من بين كل التيارات السياسية الناشطة في حركة 20 فبراير، التي ولدت بعد مخاض التغييرات التي هزت العالم العربي، تبدو جماعة العدل والاحسان الاكثر قدرة على التأثير في شرائح كبيرة من الرأي العام، بفضل خطابها المنسجم، إلى حد كبير، مع ممارستها، الا إنه، و مع ذلك، فهو يبتعد كثيرا عن الاقناع بمنطق مقاطعة المحطات الانتخابية التي قد تقود نحو امكانية تحقيق الاصلاح والتغيير من داخل المؤسسات المنتخبة.
فما جدوى المشاركة و ما هي آفاقها في غياب شروط الديمقراطية المطلوبة، التي تطالب جماعة العدل والاحسان بتوفيرها هنا والأن؟ وهل اخطأت، هذه الاخيرة، حين قررت أن تنأى بنفسها عن تصريف الفعل السياسي ومباركته من داخل المؤسسات؟
يجمع منظرو الجماعة على أن التغيير الإيجابي يستحيل أن يطرأ على واقع المغرب، مادام الامر كله بيد الملك، وأن المؤسسات، التي تعتبر في نظرهم صورية، لا يمكن لها أن تسهم في بناء مغرب ديمقراطي على أسس "دولة" المخزن المستحكم بخيوط اللعبة بفضل صلاحياته الواسعة.
ولعله من الخطأ أن نعتقد، في لحظة، أن جماعة الشيخ عبد السلام ياسين، استاذ التعليم الذي نهل من معين الصوفية في الزاوية البوتشيشية قبل أن يغادرها منتفضا على طريقتها و مستقلا بفكر ثاقب، كانت تعارض المشاركة في العمل السياسي بكل علانية، فرغبتها هذه، لم يكتب لها التحقق نتيجة رفض المخزن المطلق السماح لها بتأسيس حزب سياسي ذي مرجعية اسلامية. وهو ما دفع الاستاذ عبد السلام ياسين، لاحقا، رفقة مقربين منه، الى إنشاء جمعية دعوية بصبغة سياسية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي والتي نالت، هي الاخرى، نصبيها من دائرة التضييق والملاحقة.
صحيح أن فعل المخزن في الساحة السياسية لم يكن له من دور سوى تعزيز البلقنة وتمزيق الخريطة الحزبية، الامر الذي جعل منه الفاعل الاول و المتحكم الرئيسي في كل مؤسسات الدولة و سمح له بالاستفراد بموقع القرار. وهو الوضع الذي افرز آثارا خطيرة على الممارسة السياسية بل و أ دى بالعديد من الاحزاب السياسية، التي غادرت موقع المعارضة، و التي لم تمتلك المضادات اللازمة لمواجهة تسونامي المخزن، الى فقدانها لمناعتها واستسلامها، طيعة، بين مخالب الثعالب المخزنية الماكرة.
بالرغم من ذلك، فهذا لا يكفي ، في كل الاحوال، للقول بان خيار المغادرة الطوعية للمشاركة يبقى القرار والموقف الاكثر صوابا واقناعا، فثمة تجارب مشرقة لبعض الحركات الاسلامية، المغضوب عليها، التي نجحت في تحقيق مراميها من خلال العمل السياسي من داخل المؤسسات في غياب لشروط الموضوعية للديمقراطية الحقيقية.
ولعل نموذج تركيا، مثلا، ليس بالبعيد، فالنظام العلماني ، الذي لم يسمح مطلقا بتجاوز خطوط اتاتورك الحمراء، حيث سعى، من خلال قوانينه الاستبدادية، الى تضييق الخناق على أي مد معاكس لمشروعه و الى تحجيم قوى الاسلام السياسي بكل الوسائل المتاحة ، التي تجد لها المسوغ في دستور علماني يبيح للعسكر التدخل، في كل لحظة، لإعادة عقارب الساعة الى الوراء، كلما لاح في الافق صعود "خطر" الاسلاميين وتهديده لطبيعة نظام الحكم.
فرغم وجود نظام يستند، في الجوهر، الى استبداد واضح، وديمقراطية في الشكل، الا ان هذا لم يمنع الاسلاميين من تحمل المسؤولية والعمل، من داخل مؤسسات الدولة "الصورية" على تصحيح مسار علمانية اتاتورك، المعادية للهوية الاسلامية، وتعطيل اليات اشتغال العسكر بشكل تدريجي عبر تقليم اظافرهم الحادة ، و إ رغامهم، في نهاية المطاف، على مغادرة إجبارية لكراسي السياسة وعودتهم إلى الثكنات العسكرية حيث مكانهم الطبيعي.
لا يستطيع أحد ، اليوم، أن ينكر دور إسلاميي تركيا في صياغة معادلة اقليمية جديدة تعيد الاعتبار لمكانة ظلت مغيبة، حتى عهد قريب، بفعل نفوذ نظام العسكر الموالي للغرب والداعم لإسرائيل.
ألم يستطع اردوغان، رئيس الوزراء التركي، الذي زج به في السجن، بسبب أبيات شعرية، أن يُحدث، من داخل المؤسسات ، انقلابا بدم بارد على منظومة قيم مرسخة في الداخل التركي، دفعت ببلده إلى مصاف الدول التي يُحسب لها الف حساب إقليميا ودوليا؟
ولو أن اسلاميي تركيا ظلوا قابعين في قاعة الانتظار حتى توفر الشروط الحقيقية للديمقراطية لما وصلوا إلى ما وصلوا اليه اليوم، ولربما ظلوا بعيدين عن نبض الشارع، الذي يدعمهم اليوم بلا حدود، بفضل مشاركتهم الايجابية والفعالة في بناء ديمقراطية تسع الجميع.
قبل 18 سنوات من الان، حيث تم الوقيع على اتفاقية أسلو المجحفة، التي فرضت على حركة فتح الاعتراف بوجود اسرائيل، مقابل اراضي متناثرة تحت سلطة فلسطينية ناقصة ، قررت حركة حماس خوض غمار الانتخابات، وهو ما آثار، حينذاك، مخاوف الكثيرين من فقدان حماس لوزنها السياسي المتصاعد و استسلامها لخيار الواقعية التي تستلزم القبول بقواعد اللعبة. وعلى عكس ذلك، فقد خيبت حركة حماس كل التوقعات.
فانتقادات حركة الجهاد الاسلامي للمشاركة، لم تكن موفقة ولا مقنعة ، خصوصا بعد ما تراءى للجميع أن حماس تمسكت بالثوابت نفسها ولم تتزحزح قيد انملة عن المبادئ التي كانت وراء خروجها الى الوجود.
فلا وضع الاحتلال ولا قيود اتفاقات اسلو اجبرتها على توديع خيار المقاومة والاعتراف بحق اسرائيل في الوجود.
حين وصلت حماس الى السلطة، بعد فوز ساحق في قطاع غزة، اعتبر أ حد المحللين الغربيين، انه من المستحيل أن تظل الحركة عل المواقف نفسها ، لان الرجل كان يعتقد ان قطاع غزة تعوزه الامكانيات الذاتية وأن حياته رهينة بالدعم الخارجي ما سيجبر الحركة، لا محالة، على الانحناء أمام عاصفة الشروط الخارجية.
بعد مروم كل هذه السنوات نجحت حماس في البقاء في السلطة وزادت شعبيتها بعد مقاومة العدوان الاسرائيلي، الذي جاء كخطوة يائسة لإخضاعها، و خلقت حالة من التضامن الدولي مع قضيتها، جسده الاسطول المتواصل لكسر الحصار، اكثر من ذلك، وعلى مستوى اخر، فقد استثمرت قوتها الدبلوماسية بشكل بارع، وارغمت اسرائيل ، عبر صفقة تبادل تاريخية ، على اطلاق سراح المئات من الاسرى الفلسطينيين و العرب.
كل هذه الانتصارات المدوية لحماس جعلت منها القوة الاولى في الساحة السياسية الفلسطينية دون منازع.
ولهذا فإمكانية التغيير في المغرب تظل قائمة ، ولو في وجود دستور لا يلبي طموحات الشعب المغربي بكل اطيافه وتياراته، فالإصلاحات التي تمخضت عن الحراك الذي قادته حركة 20 فبراير، والذي اخرج المغرب من دائرة الاستثناء وأكد القاعدة نفسها التي تسري على كل الشعوب التواقة للحرية والكرامة، ينبغي أن لا نعتبرها سوى خطوة متقدمة في اتجاه تدشين مرحلة انتقالية تنتهي بإقرار ملكية برلمانية.
إن التحاق الشعب المغربي بقافلة المنادين بالتغيير هو دليل اخر على قدرة هذا الشعب على كتابة تاريخه بأيادي سلمية تبتعد عن تبني أشكال العنف وتحتكم إلى صوت العقل ، ليظل المغرب مستثنى من دائرة العنف الاعمى الذي حصد الالاف من الارواح البريئة في كثير من الدول العربية.
إن التحدي الحقيقي الذي ينبغي رفعه، دون تردد، هو الوقوف في وجه المفسدين و العمل، مقابل ذلك، على دعم النخب الحقيقية والكفاءات النزيهة حتى تتمكن هذه الاخيرة، من داخل المؤسسات، من وضع حد نهائي لحالة التسيب والاستبداد الذي طبع تاريخ المغرب منذ قرون.
فتيار مقاطعة المشاركة لا يملك، في الحقيقة، ما يكفي من المبررات و الحجج المقنعة للبقاء في الخارج، فالطريق الى بناء الديمقراطية في المغرب لن يكون سالكا إلا اذا عبدته تجارب الاصلاح الناجحة من داخل مؤسسات حية وفعالة
التعليقات (0)