أحضر ورقة وقلماً وسجل المقادير :
• كُرسي متحرك يعلوه معاق أو مشلول أو شيخ كبير أو عجوز هجرها الدهر فعقها الأقربون .
• مُخدرات يتصارع حولها وعليها مجموعة من المدمنين لا همَّ لهم سوى الشم والشفط والبلع .. أو ماشئتَ فسمَّ .
• ثلاثة مشاهد أو أربع – حسب إمكانياتك - لحالات اغتصاب ..
• علاقات مشبوهة تبدأ ( بمغازل ) وتنتهي بحمل سفاح
• كم مشهد لعقوق الوالدين متمثلا بركلة أو بدحجة أو ببصقة أو بصفعة بطبجة نعال أو بجوتي أو خلافه وكل حسب إمكانياته ..
• بكاء وعويل وصراخ ونحيب ونباح ونهيق ( وكلٌ حسب إمكانياته ) ..
ثُم أمزج كل هذه المقادير وضعها في ( جدر ) أو ( حلة ) حسب المتوفر واتركها تغلي ساعتين بعد ذلك أنزلها من على النار ستحصل على مسلسل خليجي كامل الدسم سريع الذوبان في مخك ومخ أهلك واللي يتشدد لك ..
وإن جادت نفسك – وحتما ستجود – فسُتبصر عشرين أو ثلاثين قناة تلفزيونية فضائية واقفة أمام مطبخك مادّة يديها ( بسلطانية ) أو (بغضارة ) والكل يستبق لأن تملأ وعاءه قبل وعاء أخيه ..
عرضتُ هذه المقادير لبعض الأخوة الأعداء ففهمها قليلٌ منهم وجربها واستفاد منها ، وكثير حقّ عليه الغباء فطلب مني تفصيلا مملاً ، فسألته ألست مدمن مسلسلات خليجية فأخبرني بكل ما أوتي الجنس البشري من ( بقارة ) نعم فقلتُ له إذن لماذا التفصيل ، قال أنا لا أقرأ ما بين السطور . فأجبته بإيمان من لا يرى سطوراً ليرى ما بينها اسمع :
أول المقادير الكرسي المتحرك ، فبالله عليك هل تابعت مسلسلا ليس به كرسي متحرك وكأن عواطف ومشاعر المشاهد لا تُحرك ولا تُهز إلا إذا شاهد مسكينا طيبا مظلوماً منبوذا ممن حوله متقرفصاً فوق هذا الكرسي ، فمنتجو هذه المسلسلات يظنون يقيناً أن شخصاً تقدم به العمر ونُكس في الخلق وهجره أخلاؤه وجحده أولاده وأشبعوه ( أفٍ ) ونهروه وقالوا له قولا لئيماً في ظنهم لا تكفي لحلب أحاسيس المشاهدين تعاطفا معهم ، فارتأوا أن يقرنوه بهذا الكرسي لينفجر الناس بكاءً وعويلا كلما شاهدوه .. يا للإبداع ، وإن حاولت نزع هذا الكرسي من تحته فلن يرفَّ لحبكة الرواية أو تسلسلها الدرامي جفن وبتصوري أن في كل بلاتوه غرفة مخصصة للكراسي المُتحركة ، فكل من أراد أن ينتج مسلسلا يأتي ببطاقته ويستأجر واحداً على أن يرجعه بسرعة البرق فالطلب عليه كبير ، وطوابير المنتجين للمسلسلات الأخرى في انتظاره فالعدد غير كافٍ .
قال صاحبي الظريف الآن وبعد شرحك المستفيض هذا اعتقد أن هناك أملا في احتمال فهمي .. لا عليك وادخل في الثانية ..
فقلتُ له الثانية هي أن في كل مجتمع توجد به بعض الانحرافات عن الجادة ويوجد فئة من الشباب لا همّ لهم سوى المخدرات وما سار في ركبها ولكن هؤلاء شرذمة قليلون في مجتمعنا ولا يمثلون شريحة كُبرى من الخيرين الأسوياء السائرين حثيثا في درب الخير وجادة الصلاح ..
ولو سلمنا جدلاً أنهم يشكلون ظاهرة أفلا يكفي هذا الكم الهائل من التناول لهذه القضية على مر السنين والأيام لتُحل هذه القضية من جذورها – إن كان لها جذور – أو هو استسهال كسالى المؤلفين فبدلاً من البحث عن مواضيع شائكة هنا أو هناك يلجأ لهذا ( الاستندر ) الجاهز فينزله من على الرفّ ويقحمه في مسلسله ليشكل رأياً لدى أمة لا إله إلا الله أن مجتمعاتنا تنوء حتى أذنيها بهذا الداء الوبيل ..
أما ثالثة الأثافىء فهي كثانية الأثافىء بالضبط ففي هذا العام وخلال اللهث الدرامي الرمضاني الحثيث – وحسب قول أحد الممثلين الكويتيين – هناك ثلاثة مسلسلات تبدأ بمشهد اغتصاب .. ( خير .. وين عايشين ) طبعاً أنا لا أنكر أن مجتمعنا الخليجي كأي مجتمع في الدنيا به الخير وبه الشر ولكن هذا لا يعني أن هذه القضايا أصبحت ظواهر لنترك ما عداها ونسلط ( زوما ) عليها دون غيرها ثم ألا يُصاحب عرض مثل هذه المشاهد خدشٌ للحياء وعنفٌ غير مستحب للأطفال والكبار معاً مما يخلق في دواخلهم شعوراً بالخوف الدائم والقلق السرمدي والهوس المزمن ؟؟؟
هنا شهق صاحبي شقهة كادت أن تكون ا لقاضية .. وصاح طيب وبعدين ؟؟؟
قلتُ له ( قلعتك ، وعسى مرارتك تنفقع ) ألستَ من طلب التفصيل .. إذن خذ تفصيل التفصيل .. قال يالله خلصنا .. أكمل ..
قلتُ لن أسهب في مشاهد العلاقات المشبوهة بين البنات والأولاد والنتائج الحتمية لهذه العلاقة من سفاح وما شابهه لأنه داخل ضمن الملاحظة السابقة وسأنتقل فوراً لمشاهد الاعتداء على الوالدين وتحقيرهما بل رأيتُ فيما يراه الصاحي والسكران معاً صفعات وركلات وكفوفاً توجه بكل حرفية وإتقان لهذين المسكينين ، هنا لا أدري لِمَ تذكرتُ قرار الرقيب المصري بضرورة حذف المشاهد التي يُهان فيها الإباء بسبة أو سخرية أو رفع صوت لذا قلما ترى في المسلسلات المصرية على ما بها من ( بلاوي ) هذه الإشكالية ، أما نحن فحدث وكلك حرج لدرجة أن كثيراً من ( الربع ) وأنا منهم أصبحنا نخشى على أنفسنا من أن ( ندحج ) يوماً أو ( نُنَح جِمعاً ) على حين غرة من أحد الأبناء الأعزاء تعبيرا منهم عن مدى حبهم لنا وتجسيداً لإجادتـهم فنَّ تقليد الممثلين ..
كل هذه الإشكاليات تقودنا بالتبعية للملاحظة الأخيرة وهي كثرة البكاء والعويل والنباح والنهيق والزفير والشخير في الدراما الخليجية وهنا بالذات لا تعذلهم – الله يعينهم – فمن فرط ما يتتبعون أعمالهم وما تحويه من هذا الخواء الفكري والأخلاقي فلستَ تلومهم إن هم أفنوا العمر بكاءً وعويلاً .. ولا تلومنَّ نفسك إن أدرت ( الريموت ) لمسلسل ورأيت ممثلة وكأنها شلالات ( نياجرا ) من كثرة ما تصبُ عيناها من دموع ويسكب منخراها من ( سناسين ) وتفيض شفتاها من ( سعابيل ) .. سبحان الخالق المصور أحيانا أجدني أضحك ( حتى الشردغة على ظهري ) وأردد ( وين عايشين إحنا ) أهذا هو الفن أهذا هو الارتقاء بالذائقة الإنسانية أهذا هو الإحساس المرهف .. نحنُ ندرك بما أوتينا من وعي ( لك عليه ) أن الدراما هي المرآة التي تعكسُ ما يدور في المجتمع من ظواهر سلبية طافحة على السطح متغلغلة داخل نسيجه وليس من مهامها أن تبحث عن كل ما هو مستقبح أو غريب لتظهره للعيان فتصورنا للناس كأننا عوالم بهيمية تبحث عن شهواتـها في كل مكان فتلتهمها التهاماً لتنثر قاذوراتـها وفضلاتـها هنا وهناك ..
التعليقات (0)