المعارضة بتعريفها البسيط ، فعل يهدف إلى التغيير ، وليس إلى التبديل ، وهو فعل وردّة فعل في الآن ذاته ، وتستند في فعلها إلى رؤية أساسها فكر متعارض مع ماهو واقع ، غير متصالح معه ، وغير متسامح ، بمعنى أنها نتاج تعارض الرؤى في حل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وسواء نشأت هذه المعارضة في بيئة قمعية ، أو في بيئة ديمقراطية ، أو حتى خارج بيئتها ، فهي تسعى إلى تسفيه ودحض كل ما ينجزه النظام الممسك بزمام السلطة ، حتى وإن كان هذا المنجز نافعاً ومفيداً ، وهذا ما يدفع النظم إلى التودد للمعارضات ، وخلق هوامش للمناورة معها ، وأحياناً للمساومة .
وبالتطرق إلى شكل المعارضة ، وأدواتها ، وأسلوبها ، تبرز حقيقة أن المعارضة السورية ، بكافة فعالياتها ، قد تبنت النضال السلمي الديمقراطي ، كنهج يفضي إلى تغيير النظام بالوسائل السلمية الديمقراطية ، وهذا التبني لهذه الوسائل والأدوات ، قطعاً ينم عن ذهنية حضارية تتسم بالرقي الفكري والأخلاقي ، وأيضاً بقراءة دقيقة لمستجدات الأوضاع الإقليمية والدولية ، إلاّ أن النظام يقابل سمو هذه الروح الوطنية ، بكم هائل من القوة والعنف ، مؤسِسة بطشها على أجهزة أمنية واستخباراتية لا تعرف الرحمة ، وتلفظ من قاموسها كل ماهو وطني وشريف ، وتستبدله بمفردات أخرى ، أقلّها الخيانة ، والاستقواء بقوى أجنبية ، ومعاداة الوطن ، توهين نفسية الأمة ، أو تحقير رأس النظام . وكل هذه المفردات التي تتحول إلى تُهم ، تصل عقوبتها إلى الإعدام أحياناً ، تشكل عائقاً حقيقياً أمام قوى المعارضة ، لممارسة حقها الطبيعي والمشروع ، في الانخراط وتفعيل المشروع الوطني ، المؤسس على التداول السلمي الديمقراطي للسلطة ، بعيداً عن استخدام العنف .
في حالة كهذه الحالة ، وضمن المعطيات المتوفرة كهامش تحرك يكاد يكون معدوماً ، فرضته السلطة على المعارضة ، لا بد من البحث في تطوير آليات العمل المعارض ، لنظام لا يقبل أي شكل من أشكال الحوار ، ويرفض بإصرار تصور وجود معارض واحد ينتقد سلوكه الذي استمر لفترة زمنية قياسية ، تكاد تصل إلى نصف قرن ، انتفت فيها كافة مظاهر الحياة الديمقراطية .
وبما أن المعارضات السلمية الديمقراطية ، غالباً ما تنشأ في جو ديمقراطي ، وهذه هي بيئتها الطبيعية ، والتي من خلالها يمكن إنجاز برامجها ، والتي من شأنها ، إزاحة الحزب أو ائتلاف الأحزاب الممسكة بزمام السلطة ، ولكنني لا أفهم كيف تستطيع معارضة سلمية أن تعمل ضمن أجواء الرعب التي خلقها النظام ، والتي غايتها الأساسية الحفاظ على استمرارية هذا النظام دون غيره . ولا يخفى على أحد ، بأن طبيعة النظام المبنية على التخوين ، تفرض على كافة فصائل المعارضة ، بل وحتى مؤسساتها الإنسانية ، عدم الاتصال بمثيلاتها عبر العالم ، وإن فعلت ، فهي ستواجه تهم التخابر والتعامل مع الأجنبي ، واستقطاع جزء من الأرض الوطنية لصالح دول أخرى ، ومعاداة " الدولة " ونظامها السياسي ، مما يضفي شكلاً من أشكال القداسة على هذا النظام ، وبالتالي فإن كل التهم التي توجه إلى نشاط المعارضة ، هي تهم " مقبولة " ، ويتم تسويقها عبر الماكينة الإعلامية الضخمة التي أسسها النظام لهذه الغاية .
عدد غير قليل من فصائل المعارضة ، وفي هذا الجو المشحون بالرعب ، لم تعد ترى بصيصاً من النور في نهاية هذا النفق المظلم ، أو أنها أصيبت باليأس ، أو أنها فقدت الوسائل التي تمكنها من الاستمرار ، فلجأ بعضها إلى مغازلة النظام ، بطريقة أو بأخرى ، متذرعةً بأسباب واهية ، كانت هي نفسها تدحضها في وقت من الأوقات .
ولكن تجربة وخبرة النظام الطويلتين ، في التعامل مع معارضته ، وأيضاً مع المعارضات المحتضنة من قبله ، من دول الجوار ، جعلته ومن خلال قراءة أولية وسريعة ، أن يضغط بكلتا يديه على المكان المؤلم للضحية ، ومررت رسائلها عبر ما يعرف بكتّاب السلطة ، حرصها الشديد ، على أن تقوم الضحية بالاعتذار لجلادها ، عن المآسي التي حصلت فيما مضى ، كرسالة طلب غفران ، أو صك استجداء ، ليتم قبولها على أنها الضحية المعتدية ، ليصار بعدئذ إلى فرض ما يتيسر من شروط إذعان .
المطلوب اليوم من المعارضة السورية ، قراءة توجهات النظام ، قراءة صحيحة ودقيقة ، والمطلوب أيضاً ، العمل على وقف الخطاب التخويني الذي ورّثه النظام لكافة فصائل المعارضة ، وأيضاً باستثناءات قليلة ، والبدء بالعمل على إنجاز ما يمكّنها من تجميع قواها المبعثرة ، على أرضية مواجهة الكتلة الهائلة من العنف ، الذي يمارسه النظام ، كآخر الأوراق التي يملكها ، ولم يتبق منها الكثير . فالانفجار العظيم لا يأتي إلا بعد الضغط العظيم ، وعندها قد تتحرك عربة الجماهير ، التي لن يتمكن البعض من قيادتها فحسب ، وإنما لن يتمكن من اللحاق بها أيضاً .
التعليقات (0)