المسيري ليس نبيا
وصف المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري دولة اسرائيل ب "معسكر مماليك" قائلا إن اسرائيل تشبه دولة المماليك التي قامت في مصر واستمرت 267 عاما، في كونها (أي اسرائيل) "مادة قتالية" استجلبت كما استجلب المماليك لممارسة "دور وظيفي"، معتبرا ان التشابه بين دولة اسرائيل ودولة المماليك هو مفتاح زوال اسرائيل كما كانت الدولة المملوكية منذ نشأتها الى زوال...
أختلف هنا مع الراحل المسيري في تقييمه للدولتين الاسرائيلية والمملوكية، رغم اختلاف الدوافع والظروف التاريخية التي أدت الى قيام كل من الدولتين. وأكتفي في هذا التناول باستعراض سريع لدور المماليك في حماية الاسلام والمسلمين من زوال محقق، مستغربا كيف يمكن نعتهم بهذه الصفات، حتى وان صدر ذلك عن مفكر يحظى باحترام كبير في الأوساط العلمية والعامة، فالعين النقدية الساهرة لا ترى ان أيا من المفكرين يجب ان يكون معصوما او منزها...
وان كان المسيري قد أخطأ في تقييمه لدور المماليك، فهو قد جانب الصواب كذلك في الموضوع الاسرائيلي، ولكن معرض حديثي هنا سيكون حول المماليك وأما الموضوع الاسرائيلي فسوف أتركه لمرات قادمة.
هل كانت دولة المماليك حقا دولة وظيفية مارقة..؟؟
نجح الصليبيون في حملتهم السابعة بقيادة لويس التاسع في الاستيلاء على مدينة "دمياط" في عام 1249م، واتخاذها قاعدة لمواصلة زحفهم نحو القاهرة، ونتيجة لذلك اضطر سلطان مصر "الصالح أيوب" إلى نقل معسكره إلى المنصورة، وزحف الصليبيون جنوبًا على شاطئ النيل الشرقي وسفنهم تسير حذاءهم في النيل، ونجحت طلائع قواتهم في اقتحام معسكر المسلمين بالمنصورة فانتشر الذعر بين المسلمين، ودخل الصليبيون المنصورة، وانتشر جنودهم في أزقة المدينة، وباتت المدينة على وشك السقوط، وظن المسلمون أنهم قد أُحيط بهم، غير أن فرقة من المماليك البحرية جمعت قواها خارج المدينة، ثم أطبقت على الصليبيين بقيادة "بيبرس البندقداري" فانقلب نصر الصليبيين إلى هزيمة قاسية.. وكان ذلك في عام 1250م.
ولم تمض أيام على هذا النصر حتى قام المماليك بهجوم جديد على معسكر جيش الصليبيين ولم يلبث أن نشبت معركة هائلة في "فارسكور" قضى فيها الممماليك تمامًا على الجيش الصليبي، ووقع ملكهم لويس التاسع أسيرًا.
وبعد وفاة الصالح أيوب خلفه في الحكم ابنه توران شاه، لكن هذا الأخير لم يحسن معاملة المماليك البحرية أصحاب الفضل في هذا النصر العظيم، فبدلاً من أن يعترف بالجميل لهم جميعًا حسدهم على مكانتهم التي بلغوها بفضل شجاعتهم وبأسهم، وبدلاً من أن يقربهم إليه باعتبارهم أركان دولته أعرض عنهم، وخشي من نفوذهم، وأوجس منهم خيفة، بل وأضمر لهم السوء.
فأقدم المماليك على التخلص من توران شاه قبل أن يبطش هو بهم، ونجحوا في قتله، وبمقتله انتهت الدولة الأيوبية في مصر، وبدأ عصر دولة المماليك.
ولم يعد المماليك أداة في أيدي من يستخدمهم لمصلحته وتحقيق هدفه، وفي سابقة لم تحدث في التاريخ الإسلامي إلا نادرا، اتفقت كلمتهم على اختيار أرملة أستاذهم الصالح أيوب "شجرة الدر" سلطانة للبلاد وبايعوها بالسلطنة عام 1250م.
ولمّا تعرض الشرق الإسلامي لخطر المغول الذي اجتاح الشام وأصبحت مصر على مقربة من هذا الخطر، تولى حكم مصر المملوكي قطز لمواجهة الخطر المغولى الداهم، وخرج إلى ملاقاة المغول في "عين جالوت" وحقق نصرا تاريخيا في عام 1260م، وطرد المغول من المنطقة، وضمَّ الشام إلى سلطان المماليك الذين أصبحوا سادة الموقف، ومن بيدهم مقاليد الأمور في مصر والشام. وسيف الدين قطز هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين.. وقد بدأ عصره بمواجهة معضلة خطيرة، وهي صد المغول المتوحشين القادمين لغزو مصر بعدما أسقطوا الخلافة الإسلامية، ودمَّروا بغداد، واجتاحوا الشام. وقد كان قطز نِعْم الحاكم الذي يوقر العلماء، ويطيعهم، لذا لمّا أراد فرض ضريبة على الشعب لتجهيز الجيش، وأفتى العالم العز بن عبد السلام بعدم الجواز إلا بعد أن يًخرِج الأمراء ما عندهم من أموالهم وأموال نسائهم وجواريهم، كان قطز أول مَن نفَّذ تلك الفتوى على نفسه، ثم طبقها على بقية الأمراء بالقوة.
وبعد انتصار المماليك في معركة عين جالوت وصل المغول الفارُّون إلى بيسان، ووجد المغول أن المماليك جادون في طلبهم، فلم يجدوا إلا أن يصطفوا من جديد، لتدور موقعة أخرى عند بيسان أجمع المؤرخون على أنها أصعب من الأولى، وقاتل المغول قتالاً رهيباً، ودافعوا عن حياتهم بكل قوة، وبدءوا يضغطون على المماليك، وكادوا أن يقلبوا الأمور لمصلحتهم، وابتلي المؤمنون، وزُلزلوا زلزالاً شديداً، وكانت هذه اللحظات من أحرج اللحظات في حياة القوات الإسلامية.. ورأى قطز كل ذلك..فانطلق يحفز الناس، ويدعوهم للثبات، ثم أطلق صيحته: واإسلاماه، واإسلاماه، واإسلاماه.. قالها ثلاث مرات، ثم قال في تضرع: "يا الله!! انصر عبدك قطز على التتار..!!"
ما إن انتهى من دعائه وطلبه إلا وخارت قوى المغول تماماً.. وأُبِيدَ جيش المغول بكامله، وانتصر المماليك..
والمماليك هم من قام بتصفية الوجود الصليبي في المشرق بعد أن استمرَّ ما يقرب من مائتي عامٍ، وقد بادر الى ذلك السلطان المملوكي بيبرس ووصل الأمر ذروته في عهد السلطان المملوكي خليل بن قلاون عام 1293م، فتم تصفية الوجود الصليبي في بلاد الشام، حيث كانت بعض أملاك للصليبين في الشام لا تزال قائمةً، منها على سبيل المثال: (عكا) التي اتجه إليها المنصور بن قلاون وضرب عليها الحصار، واحتلها عام 1291م، وكان هذا بمثابة الضربة القاضية التي نزلت بالصليبين في بلاد الشام، إذ لم تقم لهم بعد ذلك قائمة.
هكذا قامت في تاريخ الأمة الإسلامية دولة على أكتاف الرقيق الذين جُلِبوا في الأصل من مختلف البلدان لأجل الحروب، ولأجل حماية الخلفاء والسلاطين، هي دولة المماليك، وقد قامت هذه الدولة بجهد عظيم في الدفاع عن الإسلام، وإقامة مجده، وأبدعت هذه الدولة في الاصلاحات وفنون الحضارة، وكان لها الفضل الأكبر في حماية الدولة الاسلامية من الاندثار والزوال.
ثم يأتي الدكتور عبد الوهاب المسيري ـ رحمه الله ـ ويقول إن دولة المماليك كانت "دولة وظيفية"، وان المماليك لا يعدون كونهم "مادة قتالية"، وان دولتهم كانت منذ نشأتها الى زوال...
التعليقات (0)