المعارضة بتعريفها البسيط ، فعل يهدف إلى التغيير ، وليس إلى التبديل ، وهو فعل وردّة فعل في الآن ذاته ، وتستند في فعلها إلى رؤية أساسها فكر متعارض مع ماهو واقع ، غير متصالح معه ، وغير متسامح ، بمعنى أنها نتاج تعارض الرؤى في حل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وسواء نشأت هذه المعارضة في بيئة قمعية ، أو في بيئة ديمقراطية ، أو حتى خارج بيئتها ، فهي تسعى إلى تسفيه ودحض كل ما ينجزه النظام الممسك بزمام السلطة ، حتى وإن كان هذا المنجز نافعاً ومفيداً ، وهذا ما يدفع النظم إلى التودد للمعارضات ، وخلق هوامش للمناورة معها ، وأحياناً للمساومة .
وفي حالة المعارضة السورية ، وهي قطعاً نموذج المعارضة غير المتجانسة ، ونموذج المعارضة الطارئة النشء ، باستثناءات قليلة ، فقد تجد حزباً سياسياً ، أو فصيلاً يدعي عدم رضاه عن أداء النظام ، ولكنه في ذات الحين ، يشارك في اتخاذ القرارات التي تصب في ذات الاتجاه ، الذي نتج عن أداء ذات النظام . وقد تجد حزباً سياسياً أو فصيلاً معارضاً بشدة ، ولكنه يسبغ على النظام الذي يعارضه صيغ المديح والثناء . ومع أن المعارضة السورية معارضة واسعة الطيف ، وتتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة ، إلا أن العديد من فصائلها وفي مناسبات عديدة ، تستجدي النظام ، وتعمل على استعطافه ، وتخشاه ، وتبحث عن نقاط الالتقاء والتوافق معه ، وتخلق بذلك المقدمات التي من شأنها خلق الفرص الوهمية ، بغية تقديم التنازلات ، وتصويرها على أنها انتصارات .
وإذا كان النظام قد عمل وباجتهاد على تكريس ثقافة الانشقاقات داخل الأحزاب السياسية في سورية ، فإن هذه الثقافة انتقلت بدورها إلى الجسم المعارض ، باعتبارها موروثاً حزبياً مكملاً للشخصية الحزبية ، واستندت هذه الثقافة والتي أصبحت ظاهرة ، إلى الشللية والمناطقية والقبلية والمصالحية ، وبذلك فقدت روح ونَفَس وشرعية العمل المعارض ، الذي لم تعد تلك الجماهير الباحثة عن التغيير توليها اهتماماً ، وهذا السلوك الجماهيري بمثابة فعل معارض للمعارضة ذاتها ، وهو عقاب لها على تقاعسها وتكاسلها في عدم تمكنها من تجسيد طموحات هذه الجماهير ، بخلق الفرص الملائمة لفرض عملية التغيير .
أما الإشكالية الأخرى ، وهي نتاج ذات التقاعس والتكاسل ، فهي ظاهرة تصدي الكتاب والمثقفين والضغط على قادة المعارضة ، بهدف تفعيل الدور المناط بهم كطليعة واعية ومدركة لمصالح الجماهير ، أو هكذا يفترض بها أن تكون . وفي هذه الحالة فإن مجموعات المفكرين والكتاب والمثقفين ، تشكل قوة فضح وتعرية إزاء السلوك المعارض غير المجدي ، والذي بدوره إما يبطئ عملية التغيير ، أو يؤجله ، أو يلغيه ، تماماً كتيار الماء الذي لا يصب في قناة المطحنة ، وهو إذ ذاك لا يساهم في عملية إنجاز ما يمكن إنجازه بالسرعة المطلوبة . ولكن المؤسف في الأمر ، أن شريحة الكتاب من ذوي الميول الحزبية ، أو الانتماء الحزبي ، غالباً ما يؤدون أدوار المحاباة لأحزابهم وتنظيماتهم ، مما يجعلهم حجر عثرة في طريق تناول أداء أحزابهم بالنقد ، الذي من شأنه تحرير مفهوم أن الحزب ينبغي أن يقود الجماهير إلى الأمام ، وليس إلى الوراء .
واستناداً إلى هذا المنطق ، فإن دوائر النظام تسير بخطى ثابتة وواثقة ، باتجاه تقزيم وتسفيه أي فعل معارض ، وكنتيجة لهذا التقزيم ، فإنه يصعّد من عمليات الدهم والاعتقال والتغييب ، للكوادر الواعية التي استوعبت وبشكل مبكر ، ماهية الصراع القائم بين السلطة ونقيضها ، بين الحاكم والمحكوم ، بهدف إفراغ الساحة السياسية من أي فعل معارض حقيقي ، واستبداله بفعل معارض مشوّه ، لا يرقى في كافة الأحوال إلى مرتبة المعارضة .
البقية قادمة ...
التعليقات (0)