة – وهي على ما هي عليه الآن- أن تقوّي نفسها وتدفع المغاربة لنسيان فشلها الذريع؟
التعليقات (0)