المسيحية والعلمانية والإسلام
د محمد عبد الخالق شريبة
M_ak314@yahoo.com
لو صنف عاقل بأمور الدين، أو خبير بشئون المسلمين - الأخطار التي تهدد ديننا الحنيف، لوضع العلمانية في مقدمة ذاك التصنيف ..
والعلمانية هي دعوة إلى اللادينية أو الدنيوية، وهى تهدف في المقام الأول إلى فصل الدين عن جميع مناحي الحياة، وللأسف الشديد فإن للعلمانية الآن أنصاراً يروجون لأفكارها، ويدعون لاعتناقها مدعين أنها الحل الأصلح لكل المشاكل، والمخرج الأوحد من كل المآزق ؛ وهم يسخرون في سبيل ذلك كل الإمكانيات من إعلام مسموع ومقروء وغير ذلك، غير مبالين بدين، ولا معتبرين لعقائد المسلمين .
ويدعى دعاة العلمانية أن الدين ليس إلا علاقة سرية ورباط خاص بين المرء وخالقه، وأن هذه العلاقة لا تتعدى إلى حدود المجتمع، أو نظم المعيشة، أو أساليب الحكم، أو غير ذلك من مختلف وجوه الحياة.
ولقد ظهرت العلمانية في أوروبا في القرن السادس عشر كوسيلة للتخلص من حكم رجال الكنيسة وتسلطهم على المجتمع .
فقد اتهم رجال الكنيسة كل من يقترف جريمة العلم بالهرطقة، وكل من يرتكب رذيلة البحث التجريبي بالكفر والإلحاد والخروج عن الدين.
وتم إنشاء محاكم التفتيش في أوائل القرن الثالث عشر، واستمرت إلى القرون التالية، وكان هدف هذه المحاكم محاربة الهرطقة في أنحاء العالم المسيحي، وكان الناس يساقون سوقاً إلى محاكم التفتيش عن طريق الشبهة فقط أو عن طريق وشاية من أحد الجيران، وكان الواحد منهم يضرب حتى يعترف بذنبه فإذا لم يعترف نقل إلى مرحلة أعلى من التعذيب الجسدي، فإذا أصر على رأيه ورفض التراجع عن أفكاره كان يرمى في المحرقة!!
ويلخص لنا الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) تلك الملابسات التي أدت إلى فصل الدين عن الحياة في أوروبا ويصف مقدماتها ونتائجها فيقول:
((.. ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوروبا، ومن أكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الذين كانوا يمثلونه، أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة. معلومات بشرية، ومسلمات عصرية، عن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية، ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال الدين ذلك العصر، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني … وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه عمر البشر فإنه لا يؤمن عليه التحول والتعارض. فإن العلم الإنساني متدرج مترق، فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصراً على كثيب مهيل من الرمل. ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين فإن ذلك كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم، الذي انهزم فيه الدين. ذلك الدين المختلط بعلم البشر، الذي فيه الحق والباطل، والخالص والزائف..هزيمة منكرة، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده. وشر من ذلك وأشأم: أن أوروبا أصبحت لا دينية… ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة. بل درسوا كل ما تناقلته الألسنة، واشتهر بين الناس، وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريهما من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية. وصبغوها صبغة دينية، وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها، ونبذ كل ما يعارضها وألفوا في ذلك كتباً وتآليف وسموا هذه الجغرافيا التي ما أنزل الله بها من سلطان: الجغرافيا المسيحية … وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوروبا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني. فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب ؛ وأعلنوا اكتشافاتهم واختباراتهم. فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون في زمام الأمور في أوروبا وكفروهم، واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي وأنشأوا محاكم التفتيش … ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء ! كان منهم العالم الطبيعي المعروف (برونو )، وكذلك عوقب العالم الطبيعي الشهير (جالليو) لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس ! … هنالك ثار المجددون المتنورون، وعيل صبرهم ، وأصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة، والمحافظين على القديم، ومقتوا كل ما يتصل بهم، ويعزى إليهم، من عقيدة، وثقافة، وعلم، وأخلاق، وآداب، وعادوا الدين المسيحي أولاً، والدين المطلق ثانياً، واستحالت الحرب بين زعماء العلم والعقلية وزعماء الدين المسيحي حرباً بين العلم والدين مطلقاً! وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان، وأن العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان ؛ فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر ومن آمن بالأول كفر بالثاني. وإذا ذكروا الدين ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة وجباه مقطبة، وعيون ترمي بالشرر، وصدور ضيقة حرجة، وعقول سخيفة بليدة ؛ فاشمأزت قلوبهم ؛ وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء، وكل ما يمثلونه، وتواصوا به، وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم ! … ولم يكن عند هؤلاء الثائرين من الصبر والمثابرة على الدراسة والتفكير، ومن الوداعة والهدوء، ما يميزون به بين الدين، ورجاله المحتكرين لزعامته، ويفرقون به بين ما يرجع إلى الدين من عهدة ومسئولية. وما يرجع إلى رجال الكنيسة من جمود واستبداد وسوء تمثيل، فلا ينبذوا الدين نبذ النواة .. ولكن الحفيظة وشنآن رجال الدين، والاستعجال .. لم يسمح بالنظر في أمر الدين والتريث في شأنه..كغالب الثوار، في أكثر العصور والأمصار!!! )).
كانت تلك هي الظروف والملابسات التي ظهرت فيها العلمانية ، والتي تم فيها فصل الدين عن جميع مناحي الحياة..
أضف إلى ذلك العداوة المستمرة بين المذهب البروتستانتي والمذهب الكاثوليكي، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من معتنقي الطائفتين، والتي كانت أحد الأسباب التي دفعت العلمانية إلى الظهور لوقف المذابح المستمرة بين الطائفتين إذا كانت إحدى الطائفتين على رأس الحكم في الكنيسة .
ولكن على الجانب الآخر فإن الإسلام بريء تماماً مما اتهمت به المسيحية من تحدى العلم واتهام العلماء بالهرطقة.
فالإسلام لم يحارب العلم يوماً، ولم يقف أبداً في طريق العلماء، بل إن القرآن يأمرنا دائماً بالتأمل والتفكر وإعمال العقل، والنظر والتدبر في ملكوت السماء والأرض :
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) العنكبوت 20
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). البقرة:164
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). الرعد:3
(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الجاثية: 5
بل إن الله يخبرنا أن الإنسان كلما زاد علمه زادت خشيته (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء). فاطر:28
إذن فالعلمانية قد ظهرت في الأساس للقضاء على مشكلة تسلط الكنيسة واضطهادها للعلم، وانفراد رجال الدين المسيحي بالحكم ..وهذا الدافع لا يمكن أن يحمل على الدين الإسلامي بحال من الأحوال..
فليس في الإسلام سلطة مطلقة لرجال الدين دون غيرهم، بل إن كل مسلم ينبغي أن يكون رجل دين ودولة معاً، وفى ذلك يقول السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله:
((ليس في الإسلام ما يسمى بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه، ولكن الإسلام دين وشرع قد وضع حدوداً ورسم حقوقاً، والحاكم مكلف بإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق ،أي أن له سلطة تنفيذية فقط، وهو ليس بالمعصوم وليس بمهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط بين الحاكم عند المسلمين بما يسمى بالإفرنجثيوقراطيا أي السلطان الإلهي، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة من الله وله حق الأثرة بالتشريع وله في الرقاب حق الطاعة)).
- كما أن الهدف الذي أرسل المسيح عليه السلام من أجله كان تهذيب النفوس، والسمو بالأخلاق، وإصلاح ما أفسدته الخراف الضالة من بيت بني إسرائيل ؛ فالمسيحية لم تكن مشتملة على أساليب للحكم، أو نظام للمجتمع، وإنما كانت وسيلة لإصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق.
أما الإسلام فإنه كما يعني بالجانب الروحي والخلقي؛ فإنه يضع أيضاً نظاما للمجتمع، ويقنن أساليب للحكم، ويحدد وسائل للتعايش بين مواطنيه وبين مواطني الأديان الأخرى، ويكفل لجميع رعاياه الأمن والحماية وحرية العقيدة ؛ فالإسلام كيان اجتماعي متكامل أنزله الله لكي يتمم به الشرائع ويصلح به كل زمان ومكان..
أضف إلى ذلك أن الجهل الذي كانت تعيشه البشرية في أيام المسيحية الأولى، وضيق الأفق الذي كانت تعانيه - لم يؤهل المسيحية لأن تكون أكثر من رسالة لتهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق ؛ فلما جاء الإسلام بعد ستة قرون من الزمان كان العقل البشري قد تطور، والمستوى الفكري قد تقدم، وأصبحت البشرية مؤهلة لتلقى الشريعة الكاملة المتممة لجميع الشرائع.
ولذلك أيضاً فإن بعض ما اشتملت عليه المسيحية من تعاليم لم يكن صالحاً للتطبيق إلا في زمن المسيح عليه السلام والأجيال التي بعده ؛ فالمسيحية تجعل الزواج مثلاً رباطاً أبدياً لا يمكن حله، وتقول أن ما جمعه الله لا يمكن أن يفرقه بشر ؛ ولقد أدى تعنت رجال الدين المسيحي في هذا الأمر إلى انهيار خطير في بناء الأسرة ؛ وذلك لأنه إذا استحالت العشرة بين الزوجين مع استحالة الانفصال بينهما فإن ذلك يؤدي إلى إنشاء علاقات محرمة خارج نطاق الأسرة.
وذلك بعكس الإسلام الذي أباح الطلاق ولم يجعل الزواج رباطاً أبدياً بين الزوجين إذا استحالت العشرة بين الزوجين ؛ وبذلك فإن الإسلام كما شرع الزواج فقد شرع الطلاق أيضاً، وما جمعه الله فالله أيضاً يفرقه.
وهكذا ندرك أن السبب الذي دفع العلمانية للظهور في المجتمع الأوروبي ليس له ما يبرره على الإطلاق في البلاد الإسلامية ..
لكن الذي حدث أن نفراً من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا - قد حكموا على الإسلام بما حكم به على المسيحية ؛ فاعتنقوا العلمانية وأصبحت اللادينية هي دينهم!!.
وهؤلاء النفر إما من المثقفين الذين تلقوا تعليماً غربياً علمانياً ولم يتلقوا بجانبه تعليماً إسلامياً وكانوا بمعزل عن الإسلام وتعاليمه ومنهجه، وإما من هؤلاء الذين بهرتهم أضواء الغرب وحضارته مع إيمانهم العليل بالله وعلمهم الضئيل بدينه، وإما من هؤلاء الذين يبيعون أي شئ بأي ثمن حتى لو كان دينهم وتراث أمتهم ..
ثم هم يطلبون منا بعد ذلك أن تكون علاقتنا بربنا علاقة سرية ؛ فلا نسمح لتشريعاته بدخول المحاكم، ولا لتاريخ دينه وسيرة رسوله بدخول المدارس، ولا لتعاليمه بأن تسود المجتمع!!.
فهل ينتظر منا هؤلاء أن نسمع لهم ونقبل فكرهم ؟!
وهل يأملون في أن نترك ديننا الحق ونؤمن بما يعتنقوه؟!
لقد أنعم الله علينا بالإسلام، وأرشدنا به إلى سبل السلام ؛ فكيف بنا بعد ذلك نعصى أمره، ونهمل شرعه، ونجحد حكمه؟!!
والله قد أنزل إلينا كتاباً كي نبصر في نوره، ونسير في إشراقه ؛ فهل نحيا بشرعه ونحكم بحكمه، أم نحكم عليه بالهجران وعلى أنفسنا بالخسران ؟!
كيف والله تعالى يقول:
(لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟!!)؟!!الأنبياء: 10
جميع حقوق الموقع محفوظة
لموسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
quran-m.com
التعليقات (0)