بقلم:سامح عسكر
المظاهرات السلمية خيار استراتيجي
لو اتفقنا على أن التصور الإداري لكل فصيل سياسي تشوبه الطوباوية فسنقف على مفهوم للعمل السياسي لا يتخلى عن السلمية في التغيير، والطوباوية تعني الخيال والمثالية، والمجتمع الطوباوي هدف مشترك لكل الجماعات والأحزاب ولكن نسبة تحقيقه تختلف من كل جماعة سياسية لأخرى، وتعلو نسبة تحقيقه حسب معايير الكفاءة المهنية والأخلاقية، وفي تقديري الخاص أرى أن هذه النسبة لا تتعدى النصف، والسبب في ذلك وجود عوامل تحد من تحقيق هذه الطموحات المثالية من ضمنها محدودية الحقائق المُطلقة وانتشار الخلاف حول الجزئيات في المجتمعات الأمية، فالمجتمع الأمي يعتبر بعض الجزئيات كُليات يَحرُم تجاوزها، أما داخل المجتمعات المتقدمة فلا نجد نفس القيمة من الخلاف حول الجزئيات ،كون مفاهيم الحُرية لديهم مُحررة بشكلٍ كاف، وتُساعدهم هذه المفاهيم على استيعاب هذه الجزئيات وفصلها عن الكليات.
واشتراط السلمية -في حال تحقق هذه الطوباوية -يعني عدم الثقة بالبدائل، فاليقين في مثل هذه الحالة يعود إلى الكمال الإنساني المُحال، وبالتالي يكون الخيار السلمي خياراً استراتيجياً لا غِنى عنه لأي مجتمع ينهض.
من الإشارات الدالة على وجود مثل هذه الذهنية الطوباوية هي تعدد الشعارات والتي تربط بين الواقع والمُقدّس، قد يكون هذا الرابط مقبولاً في حال مساسه بالقيم الإنسانية كالأخلاق والفضائل، فوجود الأخلاق يعني حصار الرغبات -ولا أقول قتلها، أما في العمل السياسي فتكون الرغبات متقدمة عن تلك القيم كون العمل السياسي يطلب كشّاف الإصلاح على الغير وتحقيق آمال وطموحات المجتمع، ويصعب معه بالتالي تأثير المؤخرة في المقدمة، فالمؤخرة هي القيمة والمُقدمة هي السياسة ومن تلك الجُزئية نرفض الربط بين الواقع والمُقدس، ولو حدث ذلك فهو استغلال المقدس لصالح الواقع أو ما يصطلح عليه البعض(بالتجارة) سواء التجارة بالدين أو بالقيم أو بأوجاع الناس.
من مزايا المُظاهرات السلمية أنها تضع نفسها ضمن العملية السياسية باستمرار ولا تتأثر بالتطوير أو بالتجديد الذي يطرأ على العملية السياسية مهما حدث، فالإنسان يميل دوماً إلى السلام وإلى الراحة النفسية، وتلك التظاهرات السلمية- خاصةً وإذا مسّت ضمير ومشاكل المجتمع- فهي تؤثر في الناس بشكل أكبر من العُنف، وأنا أصف هذه المظاهرات السلمية بأمواج البحار فالموج في بدايته حركة بسيطة ، فإذا انتهت هذه الحركة بسُرعة ينتهي تأثيرها بعد فترة من الزمن، أما إذا استمرت هذه الحركة البسيطة أطول وقت ممكن فهذا يعني أنها تتمدد وتتوسع باستمرار، فوجود مثل هذه الحركة وبنفس المقدار والاتزان تتسبب في إعلام الناس بوجودها وبأن دوافع وأسباب هذه الحركة ينبغي النَظَر إليها بعين الاهتمام،وهذا ما يسميه البعض.. "بالمد الثوري"..أي أن فكرة الثورة تظل حية نابضة إلى أن تجد الوقت المناسب للنجاح ومن ثم التغيير الحقيقي.
على الضد من ذلك لو كانت هذه الحركة شديدة فهذا يعني طرد هذه الأمواج لتُحدث فيضاناً يهدم ويُدمّر،وبفضل مثل هذه النتائج تنشأ الصدمة لدى الناس، ولكن الصدمات لا يستوعبها البشر إلا بلِحاظ أهدافها ونتائجها.. فيشرعون على الفور إلى شيطنة القديم وعدم الاعتبار إلا بالجديد- ولو كان فاسدا، وهنا ينبغي لنا التفريق بين صدمتين إحداهما فكرية والأخرى بدنية، فالصدمة الفكرية تفترق عن البدنية عبر الوسائل وأيضاً عبر الأهداف ومن ثم النتائج..وذلك كون الفكرة لا يقضي عليها إلا فكرة أخرى، أم المواجهات البدنية فهي تظل حبيسة داخل صندوق المادة لحين مزجها بمواجهات فكرية.. حينها يكون التغيير -في تلك الحالة- مطلوباً ، ولكنه تغييراً لا يرفع شعار" الثورة" الثقافية وإلا ضاعت ثمار تلك المواجهات الفكرية مع أول عملية رسوب سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي.
أنا لا أؤمن بأن التغيير الحقيقي لن يكون إلا عبر النضال الفكري والسياسي المستمر، فالفلسفة السياسية والثورية كما أراها تقوم لإنتاج مجتمع متحرك يرصد ويتفاعل مع المُشكلات ويخلق لها الحلول بسرعة، وليست لإنتاج مجتمع ساكن وخامل يجمد على فكرة واحدة ويدعو لها بأنها أم الحقائق، فالمجتمع الناهض كما أتصوره هو مجتمع متنوع في الثقافة وفي الدين معاً، وهذه النوعية من المجتمعات هي القادرة على إرساء العدل وحصار الظلم بشكل أكثر حِرفية وخبرة، أما ضرورة الاستمرار في هذا النضال كون العمل الثوري واسع الحدود زمانياً ومكانيا، فالثورة في الأصل هي فكرة متجددة ومتطورة بتطور عقول البشر ومُعدلات النجاح والإخفاق، وما يتصوره البعض من مرحلة زمنية تنتهي بانتصار وهزيمة ما هي إلا معارك بشرية يُوظّف لها الناس أسلحتهم تكون نتائجها حسب سُنة التداول...
التعليقات (0)