[ المطولات الشعرية عند السياب
ظواهر فنية في الشخصية والرؤيا والبناء العام- الريادة وصراع المذاهب الأدبية
إعداد الدكتور:
فايز الذنيبات
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
ربما لم يعد للمناهج التي تدرس النص من خلال مبدعه أو تاريخه أو مجتمعه مكانا بين الدراسات الحديثة, بعد أن غزت اللسانيات عالم النقد وأصبح النص معزولا عن كل ما يربطه, فالنص حقل إشاري ولا قيمة لأي عنصر خارجي أو تكويني في تفسيره, وفي اعتقاد الباحث أن ثمة نصوصا لا يمكن تناولها إلا من خلال مبدعيها, ومن هذه النصوص قصائد السياب وعلى وجه الخصوص مطولاته الثلاث؛ ففي هذه المطولات تختلط الرمزية المتمثلة في الحكايات التي بنى عليها السياب نصوصه, كما تختلط الكلاسيكية بكل تجل من خلال فضاضية التعبير والترادف في الصور والإطالة في الوصف والتبسّط في المعاني وسطحية اللغة, وكلها مظاهر لغوية, كما تتجلى الرومانسية بمعانيها الوجدانية وتعبيرها عن الباطن المخبوء, كما تتجلى الواقعية في التعبير عن هموم الواقع المعاش, وهموم المجتمع بشكل عام, وطرح قضايا تخص الزمن الحالي, كما تتجلى الوجودية بالتعبير عن أزمة الكائن البشري في وجوده والصراع المحموم بين الغبيات والرغبات, كما تتجلى المظاهر السردية في استثمار عنصر السرد القصصي في الخطاب الشعري, واستعمال تقنيات سردية في بناء النص. وباختصار تعد المطولات حدثا تاريخيا يؤرخ لمرحلة من الصراع الفكري على مستوى التفكير الفردي والجماعي, ويمثل تنازع المذاهب الأدبية في غيبة مرحلية لفاعلية النقد كمكون ثقافي ورافد معرفي هام.
إن دراسة مطولات السياب وفق مناهج تعتني بالنص فقط تفقد الحقيقة جزءا هاما من تجليها, كما أن دراستها بناءً على معطيات علم النفس يغفل أيضا جانبا من رمزيتها وإشاريتها, وجانبا من واقعيتها. وبين هذا وذاك ارتأى الباحث أن يتناول هذه النصوص الفريدة من زوايا متعددة أهمها: الرمزية, والسردية, والذات المبدعة, والبناء الهيكلي, والرؤية الفكرية, إلى جانب دراسة الشخصية, وتملس حركة التاريخ والمجتمع في تفسير النص, والاستعانة بالنص نفسه ليفسر النص, كما اعتنت الدراسة بالبواعث التكوينية التي قادت إلى هذا النص, ولم يكن هدفها تفسير السياب من خلال النص, بل تفسير النص من خلال السياب بمرحليته وجدلياته وواقعه وتفكيره, لذلك ستنحو هذا الدراسة طرقا عديدة في تلمس مقابض النص وفي تفسير ظواهره المختلفة. ومن المعروف أن السياب كذات هو بؤرة للجدليات الفردية والقومية والأممية, والصراعات الفكرية والنفسية, لذلك لا يمكن اختراق النص في تغاضٍ عن هذه الجوانب, إلى جانب أن السياب كان يكتب وفي ذهنه جانب من شعوره بالريادية والمغارة في التطويح بالتقاليد المألوفة, وفي حرقه لمراحل سابقة ومتزامنة في الوقت نفسه. إلى جانب أن قصائد السياب غنية سيكولوجيا, ومفعمة بالرومانسية المخبأة. كذلك لم تكن من النضج الفني بمكان ليحجب عنها إسقاطاته وهمومه الذاتية وتطلعاته, فكانت خليط شخصية ومرحلة بأكملها. فهذه الدراسة قد تكون –وفقا لرؤية بعضهم- تنظر بنمظار تاريخي أو بخليط من العدسات القديمة والحديثة. لكنها محاولة اختراق للنص, تقبض على جمره الملتهب, وتحاول تلمس بواعث الاشتعال.
توطئة:
تتناول هذه الدراسة ثلاث قصائد للسياب -هي الأطول في دواوينه- وفق دراسة فنية تحاول من خلالها الوقوف عند عدد من الظواهر الفنية, وتحاول تعرية النص قبل وبعد كتابته مستفيدةً من بعض المناهج في الوقوف عند قضايا جزئية , ومعولة على المنهج النفسي في نتائجها, وبما أن موضوع الدراسة – حسب اعتقادي- فضفاض وله تشعبات كثيرة ؛ لذلك آثرت الوقوف عند موضوعات محددة أهمها: المبنى الحكائي للنص, حيث يقوم النص على حكاية كانت موجودةً ذهنياً قبل أن تكون شعرأ, ومن هنا وقفت عند بعض التقنيات القصصية, وحاولت أن أدمج قصيدتي: حفار القبور والمومس العمياء معاً لأسباب وقفت عندها في الدراسة. كما وقفت الدراسة عند بناء القصائد , وعند بعض الظواهر الفنية, كالرمز والأسطورة والتصوير ,والعلائق الذاتية التي تربطها بحياة الشاعر وتجربته. وكانت المصادر الأولى للدراسة هي ديوان أنشودة المطر, ودراسة إحسان عباس ؛ لأنها الأقرب إلى طريقة هذه الدراسة كما أنها الوحيدة التي وقفت عند القصائد الثلاث, مع الإلمام ببعض الدراسات التي تناولت حياة السياب أو شعره.
أولاً-البناء الفني في المطولات
1- التقنيات السردية وعلاقتها بالرمز العام
يعد بناء المطولة الشعرية عند السياب بناءً سردياً حكائياً ضمن إطار شعري, ويعتمد هذا البناء الخاص على المقومات العامة للبناء للسردي, في النماذج الثلاثة المختارة مع وجود فوارق بسيطة, لكن هذه المطولات الثلاث تشترك في بعض السمات وتتفاوت في بعضها , وإن كانت قصيدتا حفار القبور والمومس العمياء تشتركان في أغلب السمات إلا في نمط الصراع الرئيسي في أحداث القصة , بينما تكاد قصيدة الأسلحة والأطفال تختلف في بنائها وطرحها عن القصيدتين السابقتين .
ومن البديهي أن نعلم أن المطولات تضم مبنى حكائياً هو أبسط حالاته قصة رمزية, وأن هذه القصة الرمزية هي سابقة لأوان القصيدة, بمعنى أنها وجدت في ذهن السياب قبل الخلق الفني للقصيدة . ومن هنا فإن البناء الفني للقصة قبل أن تكون قصيدةً هو بناء شبه موحد , إذ يتسم بقلة الأحداث والشخصيات كما يتسم بوجود مقدمة تمهيدية أو استهلال سردي يرسم مشاهد الطبيعة وتنتهي بنهاية مفتوحة. وسوف أقف أولاً مع العناصر السردية في المطولتين: حفار القبور والمومس العمياء معاً, لوجود علائق وشيجة وقواسم مشتركة بين القصيدتين, حيث أن القصيدتين تتنفسان في جو رمزي وحس مأساوي مشترك. تبدأ أحداث القصة بالوصف الخارجي لشخصية الحفار, دون مقدمة تضع بين أيدينا ماضي هذه الشخصية أو ما هي الظروف التي دفعته إلى هذا الوضع, فهو يبدأ من حيث لا بداية ولا نهاية في تسلسل القصة فلا توجد أحداث سابقة زمنيا للبداية كذلك لا توجد أحداث تالية لها زمنيا , فنحن بإزاء زمن فوتوغرافي يرصد لنا لوحةً متحركةً بدون زمن. فالبداية هي: فانجاب عن ظل طويل
يلقيه حفار القبور
كفان جامدتان, أبرد من جباه الخاملين
في مقلة جوفاء خاوية يهوّم في ركود
كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين
وفم كشق في جدار.
وبهذا الوصف الخارجي ابتدأت قصة الحفار, وصف يوحي بشخصية مرعبة, وتقاسيم مشوهة, ثم يتحدث وبلسان الحفار عن جوعه وحاجة الشديدة للمال ليشبع فجوره ونزوعه للإثم, ولكنه لا يتمكن من إشباع رغباته إلا من خلال موت الآخرين, فهو يحفر القبر وينتظر أن يموت أحد ما ليحصل على أجره ويهرع به على الحانات. وبعد هذا التقديم لشخصية الحفار أخذ السياب وعلى لسان راوٍ يصف لحظةً زمنيةً واحدةً هي لحظة ترقب الحفار لميت جديد , لأنه سيموت إن يمت أحد في القريب العاجل, وهذه اللحظة استغرقت معظم النص, فهو تارةً يلتمس الأعذار لنفسه, ويوحي بجبريته, وتارةً يدعو الله بحرارة ليعجل بموت الناس, وتارةً يتساءل عن مثيري الحروب التي تحصد أرواح الناس, وتارةً يصف شوقه إلى الحانات والبغايا, وفي نهاية النص نجد بعض عناصر من زمن القصة ففي ليلة وبينما يرتقب إذ رأى مشهد جنازة فطارت نفسه فرحاً وبينما تناول أجره هرع إلى أحد البغايا كان يتردد عليها وإذ به يكتشف أن الجنازة التي قبض منها الأجر كانت جنازة تلك المرأة, حيث استرجعت كفه النقود التي كانت تأخذها منه, وفي هذه المفارقة تنتهي القصة.
أما عن الأحداث في قصة المومس العمياء, فتبدأ أيضاً من حيث النهاية, حيث يقدم الراوي شخصية لامرأة عمياء تضطر للبغاء من أجل أن تعيش, وقد أنف عنها الزبائن بعد أن تقدمت في السن وأصيبت بالعمى, ثم يرصد لنا عبر استرجاعات طويلة ماضي هذه الشخصية. فقد كانت صغيرة يوم قتل أبوها من قبل حراس أحد الإقطاعيين بعد أن اتهم بالسرقة من الحقول, كذلك كانت صغيرةً يوم تعرضت للاعتداء من قبل جنود الغزو الذين أتوا من البحار, فاضطرت بعدها لشح الحال أن تمتهن البغاء. ويصف الراوي وفاة ابنتها الوحيدة التي ولدت سفاحا, كذلك يصف إقبال الزبائن عليها, ثم يعود إلى لحظة البداية لحظة الفقر والعجز, ونفور الناس والشعور المرير بالقسوة والانتظار. وفي مثل هذه البداية جاءت النهاية مفتوحةً.
وهذا مجمل الأحداث في القصتين, ومن المعروف أن البناء في كليهما بناء رمزي خالص, لذلك جاءت العناصر السردية العامة في القصيدتين متضافرةً لتخدم عنصر الرمز؛ وفيما يلي سأقف عند بعض هذه العناصر:
الراوي: يبدو أن الراوي في المطولتين هو مما يسمى الراوي المصاحب أو الراوي مع, وقد تولى عملية القص في الحكايتين راوٍ كلي العلم مغيب تماما يقف خارج الأحداث ولا يبرر لنا حصوله على المعلومات, ويتبادل معه عملية القص راوٍ ثانٍ هو البطل في الحكايتين, وقصيدة الحفار تشمل مستويين من الرواة : الراوي الرئيسي وهو كلي العلم, كما يبدو في قوله:" وهز حفار القبور يمناه في وجه السماء" والراوي البطل الذي يتولى بدوره عملية القص في أغلب مفاصل الحكاية, كما في قوله: " واخيبتاه ألن أعيش بغير موت الآخرين". ويعد تعدد الأصوات في النص سمة جمالية, كما أن حديث البطل عن نفسه أقرب إلى ذهن المتلقي من حديث الراوي, وقد أدى هذا التعدد إلى لحمة بنائية , استطاع من خلالها السياب أن ينتقل بنا من الوصف الخارجي المتمثل في الاستهلال ورسم الشخصية من الخارج, عبر لسان الراوي إلى الوصف الداخلي وإظهار هواجس البطل ورؤيته للأشياء, عبر الراوي البطل. ويبدو اتكاء السياب على رواية البطل بشكل أكثر تعميقاً للرمز المحاط بالشخصية, في حين اتكأ في قصة المومس العمياء على رواية الراوي الرئيس. ولهذا الاختلاف في الأدوار ما يبرره, ففي حين كان الهدف من قصة المومس العمياء أن تكون رمزاً على مستوى القصة بكل أبعادها, كان الهدف من قصة الحفار أن تكون رمزاً على مستوى الشخصية فقط, وهذا الدافع حدا بالسياب أن ينقل لنا صراع الشخصية في الحفار بانقطاع تام عن الظروف الخارجية لأن المهم أن يبلور لنا كل ما يختلج في أعماق الحفار من هواجس, ولن يجد وسيلة لنقل هذا أفضل من الشخصية نفسها لذلك لجأ إلى رواية البطل وأهمل دور الراوي الرئيس, وعلى العكس تماماً في قصة المومس فقد أسند الدور الأكبر للراوي الرئيس لأن البعد الرمزي يكمن في القصة ككل بجميع تجلياتها , وهذا يحتاج راوٍ ينقل المشاهد من كافة الزوايا, فكان الدور للراوي كلي العلم.
البناء الفني لقصيدة الحفار:
1. الصراع والرمز العام:
يبني السياب مطولته على فكرة تقديم الشخصية الرمز, وقد ابتدأ القصيدة برسم الجو العام ووصف ملامح حفار القبور :" كفان جامدتان... في مقلة جوفاء خاوية...كفان جائعتان كالذئب السجين وفم كشق في جدار" هذه الشخصية التي يطيب عيشها بموت الآخرين , لأنها ستقبض أجراً لقاء حفر قبورهم لتروي شبقها ونزوعها نحو الإثم ودور البغايا, فهي تتلهف على الحروب والكوارث , وتتضرع إلى الله أن يبيد الخلق , "إن هذه الملحمة هي معنى المأساة الكامنة في ضروب الصراع, فالحفار في صراع مع غرائزه, وشعوره مقسم بين الدعوة إلى الحرب والثورة عليها, وإذا شعر من نفسه بالوحشية لتمنيه الحرب والدمار اعتذر عن ذلك "(1) بقوله: " أنا لست أحقر من سواي
وإن قسوت فلي شفيع ...أني كوحش في الفلاة
لم أقرأ الكتب الضخام وشافعي ظمأ وجوع ...
والقاتلون هم الجناة وليس حفار القبور"
فالصراع العام في القصيدة صراع الحفار مع ذاته لأنه لا يتمنى موت الآخرين إلا من باب حاجته للمال, فهو صراع الأناني أمام حاجته حين يضحي بالكل وصراع الموت والحياة. كل ذلك لأن حفار القبور لا وجود لمهنته إلا بوجود الحرب , غير أنه حفار بوهيمي, لا يكاد يجد المال حتى يندفع به إلى الحانات, وقد ركز السياب اهتمامه على تشريح الحفار فهو من جهة أكسبه أبشع الصور وأكثرها إثارةً للقسوة, ومن جانب آخر جعل مصدر الرزق الوحيد له أكثر المصادر قبحا وفجاجةً وشؤما , ومن جانب ثالث جعل إنفاق هذا المال في أكثر الوجوه خسةً وامتهانا, ومن جانب رابع أفصح عن كره الحفار للحياة والناس , وإطلاقه على الناس صفة (نسل العار) وتمنيه لهم بالهلاك جميعا, يقول: " ربي أما تثور فتبيد نسل العار تحرق بالرجوم المهلكات أحفاد عاد باعة الدم والخطايا والدموع ".فحين يطلب أن يهلك الناس بالرجوم فهو ينظر لهم على أنهم شياطين, وينظر على أنهم يتاجرون بأرواح الخلق, وهو في حقيقته أبشع من هذه الصور, فكيف يكون ثائرا على الخطايا من جهة وداعيا إليها من جهة أخرى. ويبدو أن الإنسان حين يبلغ من العصيان والأنانية مبلغا لا تتورع نفسه عن هذه الهواجس , فهذه مرحلة تبلغ فيه النفس حد الحقد على كل شيء والرغبة في الانتقام من أي شيء , لأن الإنسان حين يعجز عن إعطاء الإنسانية حقها ينقلب نقمةً على كل رموزها:" هي منة الموتى علي فكيف أشفق بالأنام فلتمطرنهم القذائف بالحديد وبالضرام وبما تشاء من انتقام من حميات أو جذام. نذرا علي لأن تشب لأزرعن من الورود ألفا تروى بالدماء" فإذا مهنته تقوم في ما تقوم على الموت فكيف سيصفو للحياة وهي التي دفعته إلى هذه المهنة, كيف وحياة الناس تعني له الفقر, وموتهم يجلب الرزق, ولكنه في غمرة هذه التناقضات جميعا وفي هذه الرغبة الوحشية التخريبية وبكل وضوح يعتقد أن السماء في صفه يطلب منها بإلحاح وينذر لها النذور. نستطيع أن نحس ثورة الغضب والسخط حتى لكأنا أمام شخص حانق نصغي صرير ضروسه من الغيظ:" ولسوف أغرز بين ثدييها أصابعي اللعينة" .
وإذ نحن بإزاء هذه الشخصية التي تمعن في الخروج عن حدود الإنسانية, وقد استنفد فيها السياب كل طاقته التصورية وأطال متنها على قلة الأحداث في الحكاية , وليس ثمة دراما حقيقية في الحكاية إلا دراما في شخصية شريرة تمقت شر الآخرين وتثور عليه وتمارس في الوقت نفسه الشر ضد الحياة ككل, فهل نحن ازاء الحي الميت الذي يمقت حياة الناس. ولماذا اختار السياب هذا المبنى القصصي للرمز البسيط وأطال فيه ما أطال, فالرمز في النهاية لا يتعدى سيكولوجية الحفار واعتبارها رمزا يحاكي شخصا ما في الواقع قد يكون حاكما طاغيةً أو حكومةً توفر لنفسها الرفاهية بموت الآخرين . فما الذي حدا بالسياب أن يجعل هذه الفكرة البسيطة- التي قد يعبر عنها بأقصر القصائد- مطولةً شعرية يمعن فيها بالوصف والتكرار والمزيد من الوقوف عند خواطر الحفار وأزمته مع الوجود. هذه الأزمة التي تقوم على ثنائية الحياة والموت, الحياة بالنسبة للحفار الحصول على الأجر - ولو كان المدفون أخته أو كانت أماً وخلفت يتامى أو كان طفلا – وهذا الأجر ينفق في سبيل إشباع الرغبات الحيوانية, والموت في نظره عدم موت الآخرين, وأن يبقى متحرقا في غليله. ومن الملاحظ على النص أنه لا يحمل أبعادا عامة ً غير ما يخص شخصية الحفار وإبراز كوامنها الشاذة عن كل قويم. فلماذا ارتأى السياب هذا السبيل؟ والجواب على هذا بأنه وجد رغبةً عميقة في الاستمرار في هذا بطريقة التداعي, أو هو وجد هذا النص متنفسا شديد الأهمية بالنسبة لمحنته الشخصية.
ومن المفيد أن نكرر أن القصيدة في الأصل قائمة على حكاية موجودة ذهنيا قبلها وأن هذه القصيدة لا تعدو كونها ترجمةً لهذه الحكاية الرمزية, وأن الرمز لا يحتمل الكثير من الدلالات. فما الذي أبلغها هذا الحد وما الذي جعل السياب يسترسل فيها حد الإغراق, وما هي المحفزات السردية التي كانت تدفع به إلى الاستمرار. إن نظرةً عامة للقصيدة قد توحي للقارئ لكثرة ما فيها من مشاهد تصف الرغبة الشبقية ومشاهد الالتحام وبلوغ اللذة والخمر وغيره قد تجعلنا نشك أن الرمز كان عالةً على النص ووعاءً خارجياً مقطوعا يضم أبا نواس جديد. " واها لهاتيك النواهد والشفاه واه لأجساد الحسان...كم جثة بيضاء لم تفتضها شفتا حبيب أمسى يضاجعها الرغام... اتقدت رغاب في الجوانح...ويكاد يخفقها لهاثي..لا نهد تعصره يدي حتى الذهول حتى التأوه والأنين وصرخة الدم في العروق والسكرة العمياء والخدر المضعضع والأفول. .. تتفتحان على الوسادة كالشفاة...ونعومة الكتفين والشعر المعطر ولفحة النفس البهير..والحلمتان أشد فوقهما بصدري باشتهاء حتى أحسهما بأضلاعي وأعتصر الدماء... حتى تمصا من دماي وتلفظاني في ارتخاء فوق السرير وتشرئبا ثم نثوي جثتين... إلى التي ارتعشت قواها بين التوجع والذهول على يدي وفي دمائي...وتغيم أخيلة وتجلى ثم تبرز حلمتان" وكثيرة هذه المشاهد إلى حد يوصل القارئ إلى أن هذه الصور أكثر من تقديم الجانب الشبقي في شخصية الحفار, إنها استرسال يعبر عن واقع , يعبر عن نزوات السياب نفسه وتوقه إلى الإثم . فهل كان حشد هذه الصور والمشاهد والإغراق في الوصف والاسترسال في التعبير من قبيل المتنفس العميق بالنسبة للسياب؟ والحقيقة أنه يبدو لي أن القصيدة عالقة بين خطين عام وخاص يتماهيان تماما , أما العام فقد تقدم في الحكاية الرمزية البسيطة, أما الخاص وهو الأكثر حضورا وتمركزا في أغلب دواوين السياب وفي هذه القصيدة كنموذج وقد سكب فيه السياب جل خواطره وهمومه الحياتية والوجودية, ويقع هذا الجانب على ثلاثة أضرب: الضرب الأول هي مشكلة الموت النهاية الحتمية لكل إرادة والنهاية المفجعة لكل مقبل على الحياة وراغب في متعها, والموت بالنسبة للسياب تساؤل عظيم وحقيقة مرعبة طالما عبر عنها في كل قصائده التي ينز الموت حتى من عناوينها, ويبدو أن القدر الأكبر من مشكلته تكمن في القبر لذلك ركز في صوره على القبر والموتى, وجعل المكان الرئيس للحكاية المقبرة, فمن جملة ما قاله: " فاستيقظ الموتى عطاشى يلهثون...في مقلة جوفاء خاوية..كأعظم الأموات لكن خالدين ...إن عزرائيل مات وغدا أموت...والقبر خاوٍ يفغر الفم بانتظار..تتثاءب الظلماء فيه ويرشح القاع البليل مما تعصر أعين الموتى وتنضحه الجلود تلك الجلود الشاحبات وذلك الحم النثير..أيأكل الليل الرهيب والدود منها...يضاجعها الرغام...جوع القبور...حتى تحدق أعين الموتى..سوف تنتفض القبور وتقيء موتاها ويا موتى على اسم الله ثوروا رباه عفوك إن قابيل المكبل بالحديد في نفسي الظلماء هب وقر يعصره الملال...فات الأوان فخط لحدك واثوِ فيه إلى النشور" لعل هذا الحشد من خيالات الكائن أمام القبر إن هو إلا تعبير صارخ تجاه الغموض الذي يكتنف المصير, وتساؤلات تلح على الإنسان, فكأن الموت شعور حي بالفناء وكأن الإنسان يشاهد نفسه وهو يبلى ويمتصه التراب, ويشعر بالظمأ والاختناق. ولست أبعد في هذه القضية وإن تكن عند السياب حاضرةًً في كل قصيدة , وكأن ما يدفعه إلى التخوف الهائل هذا فكره اليساري الذي لا يؤمن في الغيبيات, وثقافته الإسلامية, ونزوعه للإثم كما تقدم. أما الضرب الوجودي الثاني الذي يبدو في الجو العام للقصيدة فهو الإيحاء بالجبرية من خلال عمل الحفار فكأن الحفار يمتهن هذه المهنة وفق قوى جبرية تسيره إلى حيث لا يريد وتشعل في نفسه الرغبات المحمومة لتضعه في عربة حتمية لا يملك توجيهها , ومن هنا كان الحفار يتضرع بالدعاء إلى الله وفي حنق أحيانا إيمانا منه بأنه لم يرتكب بإرادته خطيئةً وإنما هو مسير لا حول له, لذلك يخاطب الله بقوله: " هل كان عدلا أن أحن إلى السراب ولا أنال إلا الحنين" وهذا احتجاج أمام الله. وكذلك قوله وهو بلهجة أشد: " أأظل أحلم...والسماء كأنها صنم بليد لا مأمل في مقلتيه". أما الضرب الثالث فهو الرغبة في المتع والظمأ الغريزي في مقابل الفقر, ويبدو هذا في مواطن عديدة حيث جعل السياب هذه الصفة محور الصراع في قصة الحفار وهي الباعث على تحرقه, ويمكن أن نلمس ذلك في تعابيره" جوع نفسي...ويظل يحلم بالنساء وبالخمور...فسرت لهيبا في دماه وأرغمتها بالرغاب...ويشد على الزجاجة باليمين...أفكلما اتقدت رغاب في الجوانح شح مال...والطيبات من الرغيف إلى النساء...وسنان يحلم بالفراش وزوجه...متعثر الخطوات يحلم باللقاء وبالخمور... ألخ" .
ومما تقدم ندرك أن السياب يمزج مزجا فنيا بين العام والخاص , فهو وإن يكن الباعث على تأليف المطولة هو القصة الرمزية , ولكن هذه القصة لا تحتمل هذا الحشد من التصوير وهذا الاسترسال المتدفق من التعابير, إلا أن تكون إطالةً وتكرارا ثقيلا , ولكننا إذ نعلم أن السياب قد وجد متنفسا عميقا للتعبير عن همومه الفردية وبطرق لا إرادية لا نعجب من كثافة النص. ومن المهم أن نشير أن السياب وهو ينسج خيوط القصة جعلها مناخا مهيأً لاستقبال هذه الصور حتى لا تبدو نشازا في البناء العام , فجعل الصراع عالق بين الموت والقبور وبين التهالك على الرغبة, حتى لا تتبعثر لحمة النص.
3- جوانب من التصوير في قصيدة الحفار:
من الملاحظ على القصيدة أن مصدر الصورة الفنية يعود في أغلبه إلى عالم الموت, فالدرب كأفواه اللحود, وصوت الباب كإيقاع المعاول في اللحود, " مجموعة من الصور المتلاحقة ترسم صورةً كبيرةً لا يتخللها إلا نور ضئيل, وتسيطر عليها صبغة الموت واللحود والظلمة والنعيب والإعياء, إنها صورة فقدت معنى الأمل فزادت القصيدة نأيا عن حل مشكلة الإنسان"(1) لكن يشد انتباه القارئ لقصيدة الحفار إلحاح الشاعر على رسم مشهد يتكرر في أغلب الجمل الشعرية, مشهد تصويري يلح عليه بإمعان من حيث يقصد أو لا يقصد, وإن تعدد في شكله وتعابيره, ذلك هو مشهد النور الضئيل والضوء الخافت والنجم الساهم والشروق الباهت , أو هو باختصار صورة عدم وضوح الرؤية أو النور الذي تلحقه صفة تقلل من سطوعه, ولهذه الصورة دلالات ولا شك, وإن كنت لا أجد مندوحة من إيراد جميع هذه الصور, " ضوء الأصيل يغيم, كما بهتت شموع, في غرفة ظلماء باهتة الضياء, في آخر الأفق المضاء, وتشرب الضوء الغريق, يطفو ويرسب في الأصيل, لجبا ترنق بالظلام, وظلاله السوداء تزحف, وتنفس الضوء الضئيل, ثم ارتخت تلك الظلال السود, ظل طويل, يدنو وأشباح النجوم تكاد تبدو, تتثاءب الظلماء, النيازك في الظلام, كآلاف اللآلئ في الظلام, خطا كأذيال الظلام ولمعة كدم الغروب, الأوجه المتحجرات يضيئها الشفق الكئيب, وكأنما اعتصر المغيب, حتى اضمحل وغيبتها ظلمة الأفق البعيد , كانت مصابيح السماء تذر ضوءا كالضباب, يرعى مصابيح المدينة وهي تخفق في اكتئاب, حتى تلاشى في الظلام, النور ينضح من نوافذ حانة, تلقي على الضوء المشبع بالدخان وبالفتور ظلا كألوان حيارى واهيات , ناءٍ تهوم في الدجى الضافي على وجه حزين, تهيم في الضوء السرابي الغريق, يرنو إلى الدرب المنقط بالمصابيح الضئال, يلوّن الضوء الخفوق, والنور منفلتا من الأهداب, قلقا كمصباح السفينة, تتخافق الأظلال في دعة, لولا التماعات الكواكب وانعكاس من ضياء تلقيه نافذة, يصدى لها الليل العميق, تذكي السراج, يظل يزحف كالكسوف يحجب الألق الضئيل, في زهرة الشفق حيث يحترق النهار, أشباحا يظللها الغبار, إلى شواطئ كالضباب, تغشاها نجوم ساهمات, في ساعة الشفق الملون, ولألأت قطرات نور, وكأنما رضعت مصابيح المدينة مقلتاه, ثم تنطفئان في الضوء الضئيل, وتغيم أخيلة وتجلى, ويرى المصابيح البعيدة كالمحاجر في اتقاد, فانوسه الصدئ العتيق يلقي سناه على الوجوه, تحت النجوم الساهمات, وتظل أنوار المدينة وهي تلمع من بعيد"
هذه الصور جميعا تبدأ من أول جملة في المطلع حتى آخر جملة , تبدو فيها صورة النور معتمة وضبابية , فالنور لا يكون متقدا إلا من شباك الحانة, رمز القرارة والإشباع وفيما عدا ذلك يظل النور قلقا , ولست أسرف في تفسير هذه الظاهرة من قبيل الإشراق الصوفي والحالة النورانية التي تعقب الرياضة النفسية, ولا يظهر في شعر السياب أنه يغرق في الخيالات الصوفية كالبياتي مثلا, ولكن هذه الصور على الأغلب تمثل صراع اليأس وبقايا الأمل في روح السياب, فهو كما عرف عنه كان ذا حياة معذبة وتاريخ طويل من الشقاء, ولا عجب أن نلمس صراع اليأس الذي يغالبه , اليأس الوجودي حيث تنتهي حياة الإنسان بفاجعة , واليأس من الظروف الحياتية التي كان يعيشها, وأكاد أجزم أن السياب إبان كتابته هذا النص كان يعاني بدايات مرضه, لكن الأمل لا ينطفئ فهناك بقايا نور, وإن تكن الصورة ستنقلب إلى ظلام دامس في مطولته" المومس العمياء" , والذي قاد إلى هذا الاعتقاد أن حشد الصورة السابقة هو بمثابة شفرة تحتاج إلى جملة تفكها , وقد فك السياب هذه الشفرة بقوله على لسان الحفار: " أأظل أحلم بالنعوش وأنفض الدرب البعيد
بالنظرة الشزراء, واليأس المظلل بالرجاء
يطفو ويرسب " .
وهذه الجملة باعتقادي تكفي لتفسير صورة الضوء الضئيل التي ألح عليها خاطر السياب, وهذه الصورة هي انعكاس لواقع معاش أخذت نذر اليأس تزحف عليه. وهذه الصور أيضا من دواعي إطالة النص وهي من قبيل الخاص لا العام, وقد مهد الشاعر أيضا لهذه الصورة, باختيار زمان الأحداث في المساء ليعطي شخصية الحفار صفةً مرعبةً, فزمان القصة يتحرك في الظلام , ومن هنا برزت هذه الصور.
البناء الفني لقصيدة المومس
الرمز والصراع العام:
في البدء يجب أن نعلم أن قصيدة المومس العمياء ما هي إلا امتداد لقصيدة الحفار مع استدراكات ووجوه اختلاف, ففي قصة الحفار كانت الجدلية القائمة في الأحداث تتعلق بالمال أي الحصول على المال من أجل ممارسة الإثم وإشباع الغريزة, أما في قصيدة المومس فإن الجدلية تقوم على ممارسة الإثم من أجل الحصول على المال, وكأن السياب طرح في قصيدة الحفار موقف الرجل المنحرف والظروف غير الإنسانية وغير المتعاطف معها التي تدفعه للانحراف, بحيث قدمه في صورة متلذذ على حساب شقاء الآخرين لذلك عمد إلى تشويه صورته الخارجية والداخلية ولم يتلمس له أعذارا وألمز من طرف خفي بمسؤولية القدر الجبرية في الأمر, أما في قصة المومس فقد قدم صورة المرأة البغي , وكأن القصتين يكملان بعضهما , أو أن قصة المومس امتداد للحفار يبين فيه موقف المرأة من وجه نظر أخرى. فقد اختلفت الرؤيا بالنسبة للضحية, حيث يطرح السياب العديد من الظروف الإنسانية القاسية التي دفعتها إلى امتهان هذه المهنة, فهناك الظلم الداخلي المتمثل في الظلم الاجتماعي من الإقطاعية إلى مقتل أبيها إلى الفقر إلى تهديد أبناء العشيرة بقتلها لغسل العار وفرارها من القرية, وهناك الظلم الخارجي المتمثل في الظلم السياسي, من جنود غزو قدموا عبر البحر واستباحوا الأرض واغتصبوا الضحية. ومن هنا ينظر إلى القصيدتين على أنهما تدوران في فلك واحد وأنهما مكملتان لبعضهما , خصوصا إذا علمنا أن الحدث الوحيد في قصة الحفار هو وفاة المرأة التي كان يتردد عليها, ومن هنا ترك السياب الباب مفتوحا لحكاية المرأة ضحية الظلم. وثمة وشائج أخرى تربط بين القصيدتين ومنها: الجو العام وهو ذلك الجو الكئيب المحموم الذي يغالبه اليأس والظروف القاهرة , والحركة عبر الليل واختيار جو الليل لدلالات عديدة , مشكلة الموت والفقر مقابل الرغبة التي تسيطر على جو القصيدتين ,الخواطر الغريزية والشبقية التي تشترك فيها القصيدتان, والمقدمة شبه الموحدة للنصين والخاتمة المفتوحة لهما,والإيقاع الموسيقي الموحد فكلاهما يقوم على البحر الكامل, وكذلك صورة الحارس المكدود وصورة العابرين وصورة السكير الذي يرتاد دور البغاء.وقد جعل السياب صورة الحفار ساديا طاغيا, فقد اكتسبت المومس أكثر إثارةً للتعاطف والشفقة.
ولا شك في أن الشاعر طرح في بنائه لقصيدة المومس جوانب عامةً تتعلق بالحكاية الرمز وكذلك طرح جوانب خاصةً , وكان هذان الجانبان أهمَ عاملين في إطالة القصيدة .
1_البناء العام:
تمثل حكاية المومس الرمزية عصب القصيدة الهام, وتقوم هذه الحكاية على شخصية معذبة ككل الشخصيات التي يقف عندها السياب, ولكن بناء الأحداث بالنسبة لحكاية المومس يعد متطورا قياسا مع قصة الحفار, ففي حكاية الحفار كانت الحركة شبه ثابتة إذ تقتصر على خط واحد يمتد من المقبرة إلى الحانة عبر أضواء الطرقات الخافتة, وكان الزمن مغيبا لحساب الوصف الداخلي منه والخارجي, أما في قصيدة المومس فقد طور السياب في بنائه للنص بحيث جعلها تأخذ أبعادا زمانية ومكانيةً متعددة وهذا خلق في النص متسعا للذكريات والاحتجاج والمناجاة , وبث فيها دراما واقعية, لا تقوم في أساسها على ثنائية ( كالحياة والموت) بل تقوم على علل سردية تدفع الأحداث , لتشكل الحكاية في النهاية رمز ا ككل رمز أمة أو كيان اجتماعي مستلب.
وبما أن حادثة موت والد الفتاة تعد حدثا مركزيا لذلك كان البدء به ممكنا, ولكن الشاعر كان يعتقد أن القصيدة الطويلة يجب أن تكون ملحمية الطابع, والملحمة تتطلب مقدمة تمهيدية فذهب يقدم للملحمة بمقدمة طويلة , عرض فيها للصورة الليلية التي أطبقت على المدينة فإذا المدينة كلها عمياء, والعابرون فيها هم أحفاد أوديب الأعمى وهم نسل العمى تقودهم شهواتهم العمياء. تلك هي المقدمة وهي رغم التنقل السريع بين جوانب من الصورة الكبرى لوضع المرأة وقسوتها التقريرية, ووضوح التوجيه المقصود من خير المقدمات التي يعنى بها السياب, لأن وحدة العمى الحقيقي والمجازي فيها تجعل قصة المومس جزءا لا يتجزأ من اللوحة الكبرى (1) .
وتبدأ القصة بصورة بائع الطيور في حي البغاء تناديه سليمة لتتحسس الطيور فتتذكر صباها وهي تشاهد أسراب الطيور, وتسمع صوت قهقهات من بعيد فتعرف أنهم سماسرة البغايا , فتتمنى أنها متزوجة , ثم تقر أن المتزوجة ليست بأحسن حالا, فتفكر في الانتحار ثم ترتد لأنه حرام, وتزداد حقدا على الرجال , خصوصا جند الحرب, وتسمع وقع أقدام السكارى فيتمثل الوجود كله متمثلا في شطرين يفصل بينهما سور, هاهنا بغايا وهناك سكارى كل منهما يطلب الآخر, لكن السور عنيد كسور يأجوج ومأجوج.
ومن هذا العرض الموجز يتضح مبنى القصيدة وتتضح الحلقات " التي تكون السلسلة: الطيور – القهقهات- وقع الأقدام- تذكر المصباح, وفي جوف كل حلقة منها خواطر مستدعاة , فالتداعي في داخل الحلقات موضوعي مثلا : تمني الزواج – لا زواج فالانتحار بديل – لا انتحار فاحتجاج جريح لِمَ تستباح؟ ولكن تداعي الحلقات نفسها تعسفي يفرضه الشاعر للاستمرار في البناء, وليست من رابطة بينها سوى صلتها بالمرأة التي تتحدث عنها , وهذا بناء سهل لا يكلف الشاعر شيئا من التخطيط سوى أن يترك بطل القصيدة حرا في هواجسه, ...ولا يستطيع مثل هذا المبنى أن يؤمن نمو الحلقات نموا حتميا "(1)
وفي اعتقادي رغم ما تقدم أن حلقات التداعي محكومة وإن يكن الشاعر قد غالى في بعض الاستطرادات الجانبية لسببين ؛ أن الشاعر أولا ليس ملزما بالتتابع المنطقي لمجرى الأحداث بحيث تستدعي كل فكرة ما بعدها , لأن هذه طريقة علمية والأدب في النهاية خيالي وانتقائي, وثانيا أن ما تناثر عبر التداعي (التعسفي) إن هو إلا صلب الحكاية الرمزية التي أرادها الشاعر بتفاصيلها لتكون صورةً أخرى لواقع متردٍ , وأن إسراف الشاعر في هواجس الشخصية كان علةً سرديةً لاستدعاء الماضي .
2- القضايا الفكرية والأدوات الفنية في البناء العام:
لا شك أن النص وإن كان يوطد علائق الرمز إلا أنه يطرح قضايا فكريةً هامةً, فمن جملة ما تعلق بتفاصيل القصة, الصراع الدائر بين الفرد والمجتمع عامةً وصراع المجتمع مع الإقطاعيين, وصراع المجتمع ككل مع الغزاة, إن هذه المستويات المتعددة من الصراع قد بطشت بإنسانية الإنسان الضعيف وجعلته يلجأ إلى طرق معوجة ليقوّم بها الحياة. فالمجتمع من حيث هو ينقسم إلى فريقين, فريق المسخرين المقهورين وهم الطيبون الذين يؤجرون مقابل الشبع, وهم يأنفون من لفظة بغي دون أن يكون بينهم وبينها فرق في المعاملة من قبل المتسلطين, وفريق أرباب (السهام التبرية), وهم الذين قتلوا والد الفتاة , وباسمها قامت الحرب, وبفعلها تم تحويل البنت الشريفة إلى بغي, والعاطل إلى قواد, والشرطي إلى حارس على ممارسة الزنا بعد دفع الثمن للدولة. وعندما تحول المجتمع على هذا النحو تحول أهله التعساء إلى فريقين, فريق السكارى وهم الرجال العمي الذين يدفنون الجراب البالية ي الحذاء, ويساومون البغايا ليفروا ثمن الفطور, وفريق البغايا.
أما القضية الفكرية الثانية فهي النقد القائم على علاقة الحرفة بالحياة, فالإنسان يكدح للحياة في خدمة إقطاعي ولكنه يخون الحياة من حيث لا يدري, لأنه يعين الظلم على الاستمرار ويفتح الباب لعبودية آلاف آخرين, وكذلك البغي فإن الطبيعة هيأتها لتكون أما, ولكنها تضاجع الرجال لتأكل لا لتبقي على النسل.
ب_ الأدوات الفنية: يتكئ البناء العام للقصيدة على أدوات فنية أثارت في جوانبه علائق تجميلية وتخيلية عديدة ومنها: المفارقة الساخرة, وقد استغل السياب هذا النوع من المفارقات ليمعن في إبراز الباطن المتهدم للكيان الاجتماعي, وكذلك ليضفي المزيد من السوداوية والسخرية على مصير الكائن البشري, فالمفارقة تجعل الحارس ساهرا على اقتضاء حق الدولة في إجازة الخطيئة لا على حماية الناس منها, والمفارقة تجعل الذباب شبعانا من القمامة والخيول من الحظائر ,بينما الإنسان جائع, والمفارقة التي جعلت الشرف الرفيع والعزة القسعاء وهي سليمة سلعةً تعرض في سوق الشهوات ولا تجد مشتريا , والمفارقة التي تجعل العمياء تنفق كسبها القليل لإضاءة مصباح من الزيت, والمفارقة التي تجعل بلد النفط عاجزا عن تقديمه لمواطنيه, ثم تلك المفارقة الساخرة في الأسماء, فالمرأة اسمها سليمة وهي لديغة الظلم الاجتماعي والسياسي, وإذا عميت أصبح اسمها "صباح" وإذا رزقت بنتا سمتها "رجاء" ليموت الرجاء, والمفارقة تجعل أبناء العشيرة بدلا من أن يطاردوا المجرم والمغتصب أخذوا يطاردون الضحية. إن مثل هذه المفارقة التي اتكئ عليها البناء كانت خير أداة لتعرية الزيف الذي اعترى المثل والمبادئ فكل شيء يسير على النقيض مما يجب أن يكون عليه.
أما ثاني هذه الأدوات فهو الاتكاء على الأسطورة بكافة أشكالها الدينية منها والشعبية والتاريخية, فحين لم تشهد قصيدة الحفار غير قصة قابيل, نجد أن قصيدة المومس تنبض بشتى الأساطير: أسطورة مندوزا و قابيل, وأوديب, وجوكست, وأفروديت, وفاوست, وهيلين, وأبولو, ويأجوج ومأجوج, وتدخل هذه الأساطير مدخل الإشارات التاريخية فهي ليست متغلغلة في صميم البناء , ومثل هذا النوع من الأساطير الذي يتكئ على ذكر اسم الشخصية الأسطورية يبدو مبتورا , لأنها تجيء من باب الإيضاح كحال التشبيه في الشعر القديم . ولكن استخدام الأسطورة في قصيدة المومس خدم البناء بشحنه بتقنيات فنية تعمق دلالاته. ولعل جميع الشخصيات الأسطورية في هذه القصيدة تأخذ بعدا رمزيا يكاد يكون واحدا وهو التعبير عن القلق الروحي والمادي والتعبير عن الآلام التي يواجهها الإنسان.
ومع أن القصيدة قد تحتمل بعدا رمزيا في جميع شخوصها وأحداثها فإنه يمكن أن تكون في عمومها صورةً لوضع اجتماعي عام يسوده الاضطراب والفقر والتشبث بمثل بالية, إلا أنها" تصف أكثر مما تضرب في جذور العلل ولا تحمل المسوغات حين تحشد الكوارث, وتطلق الجبرية من عقالها وتكف يد الإنسان عن التغيير , وتلقيه في قفص الانتظار"(1).
ففي هذه يصبح الاغتراب مشكلةً جماعيةً فالمومس العمياء ليست فردا امتهنت البغاء رغبةً بل هي كيان اجتماعي مستلب اختلطت في أبعاده المأساة الفردية بالمأساة الاجتماعية وتحول جسدها إلى جسد من طين ومياه ونفط يطأه المحتلون بأحذيتهم كما يطأها عابرو الليل وطالبو المتعة ، لعلها صورة الأم وقد خرجت عمياء تنشد أبناءها، ولعلها الأرض أو لعلها الصورة المغبشة لمرآة السياب الاجتماعية . وللعمى في هذا النص حضور كثيف حيث جعله السياب يشمل جميع أمكنة القصيدة بالعمى فالمومس العمياء والمدينة مغطاة بليل آت من كهوف الأزمنة الغابرة والطرق مطفأة إلا من عيون ميدوزا، والناس تهرب من القبور إلى القبور يقودها عراف ضرير. هذا العمى المطبق على الواقع جعل القصيدة ترسو فوق أرض موحلة, الحركة فيها مشتتة، والكلام لا يقال إلا همسا - استرجاع الأسطورة والأحداث الماضية هو شيء من الهمس الفكري في أذن الحاضر- أما الأمكنة فمطفأة إلا من فانوس وأما المومس فليست إلا زهرة في هذه المستنقعات تعب من وحلها وطينها .. كل شيء في أمكنة السياب مستلب ومغيب ومغطى بالعمى والظلمة ولعل هذا المناخ الملتبس المتجهم هو الذي حمل بعض التقدميين على رفض هذه القصيدة في حين أن المومس تعد مثالا لشعب مستلب يمتلك من الخيرات والثروات ما يجعله شعبا متميزا وحرا، فالسياب فى هذه القصيدة يركب صورا قاتمة أفصحت عن رغبة دفينة في ذاته أولا وعن أن الحداثة في الشعر لم تجد طريقها عبر الأضواء والهتافات واللافتات - وهى حداثة في أولى عهدها. وقبل أن نغادر الجو الرمزي العام للقصيدة الذي يصور نمط اجتماعي لا بد من الوقوف عند بعض المقاطع التي يصعد فيها صوت الجماعة والتي يغمز فيها الشاعر المجتمع والأمة والوطن, ومنها: " المال شيطان المدينة ربُّ فاوست الجديد
...الخبز والأسمال حظ عبيده المتذللين...
لو كنت من عرق الجبين ترشها ومن الدماء
كللت منها بالفخار وبالبطولات الجباها...
أن تقذف المدن البعيدة والبحار إلى العراق
آلاف آلاف الجنود ليستبيحوا...
الدافنين خروق بالية الجوارب في الحذاء
يتساومون مع البغايا في العشي على الأجور
ليوفروا ثمن الفطور...
كالقمح لونك يا ابنة العرب
كالفجر بين عرائس العنب
لا تتركون فالضحى نسبي
من فاتح ومجاهد ونبي...
ويح العراق أكان عدلا فيه أنك تدفعين
سهاد مقلتك الضريرة
ثمنا لملء يديك زيتا من منابعه الغزيرة"
فهذه المقاطع وغيرها تؤكد للناظر أن البعد الرمزي في القصيدة بعد عام على مستوى الحكاية ككل فالحكاية بتفاصيلها ترسم صورة كيان وطني أو قومي , فقد يكون العراق أو تكون الأمة , هذا الكيان الذي يعاني مجتمعه من الاستلاب والفقر والذي تسلط عليه رجالاته الإقطاعيون, كما تسلط عليه الاستعمار, فتركته هذه الحوادث في اضطراب وتيه وعماء , يمتلك المصادر الغنية ويعجز عن سد أبسط حاجاته.
2-الجوانب الذاتية في القصيدة:
تظهر الرؤى الذاتية في هذه القصيدة بجلاء , هذه الرؤى التي عبر في قصيدة الحفار باليأس الذي يخامره الرجاء , بلغ في قصيدة المومس نهاية اليأس , حيث اختار الشاعر الظلام جوا عاما تتمسرح فيه الأحداث , كما استدعى كل رموز البؤس والشقاء عبر الشخصيات الأسطورية, وكانت صور الموت والموتى تتكاثر في وحدات النص. وقد عاد السياب لطرح المشاكل الوجودية العامة , كما عمق رؤيته لقضية الجبرية, كذلك جعل النص كما السابق مشحونا بالتهالك الغريزي, والرغبة في إشباع قوى الإثم باعتبارها أيضا لازمةً للأبرياء وليس خطيئة ً بل هي ضرورة كالخبز, ويرسم لذلك صورة يستنهض بها الشفقة على أولئك فمن جملة ذلك: " تفاحة الدم والرغيف وجرعتان من الكحول... يا أنت يا أحد السكارى
كانوا جياعا مثلها هي أو أبيها بائسين
هم مثلها وهم الرجال ومثل آلاف البغايا
بالخبز والأطمار يؤتجرون والجسد المهين
هو كل ما يمتلكون وهم الخطاة بلا خطايا"
إن هذا الجو المحموم الذي تبدو في الإنسانية تتحرك وفق قوى غريزية كالحيوان ليس يردعها سوى شح المال. هو الجو الذي يطلق فيه السياب نفسه العميق , بحيث تسترسل الصور فيه إلى حد بعيد ويقف فيه عند كل خاطر من هذه الخواطر.
ولكن صور التعب والمرض والكآبة والشيخوخة واليأس المفعم كانت ذات حضور قوي وهذه تعكس في صميمها جانبين أحدهما مشاعر السياب الذي عاجله المرض مبكرا, وكذلك تعكس على المستوى العام سبب إطالة النص وبلوغه هذه المساحة الكبيرة, ومن هذه الصور: "الأضلع المتقوسات على المخاوف والظنون..
عيش أشق من المنية...
أن يعجز الإنسان عن أن يستجير من الشقاء
حتى بوهم أو برؤيا أن يعيش بلا رجاء أوَ ليس ذاك هو الجحيم...
ذهب الشباب فشيعيه مع السنين الأربعين
وأتى المشيب يلف روحك بالكآبة والضباب"
إن هذه الصور الجزئية لليأس المطبق الذي خيم على الشاعر حتى غدا عاجزا عن أن يحلم أو يتوهم هو الذي يفسر اختياره لجو الظلام الذي يغلف القصيدة , وهو يعكس مرحلةً من مراحل حياة السياب المعذبة.
إن ذاتية الشاعر – رغم أن القصيدة تتنفس في جو عام – تتخلخل في معظم مسام القصيدة متمثلةً في صراعه مع المرض هذا المرض الذي ينهش في صدره (قد يكون السل أو غيره) ويظهر هذا بجلاء إذا وقفنا عند مصدر واحد للكثير من الصور في القصيدة هذا المصدر هو الداء, وتبدو صوره كالتالي: سعال, حمى, غثيان , شعور بالإعياء والذبول تقيؤ الدم وغيرها من الصور, وأستطيع أن أقف عند بعض هذه الصور التي لم تأتِ عفوا:" متنفسا بعد اختناق, مرضى جائعين, تلك الجلود الشاحبات, تذوي ويقطر في ارتخاء, رباه إني أقشعر, وكخضة الحمى, صدور تعلو وتهبط باللهاث, سوف تنتفض القبور وتقيء, وهو يدنو في ارتخاء, متعثر الخطوات, والأنين وسعلة الدم , تلفظاني في ارتخاء, ووقع خطى تهاوى في عياء, المدى المقرور, ارتعشت قواه بين التوجع والذهول, إن هذه الصور المرضية تستطيع تفسير كآبة المستقبل بالنسبة للسياب كما تستطيع تفسير ذلك الجو الغريب الذي فرضه على القصيدة وعلى الشخصيات بحيث جعل غارقةً في اليأس حد النخاع, وهذا يعكس صورة المستقبل المظلمة , وإذا أظلم المستقبل بوجه الإنسان فإنه وبلا ريب يهرع للماضي متلمسا عزاءه, أما إذا كان الماضي نفسه مظلما فحتما سيبحث عن خلاصه بالموت, "وغدا وأمس وألف أمس كأنما مسح الزمان حدود ما لك فيه من ماضٍ وآت... أن يعجز الإنسان عن أن يستجير من الشقاء حتى بوهم أو برؤيا إن ذاك هو الجحيم...عيش أشق من المنية وانتصار كالفناء" وفي غمرة هذه الهواجس يقف أمام الانتحار مترددا لإيمانه بالعقاب والحساب من قبل الملكين" لو أستطيع قتلت نفسي . همسة خنقت صداها, أخرى توسوس والجحيم أتصبرين على لظاها, وإذا اكفهر وضاق لحدك ثم ضاق إلى القرار...وتساءل الملكان فيمَ قتلت نفسك يا أثيمة وتخطفتك إلى السعير تكفرين عن الجريمة". إن هذا المحور الذاتي أحد أهم المحاور الرئيسة التي تحرك القصيدة وأهم لبنة من لبنات البناء , كما أن محورا آخرَ تبنى عليه القصيدة , هذا المحور هو صراع الشاعر مع الخطيئة التي لا يجد بدا من ارتكابها وكأنه يوحي بجبريته في هذا ,لذلك فهو يتساءل عن الحكمة من خلقه : "ما كان حكمة أن تجيء إلى الوجود وأن تموت ألتشرب اللبن المرنق بالخطيئة واللعاب... فلا سبيل سوى البغاء – الله عز وجل شاء" وهذا المحور عزز القصيدة بالكثير من الهواجس والوقفات الشبقية كما يستطيع هذا المحور الذي اصبح فلسفةً أن يجيب عن تساؤلنا عن ذلك السر في التهالك على الغريزة بلا اختيار . والصراع الأهم الذي يبدو لي في قصائد السياب وهذه القصيدة بالذات هو صراع الخطيئة من جهة والخوف من العقاب في ظل وجود فلسفة مادية تدعو إلى استغلال الحياة في المتع أكثر قدر يستطاع . لذلك لا عجب أن نجد نماذج في بدايات السياب تؤصّل لهذه الفكرة إذ يقول في لقائه شاعرا يتصف بالفضيلة:
الشاعر الغريد لاقى الشاعرا هذا يُرى شبقا وهذا طاهرا
لو كنت ثمة سامعاً نجواهما لسمعت متقيا يناجي فاجرا
وبقيت مضطرب الخواطر والهوى بين الفضيلة والرذيلة حائرا...
ويقول في قصيدة عنوانها شاعر الشهوة:
أهوى مفاتن جسمك المستسلم وهوى لذائذه مزجن بمأتم
جسدا علي أراه بات محرما وعلى حقير الدود غير محرم
لأطوحنّ بكل عرف سائد ولأعبثن بكل آي محكم
ولأهتكنّ على الفضيلة سترها ولأصغينّ لما يقول به دمي"(1)
ويقول في قصيدة تصف ليلية القدر وتظهر فيها فلسفته بوضوح تام حيث يرى أن أشقياء الدنيا الذين ظلموا من الحكام الطواغيت هل حتما عليهم عذاب يوم القيامة, ومن هذا المنطلق يدعو إلى كسب الدنيا بالمتع كأقل احتمال ثم إن النار هي المثوى الأخير والمصير الموحد. ثم في النهاية يجدف في عبوديته لله فيجعل الشطيان مولاه. لأن الله قيض أن تكون شقيا جائعا محروما على الدنيا لكي تدخل الجنة وهذا خيار صعب بالنسبة للسياب. يقول:
"ويل الطغاة السكارى من عقاب غد إن زلزل الكوكب المنكود إيذانا
رباه لو أن في طول انتظار غد جدوى لما أسمعتك الريح شكوانا
ما كان حتما علينا أن يعذنا طاغ وأن يشهــد الرحمن بلوانا
النار أشهى فهات النار تصهرنا يوم الحســاب ومتعنا بدنيانا
إن كان لا يدخل الجنات داخلها إلا شقيـا على الأولى وغرثانا
وكان أمرك أن نرضى بما صنعوا فاحفظ عبيدك فالشيطان مولانا" (1)
إن مثل هذه النماذج التي ترجع إلى عهد مبكر تقودنا إلى فلسفة دنيوية عند السياب, ودعوى لإشباع الغرائز متعللا بالفقر الشقاء والجبرية القدرية, وعدم قدرة الإنسان على الصبر, وكأن المعصية لا تعد معصية بوجود الفقر, إن هذه الفكرة مهمة لتفسير هذا الإسقاط الفكري الذي فرضه السياب على شخصياته في الحكايتين. فكلها تعاني الفقر وكلها تمارس الخطيئة وكل تتلمس لنفسها الأعذار بدعوى الفقر والحاجة. إن الجو المشحون بالقلق والرغبة والصراع الذي ساد المطولتين السابقتين إنما يمتاح من عالم السياب الخاص ويجسد فلسفته المادية.
وسأعود إلى بواعث هذه الفلسفة لأثبت شيئا لا لأدرس نفسية السياب, ونحن نعرف من سيرة السياب أنه فقد أمه مبكرا وعاش محروما من حنانها وهذه أول صدمة في تاريخه النسائي, كما أنه أحب فتاة فخذلته, ومن هنا تولد في ذهنه صورتان للمرأة : صورة الأم الشقية التي يستدرج المتلقي للتعاطف معها , وصورة البغي التي أيضا يثير الشفقة عليها ويتعاطف معها. وثانيهما شعوره بدمامة مظهره شعورا أكسبه الكآبة وجعل بينه وبين الحبيبة حاجزا , وقد وجدت في بداياته أيضا تجسيد هاتين الصورتين ولا مندوحة من تلمس أوجاعه في هذا, يقول متحدثا عن نفسه, :
وهو المعطل من قوام فارع يسبي العيون ووجنة تتورد
ما زال صرف الدهر يرمي قلبه بالنائبات فجرحه يتجدد
يا ليت صرف الدهر أبقى أمه تأسو الجراح بكفها أو تضمد
كم بات يلتمس الحنان فما رأى طيف الحنان وفاته ما ينشد
ويعد السياب هذين السببين كافيين لحزنه الحاد ولشعوره بالمرارة والغربة , لأنه فقد المنصت لهمومه في العالم النسائي, ففقد الحنان والمودة , ولعدم جاذبيته فقد الهوى والأحاديث الغرامية كما سيأتي في النص التالي, حيث يعلق إقباله على الإثم بفشل علاقته الغرامية وخيانة حبيبته, يقول:
تلك الدماء بقلبه المتضرم تغلي فتدفع قلبه للمأثم
رد الهوى أحلامه مشبوبة نارا فحلل فيه كل محرم
عاش الليالي وهو عف طاهر يهديه ضوء العبقري الملهم
حتى أحب وضيعة غدارة ألقته في جنبات ليل مظلم
ويلاه ساء بكل خود ظنه وارتد يحرق جسمه بالمأثم"(1)
إن هذا النص الذي لا يحتاج تعليقا يوحي لنا بأن عالم المطولات عند السياب, يرتد في معظم صوره الكلية والجزئية إلى تجربته الخاصة وإلى عالمه الباطني الذي تشكل بكل سوداوية _ وعلى سبيل المفارقة – أراد الخروج من هذا العالم بالمتع , لكن ظلت صورة الموت والعقاب حاضرةً في ذهنه , ومن هذه الأبعاد مجتمعةً صاغ مطولتيه السابقتين. حيث يمكن تحديد الخطوط العريضة فيهما بما يلي:
الفقر والتعاسة
الموت وعالم الأموات الغامض
البغايا والزناة, حيث أن أغلب شخوص الحكايتين من البغايا والزناة
الشعور بالإثم وتلمس الأعذار بسبب الحاجة
الرغبة في إشباع الغرائز, والتهالك على الخمر
عالم الظلام والكآبة والتوتر
معاتبة القدر والشعور بالجبرية
مشاهد التعري والصور الجنسية
الفشل مع المرأة لأسباب تتعلق بالقدر, وتلمس الأعذار لها
المرض والشعور بالضيق والتعب
وهذه أهم الخطوط في عالم الحكايتين مع التفاوت في الوقوف عند جزئياتهما , وتمثل هذه الخطوط أيضا تجربة السياب الذاتية وفلسفته, وعالمه الباطني بكل تجلياته. ومن هنا نعود للتساؤل ما علاقة هذه القضايا ببناء المطولتين وبالرمز وبالمساحة النصية الطويلة؟ الجواب أن العلاقة جد واضحة حيث أن البعد الذاتي هو البعد الأوفر حظا فيهما من جهتين: الأولى جهة الحكاية بشكل مستقل ومن جهة الصور والسرد, مع وجود رتوش تغمز أحيانا بالوطنية وبالقومية وبالقضايا الإنسانية والاجتماعية . وفي النهاية أرى أن القصيدتين وجد فيهما السياب متنفسا عميقا لهمومه الذاتية فاسترسل وهذا هو السر الوحيد فيهما. وهذا الاستدعاء يقود إلى أن تجربة الشاعر مع الواقعية لم تنضج بعد إلا على مستوى الرمزي وأن الرومانسية لا تزال حاضرةً بكثافة في المطولتين.
التعليقات (0)