مواضيع اليوم

المسكوت عنه في انقلاب الصخيرات

إدريس ولد القابلة

2009-11-22 17:25:35

0


2009 / 2 / 12

محمد لومة / أحد قدماء مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية
المسكوت عنه في انقلاب الصخيرات

محمد لومة أحد قدامى مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، رحل إلى الشرق العربي لتلقي تكوين عسكري متقدم، سيما في تخصص "حرب العصابات"، تخرج من الكلية الحربية السورية في شتنبر 1971، ثم التحق بالعمل الفدائي يحمل معه هاجس تغيير النظام السياسي بالمغرب عن طريق القوة المسلحة.

أجرينا معه هذا الحوار للمزيد من تسليط الضوء على بعض الجوانب المعتمة من عملية الانقلاب الأولى الفاشلة، بوصفه ـ من جهة ـ كاتبا وباحثا تقصى أحداث هذه العملية واتصل بأعضائها المشاركين عن قرب، كما اطلع ـ من جهة أخرى ـ على جملة من الوثائق المتصلة بهذه النازلة.

- أين كنت يوم حدوث انقلاب 10 يوليوز 1971؟
+ مساء هذا اليوم المشؤوم كنت بأحد مرافق الكلية الحربية السورية في مدينة (حمص) حيث تلقيت دراساتي العسكرية للتخرج منها كمهندس عسكري، ففوجئت باقتحام القاعة من طرف مجموعة من الضباط السوريين الذين اتجهوا نحوي وهم يهتفون ببشاشة.. لقد كان هؤلاء القوم على مدى ثلاث سنوات قضيتها هناك، نموذجا للقسوة والصرامة تجاه كافة الطلبة الضباط، الذين سرعان ما أخرجوني إلى ساحة الكلية محمولا على الأكتاف وهم يرقصون ويغنون عاليا:

على دا العونا.. وُعَلى دَا العُونَا... إلخ.. مقطعا من الغنوة الشامية الشهيرة..
ثم أخبروني بعد ذلك بأن الوضع السياسي في المغرب قد تغير.. لم يكن بحوزتي جهاز راديو لمعرفة التفاصيل لكنهم تطوّعوا، فأحضروا الجهاز.. مؤكدين بإلحاح:

- أُولَكْ يا زلمي.. ضَبّْ أغْرَاضَك.. شُو نَاطِر..؟ (يا رجل.. تحرك.. إجمع أغراضك الشخصية)
- وُلَكْ بُكرة بعيِّنوك وزير دفاع.. أُولك خلِّصنا بقى!! (إذا سيعينونك وزيرا للدفاع.. تحرك.. تحرك).
عند الصباح الباكر لليوم الموالي، جاءت العاصفة على لسان قائد الكلية الحربية السورية المقدم ناصر الدين محمد ناصر، الذي سرعان ما أصبح لواء ثم وزيرا للداخلية في سورية.. لقد طلبني باستعجال ليوبِّخني وبعنف شديد قائلا:

- أُولَيكْ الله لا يعطيكم عافية.. أُولك لِيشْ فَشَلْتُو؟
شرحت له الأمر في حدود ما أعرف:
- سيدي.. هادول مُوجَمَاعَتْنَا.. هَادُول مرتزقة حروب في الهند الصينية والكامبودج والجزائر.. إلخ. ومو وطنيين.. ولا قوميين.. وأنا ما إلي علاقة بيهم.
- صرخ في وجهي:
أُولّكْ يا أخي بدِّي أفهم.. هَادُول مُوعَسْكَر؟
أجبت بالتأكيد عسكر.. فعقَّب غاضبا كالإعصار:
- أُولَكْ.. عَسْكَر بَطَاطَا.. أولك 1400 عسكري وبيطلعوا على الفاضي.. اشرح لي كيف صار ها الشيء؟
أمرني بالانصراف لعجزي عن تقديم ما يرغب من معلومات إضافية.. ثم عدت إلى رفاقي.. منتظرا حفل التخرج الذي أقيم تحت إشراف رئيس الجمهورية الفريق حافظ الأسد لأتخلص من هذا الكابوس.. لقد كنت المغربي الوحيد آنذاك في الكلية وكان الجميع يتوجهون لي بالأسئلة والاستنكارات والشجب، كما لو أنني كنت المسؤول الأول عن هذه الحماقة...آنذاك كانت السفارة المغربية في دمشق قد أغلقت بسبب إحراقها، بعد جريمة اغتيال الشهيد المهدي بنبركة في أكتوبر 1965... فبقينا نحن هناك ـ مناضلو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المتواجدون آنذاك بالديار السورية ـ وحدنا المخاطبون على كل المستويات حتى سنة 1971.

- ككاتب تقصيت كثيرا بخصوص المحاولة الانقلابية الأولى واتصلت بالعديد من الأشخاص واطلعت على جملة من الوثائق، كيف كانت الوضعية في قصر الصخيرات قبل الهجوم وبعده؟

+ منذ العاشرة صباحا ليوم السبت 10 يوليوز 1971 وسيارات المدعوين تصل تباعا إلى القصر الملكي بالصخيرات، تحمل ركابا أنيقين، يرتدون حسب التعليمات (البروتوكول) ملابس صيفية خفيفة دون ربطة عنق، أغلبها، عبارة عن قمصان حريرية ذات أكمام قصيرة.

وبينما كان الكاتب والصحفي المعروف بونوا ميشان (Benoit Méchin)، الذي اعتادت مصالح التشريفات دعوته سنويا لحضور هذه المناسبة، متجها إلى قصر الصخيرات عبر الطريق الشاطئية، حيث لاحظ عددا كبيرا من الشاحنات العسكرية المليئة بالجنود تسير في نفس الاتجاه، ولعل أكثر ما استرعى انتباهه أن أغطية الشاحنات كانت مرفوعة وقد بدا كل جندي على متنها ماسكا سلاحه بحزم وهو في وضعية تأهب!

وبحكم تجربة الرجل السابقة في العراق حين سقوط النظام الملكي صيف 1958 والتي عاش فصولها أولا بأول.. بدا له أن الأجواء في الرباط خلال ذاك اليوم غير اعتيادية ورأى أن عليه الإسراع بسيارته للوصول إلى القصر ولو ربع ساعة قبل وصول الشاحنات العسكرية لإنذار الملك من مغبة ما سيقع.. وقد استطاع أن يَعُدَّ لوحده ما عَدَدُهُ (63) شاحنة تحمل مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة ممتدة على حوالي كيلومتر تتحرك بسرعة (في حدود 50 كلم/ الساعة).

 

- هل تمكَّنَ من إخبار الحسن الثاني بذلك؟
+ رغم أنه استطاع الوصول إلى القصر، لم يتمكن من الوصول إلى الملك، الذي كان يتناول غذاءه حوالي الثانية زوالا رفقة الأمير سلطان بن عبد العزيز والحبيب بورقيبة الابن والأمير مولاي عبد الله وغيرهم من كبار الشخصيات الوطنية والدولية.. كما باءت كافة محاولاته للعثور على الجنرال حفيظ العلوي مدير التشريفات الملكية بالفشل الذريع... فأسلم أمره للقدر.. حيث سيتمكن بعد ذلك في كتاب صدر له بعنوان: (Deux Etés Africains) من رصد كافة أشواط المذبحة الفظيعة التي حدثت هناك.

ذلك اليوم عبر الانقلابيون بشاحناتهم و"جيباتهم" المسلحة شارع الحسن الثاني مخترقين العاصمة، وكان اليوم يوم سبت مما زاد من درجة اكتظاظ المرور، وصولا حتى الطريق الساحلية المؤدية إلى الصخيرات، وعلى جسر وادي "نفيفيخ" قام رجال الدرك الملكي هناك بتوقيف السيارات المدنية لإفساح الطريق أمام موكب "الانقلابيين"، وهذا ما أخر "بونوا ميشان".

كانت الموائد قد مُدَّت وعليها ما طاب من مختلف صنوف الأكل، قبل ذلك استغلت، بعض الشخصيات الفرصة لممارسة السباحة أو الكولف.. والفرق الموسيقية تشنف الأسماع، علما بأن عددا هاما من نجوم الطرب العربي كانوا قد أطّروا الحفل الموسيقي الساهر ليلة قبل ذلك، من بينهم: صباح وفريد الأطرش، محمد عبد الوهاب وعفاف راضي، عبد الحليم حافظ وغيرهم (...).

كانت السحب قد بدأت في الانقشاع عن سماء الصخيرات عندما كانت أفواج الشاحنات العسكرية المسلحة تشق طريقها من بوقنادل إلى الصخيرات، إذ كانت السماء ذلك اليوم مكسوة بغيوم كثيفة منذ الساعات الصباحية الأولى.

ولدى سماع أولى العيارات النارية، تهامس البعض ضاحكين: إنها واحدة أخرى من (مقالب) الأمير مولاي عبد الله.. فقد عوّدنا على مثل هذه المفاجآت؟! فردّ أحد السّفراء ناقما: إذا كان الأمر كذلك فهو أسوأ مقلب يمكن تنظيمه..

وعلى ذكر السفراء، أصيب سفير إحدى دول أمريكا اللاتينية لدى المغرب بالرعب الشديد.. وكان يحمل رتبة جنرال فلم يجد مكانا يختبئ فيه سوى برميل للنفايات (من النوع القديم)، لا يستطيع إيقاف طلقة نارية واحدة من المرور في الاتجاهين معا.. فتأكد فيما بعد لجميع الناس بأنه من نوع جنرالات (الكولف) و(كرة القدم).. وما شاكل!!؟

أما عميد الشرطة بودريس، الذي كان من المكلفين بالأمن الشخصي لصاحب الجلالة فقد لجأ بدوره إلى برميل آخر للنفايات بعد أن أطلق على إحدى قدميه رصاصة من مسدسه الشخصي.. وحينما حاول الناس إخراجه بعد انتهاء هبوب "العاصفة"، وجدوا عناء كبيرا بسبب ما كان عليه الرجل من بدانة مفرطة!.. وجاء من الخدم من سيشهد طواعية بأنه هو من أطلق النار على نفسه.. وذلك تفاديا للإحراج مادام قد خاف وفضل الاختباء عوض القيام بمهمته، لكن ذلك لم ينفعه، إذ سرعان ما تم استبداله بعميد آخر بعد حوالي سنة في نازلة طائرة البوينغ الملكية (727) مساء يوم 16 غشت 1972.

شخصيا، لا أريد العودة إلى ما كتبه كثير من الذين عاينوا هذه المجزرة البشعة.. فللقارئ الكريم الراغب في الإطلاع على المزيد من تفاصيلها العودة إلى مؤلفات عبد الهادي بوطالب وعبد اللطيف الفيلالي وبينوا ميشان وغيرهم. لكنني أريد لفت الأنظار إلى الحالة "الهستيرية" التي كان عليها تلاميذ مدرسة اهرمومو، الذين أُصِيبُوا بالذهول والانبهار.. وهي المشاعر التي سرعان ما تحولت إلى سعار دموي بإطلاق النار في كل اتجاه.. جعل هذه المخلوقات تتحول إلى "قطعان" حقيقية بشعة :

- منهم من انصرف إلى أكل ما لذ وطاب من مأكولات لم يتذوقوها يوما في حياتهم.. للأسف وسط الدم والشظايا والأنين!!
- منهم من شرع في سلب المدعوين أموالهم وساعاتهم اليدوية وحليهم.. إلخ.
ومنهم من وقف مبهورا أمام زرقة البحر، وتناسق المعمار في جنبات القصر مما لم يشهد له مثيلا من قبل، سيما هؤلاء أبناء المناطق الجبلية والصحراوية ممن لم يعاينوا بحرا من قبل... لا بل إن المساعد الأول (خرخاش) أسرع إلى تجميع أنبوب بلاستيكي ضخم يستعمل في سقي ملعب الكولف بالقصر الملكي، وهو يعتزم إحضاره إلى مدرسة اهرمومو.. كما كان يفعل دائما تحت إشراف المساعد عقا.. كما لو أنه هذه المرة جاء في نزهة بسيطة ستنتهي كما بدأت وليس بصدد محاولة انقلابية، دموية، لها ما بعدها!!؟

خلال ذلك اليوم استطاع أحمد رضا كديرة الفِكاك من الفخ، حيث غادر القصر قبل الساعة الثانية زوالا رفقة الملازم الصفريوي، وقد تسبب إطلاق النار عشوائيا في تفكيك مجموعة حلقات المخطط الذي وضعه الجنرال المذبوح، وهكذا بدل أن تنقسم القوات المهاجمة إلى ثلاثة أقسام، أولها لمهاجمة القصر، وثانيها للاستيلاء على هيئة الأركان العامة، وثالثها للسيطرة على مقرات وزارة الداخلية والإذاعة والتلفزة.. بدل ذلك اختلط الحابل بالنابل، فلم يعد ضباط الكوماندوهات يسيطرون على تلامذتهم، ليغدو السعار الدموي هو سيد الموقف.


- كيف كانت نوعية تسليح "الكوماندوهات" المسلحة؟
+ لقد كان التسليح قويا بل غريبا، في ضوء قواعد التدريب المعمول بها في مدارس مماثلة، ذلك أن عددا كبيرا من التلاميذ –الضباط، كانوا لا يزالون في السنة الأولى من التكوين، يجهلون استعمال السلاح جهلا تاما.. حسب تصريحات أحد قادتهم، الملازم أحمد المرزوقي (قائد الكوماندو 12)..

وكانت هذه الأسلحة – حسب محضر الإدارة العامة للأمن الوطني المؤرخ في 17 يوليوز 1971، والذي حُرِّر بإشراف عميد الشرطة محمد المعزوزي والكابيتان عبد المومن من هيئة الأركان العامة للجيش - عبارة عن:

أ- الأسلحة الثقيلة:
1 مدفع عيار 75 ملم – عديم الارتداء.
1 مدفع هاون عيار 120 ملم.
4 مدافع هاون من عيار 81 ملم.
8 مدافع هاون عيار 60 ملم.
7 رشاشات ثقيلة عيار (12.7 ملم).

- عدد كبير من الرشاشات الثقيلة (A. A. 52) و(29/24-F.M).


ب- الأسلحة الخفيفة (حوالي 1200 بندقية ورشاشة)، منها:
- بنادق: MAS – 36
- بنادق: N.L.G
- رشاشات (MAT -49) و(5-35 D.A)..
- كمية من قاذفات الصواريخ ضد المصفحات والدبابات.
- عدد كبير من مسدسات نوع "بريطا".
- كمية كبيرة من القنابل الهجومية والدفاعية، كما تم استعمال أكثر من 40 شاحنة وناقلة وأكثر من 20 ألف لتر من الوقود وكميات كافية من الغذاء.

 

- هل تم فعلا استخدام هذه الأسلحة؟
+ لو استعملت هذه الأسلحة في قصر الصخيرات لأدى ذلك إلى هلاك حوالي ألف شخص، ولدُمِّّرت مرافق القصر عن آخرها بقذائف المدفعية وشظاياها.. لكن الأخطر من كل ذلك، أن المقدم امحمد عبابو، أعطى لقواته المسلحة منذ خروجها من بلدة (بوقنادل) الأمر القاطع والصارم بـ:


1- رفع أغطية الشاحنات والسيارات العسكرية استعدادا لخوض المعركة.


2- تلقيم كافة أنواع الأسلحة، ووضعها في حالة الاستعداد، باعتبار أن القوات ستدخل "منطقة معادية" عبر المرور بمدينتي سلا والرباط!!؟

فلو حصل اشتباك بين هؤلاء وأية قوة عسكرية أخرى، بين بوقنادل والصخيرات، لكان حجم الخسائر بآلاف الضحايا، سيما وأن بعض تلاميذ مدرسة أهرمومو كانوا لا يزالون "أغرارا"، بمعنى أنهم لم يستوعبوا بعد حمل السلاح والمناورة بالنيران... وهكذا سنجدهم في الصخيرات يطلقون النار على كل ما تقع عليه أعينهم، بل لقد وصلوا إلى حد التراشق بالرصاص في ما بينهم.. كما لو أنها نوع من ألاعيب (عاشوراء)، يا سبحان الله!

لقد سجل المقدم امحمد عبابو على نفسه صبيحة يوم 10 يوليوز 1971 حماقات خطيرة لا تخطر على بال، عرَّض خلالها آلاف الأرواح للخطر الداهم دون أي ذنب اقترفوه.. لا لشيء.. فقط من أجل رغبته في توسيع مجال نفوذه وسلطته.. وهو لا يزال ابن الـ 32 سنة أتى من مدرسة عسكرية نائية، ما كان ليتصور أحد أن تنتقل بقوتها النارية الكبيرة إلى قلب عاصمة البلاد.. أقول.. كان ينوي ضَمِّ مساحة نفوذه من مدير مدرسة عسكرية إلى مساحة الوطن المغربي بكامله... بكل مؤسساته الدستورية والسياسية والنقابية والتربوية..؟!

 

- بعد أن فشلت المحاولة وتم القبض على زمام الأمور بعد هذه المجزرة الدامية، كيف كانت مواقف الملك الحسن الثاني؟
+ لقد حضر صديقه الملك حسين، مهرولا من عمان، مزودا بما في جعبته من نصائح صارمة.. في ضوء ما عاناه على مدى عام كامل.. بعد أحداث سبتمبر 1970 في عمان ثم اشتباكات جرش وعجلون في يوليوز 1971.. وقد حضر كالمعتاد متمنطقا بمسدسه (سميت إندونسن) وبلباسه العسكري.. ليصر أولا على إعدام كل المتورطين في أحداث الصخيرات.. ولكن الجنرال أوفقير هو من قدم الضحايا وقرر مصيرهم دون تقديمهم للمحاكمة قبل ذلك، وقد تميزت هذه المذبحة أيضا بتصفية حسابات شخصية.. فكان يشرف على إعدامهم باكيا.. كما سيفعل لاحقا صدام حسين في حق قادته من حزب البعث العربي الاشتراكي بإعدام شخص من مستوى عبد الخالق السامرائي.. كما يفعل عادة "التمساح" قبل الانقضاض على ضحيته!!؟

بعد ذلك سيسارع الحسن الثاني إلى إطلاق سراح سعيد بونعيلات وبنموسى الإبرايمي في 15 ماي 1972، ليباشر حوارا مفتوحا مع الكتلة الوطنية التي تشكلت قبل ذلك في يوليوز 1970.


... بالفعل كان المذبوح يسير في نفس الاتجاه، إذ لا خيار له، وقد سار معه الحسن الثاني مكرها، لكن بخطوات، ثقيلة وحذرة.. ستقوده إلى محاولة انقلابية ثانية، لأنه لم يسرع الخطى كما يجب، فاكتفى بالمناورة من وراء حجاب، وهو الرافض دوما لتقديم أية تنازلات من باب الضغط، فكان أن عرض نظامه السياسي بالكامل لأفدح المخاطر بعد ظهر يوم 16 غشت 1972.

- ماذا يمكنك أن تقول بخصوص طريقة القيادة المعتمدة في الانقلاب وتجانسها؟
+ أريد أن أسجل – بداية – بأن كلا الرجلين، المذبوح واعبابو، كانا يقفان الواحد منهما بعيدا عن الآخر على مسافة كبيرة ـ فكرا وتربية ونهجا وتجربة ونضجا كذلك ـ بحكم عدد هام من المعطيات التي تتصل بشخصيتيهما.


فالمذبوح، زاول قبل ذلك مهاما مدنية وعسكرية متنوعة، كان أبرزها توليه عاملا على إقليم ورزازات بعد الاستقلال مباشرة، ثم عمل وزيرا للبريد في حكومة عبد الله إبراهيم المُشكلة في دجنبر 1958.. غير أنه سرعان ما سيقدم استقالته منها، بضغط من الحسن الثاني ولي العهد آنذاك، ضمن محاولة لإسقاط الحكومة.. وكانت الذريعة المقدمة هي الاحتجاج على مضمون البلاغ الصادر عن مؤتمر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب المنعقد في أكادير سنة 1959، والذي فهم منه أنه تضمن قذفا في حق مؤسسة الجيش الملكي.. علما بأن المذبوح لم يكن يحمل سوى رتبة قبطان وقتها، ولم يقدم أي من الجنرالات استقالتهم سوى المذبوح! بعد ذلك شغل منصب عامل على الدار البيضاء.. وقد ارتبط اسمه بالمحاولة (الانقلابية) للحركة الاتحادية في 16 يوليوز 1963، ويقال بأنه سارع إلى الإخبار بها بعد أن سبقه إلى ذلك مصطفى العلوي، ابن شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، وقد جرى التعامل معه في ضوء ذلك كشاهد إبان البت في هذه القضية.

وعلى الرغم من إصدار 14 حكما بالإعدام في حق المتهمين خلال مارس 1964، ظل الفقيه البصري وعمر بنجلون – المحكوم عليهما كذلك بالإعدام في هذه القضية – يذكران المذبوح بكل خير.. وينوهان بنظافته ووطنيته.. وقد أكدا مرارا لرفاقهما في السجن بأن هذا الشخص سيقوم – يوما ما – بعمل وطني كبير!!

- ما هي الأسباب التي دفعت الجنرال المذبوح إلى التخطيط للانقلاب؟
+ إن عددا هاما من المصادر أجمعت على أن من بين أسباب قيام المذبوح بهذه المحاولة الانقلابية اكتشافه، وهو يقوم بزيارة للولايات المتحدة الأمريكية في مطلع سنة 1971 للتحضير لزيارة الحسن الثاني المقررة آنذاك في شهر أبريل، اكتشف ضمن بعض الوثائق كيف أن أشخاصا نافذين في المحيط الملكي طلبوا رشوة قيمتها (600) مليون سنيتم لتسهيل بناء فندق (شيراطون) بالدار البيضاء، كما اكتشف أن بعضهم يمارس نشاط تهريب المعادن النفيسة.. فعاد من هناك وهو مصمم على فعل شيء لوقف الفساد المستشري في أعلى هرم الدولة.

وسيكتشف الملك الحسن الثاني بعد وفاة المذبوح كيف أنه لم يكن يتصرف في الإكراميات المالية الضخمة التي كان الملك يقدمها له، إذا كان يحتفظ بها ضمن مغلفاتها الأنيقة دون أن تمتد يده إليها لمجرد معرفة المبالغ التي تتضمنها!!؟ دلالة على أن الرجل كان عصيا على قبول مثل هذه الأساليب التي درج عليها النظام لترويض رجالاته وشراء سكوتهم وتواطئهم.

وذات مرة، تلقى الملك الحسن الثاني تقريرا سريا، مضمونه أن الجنرال المذبوح يدبر انقلابا ضده.. وكان وقتها يلعب (الكولف) بملعب دار السلام بالرباط.. فما كان منه سوى أن بعث في طلب المذبوح ليقول له علنا: هل صحيح ما ينسبونه لك في هذا التقرير.. يا مذبوح؟ ثم انصرف إلى رياضته بلا مبالاة، ولم يعد إلى الحديث حول هذا الموضوع أو إثارته من جديد.

أما شخص المقدم امحمد عبابو، والذي لم تمض على ترقيته من كوماندان إلى ليوتنان كولونيل سوى أقل من أربعة أشهر فقد كان رجلا عسكريا بالكامل، لم يعرف له أي نشاط سياسي أو وطني، أو حتى مجرد اتصال بالأحزاب السياسية المغربية طوال حياته، ولكن طموحاته الشخصية كانت لا تعرف أية حدودّ.


فعدا تفوقه في تخصصه العسكري (المشاة) وذكائه وقوة شخصيته وحرصه الدائم على تطوير برامج التكوين العسكري في مدرسته بأهرمومو، وفي ملحقتها بمدينة صفرو، وهي كلها إيجابيات تسجل لصالحه بدون نزاع، لم يعرف عنه أي اهتمام آخر.

 

- كيف ترى الفرق بين الجنرال المذبوح والمقدم اعبابو؟
+ بكل "موضوعية" ما يجعلنا نعتقد حقا بأن الجنرال المذبوح؛ بقوة شخصيته، واتزانه، ونظافته ووطنيته، قد أخطأ اختيار الرفيق، رفيق الدرب، في شخص امحمد عبابو، والذي تميز مساره المهني بالعديد من الخروقات الفظيعة والممارسات اللا أخلاقية، والتي يمكن إيجازها في ما يلي:

أولا: للتجاوب مع طموحاته العسكرية الواسعة، سعى اعبابو، وهو لا يزال في رتبة رائد (كوماندان) إلى رفع تعداد التلاميذ في مدرسته من 300 إلى 1.000 ثم إلى 1.500 تلميذ، دون موافقة المكتب الثالث لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، والذي كان له حق الإشراف على كافة مؤسسات التكوين العسكري في البلاد، بتخصصاتها الجوية والبرية والبحرية.

وللتغلب على المشاكل المادية الكثيرة المتعلقة برفع طاقة المؤسسة إلى أضعافها من حيث المرافق والتجهيزات والتغذية.. إلخ.. لجأ الرجل إلى تكوين (كوماندوهات)، خاصة من ضباط وضباط صف المؤسسة، تحت إشراف مساعده (عملاق الحرب العالمية الثانية) المساعد الأول أمهروش عقا.. فقد كانت هذه المجموعات تقوم – وهي بكامل أسلحتها وتجهيزاتها وشاحناتها - بالسطو ليلا على ممتلكات المواطنين من: مواد البناء وتجهيزاته ومعداته الغالية الثمن والمواد الغذائية والمواشي والأغنام ومواد التجهيز والسيارات والشاحنات والغلال.. إلخ.

وبالتأكيد ساعدت أعمال "البَلْطَجَة" هذه في بناء مرافق جديدة بالمدرسة، والتزود بتجهيزات حديثة من مسابح وملاعب (...)، غير أن بعضها "صُبَّ" في حساب المدير، بحيث غدا في ظروف وجيزة مالكا لفيلا فخمة بمكناس ومؤسسة فندقية ومقهى بنفس المدينة، ولضيعة فلاحية مع عدد من القطع الأرضية، ناهيك عن سيارتين... إلخ ولم تمض على ذلك بعد خمسة عشر عاما على التحاقه بالجندية!!؟


ثانيا: أصبح الرجل عند تكوين "بطانة" من الأتباع الطيعين الذين لا يعصون له أمرا، يستغل الطابع العسكري الصرف لمؤسسته، وذلك في أفق الاستعانة بهم في تنفيذ "مشاريع" مستقبلية على مقاسه الخاص!!

ثالثا: درج كذلك، رغم أنه متزوج وله أبناء، على استقبال صديقاته داخل المدرسة وعلى تنظيم الولائم الباذخة للضباط الكبار بما لم يكن يتلاءم مطلقا مع مستوى عيش وتغذية تلاميذ المؤسسة آنذاك؟!
كما أن أساليبه في "البَلْطَجَة" وصلت حد الاعتداء على المقابر، فحسب روايات بعض الضباط، أمر ذات مرة بهدم قبور اليهود في مدينة صفرو، للاستفادة من أخشابها في أعمال البناء بمدرسته!!

فأية روابط فكرية أو سياسية أو مسلكية يمكن أن تجمع بين كل من الجنرال المذبوح والمقدم امحمد اعبابو؟!

بالتأكيد، الفروقات كانت فادحة، وقد أدت بالطبع إلى مصرعهما معا في نفس اليوم وبطريقة شاذة، كما لو كانا من لصوص المواشي (كاوبوي).

أما باقي الضباط الانقلابيين ممن جرى إعدامهم يوم 13 يوليوز 1971، والذين لم يتم "إقناعهم" بالانضمام إلى الحركة الانقلابية الجديدة، سوى بعد الساعة الرابعة ظهرا من يوم 10 يوليوز 1971، فقد كانوا قبل هذه الساعات يتحدثون (بالفَمِ المليان) عن الانقلاب، وضرورة التغيير!! وكانوا يمارسون ذلك في محلات عمومية مفتوحة كبارات (كيوم تيل) و(لاكوميدي) بالرباط، وحانات مماثلة في القنيطرة ووجدة والدار البيضاء.. إلخ.. بمعرفة كافة الأجهزة الأمنية.

.. هؤلاء الانقلابيون أيضا كانوا على جانب كبير من الفساد والانحلال والتهتك، وما من شيء يجمعهم بالجنرال محمد المذبوح.

.. شخص واحد أعدم ظلما وعدوانا بسبب انتفاء أية علاقة له بهؤلاء، هو المناضل الكبير الكوماندان إبراهيم المانوزي، أحد قادة هيئة أركان جيش التحرير المغربي إبان الخمسينات، الذي وصلت قواته ذات يوم من سنة 1957 إلى منطقة (أطار) الموريتانية، بعد أن نجحت في دك معاقل الإسبان بكل من طاطا وفم الحسن وكولميم حتى شمال موريتانيا وتندوف... وكثيرا ما كان أخوه المرحوم سعيد المانوزي يطلعني على خرائط حربية تخص تلك المرحلة.

هذا الضابط الوطني الكبير، كان الجنرال محمد أوفقير يتوعده بالتصفية قبل ذلك، ولم يستطع الزج به في معتقل دار المقري إلى جانب الهاشمي الطود وعمر غاندي والفقيه البصري وبولحية الطاطي (اعتقالات يوليوز 1963)، إذ ظل يترصده حتى قامت أحداث يوليوز 1971، فبعث في طلبه للاعتقال، وكان حينذاك بلباس النوم في بيته وبين أولاده، مع أنه لم يكن له أي اتصال بهؤلاء القوم.. لسبب بسيط هو أن معظم هؤلاء الضباط، كانوا في صفوف اللفيف الأجنبي كمرتزقة منذ الحرب العالمية الثانية، وكانوا في سلوكهم وأخلاقهم على النقيض من شخصية إبراهيم المانوزي ووطنيته العالية، مما كان يثير أحقاد أوفقير تجاهه، فظل ينتظر الفرصة، لكنها جاءت غير ملائمة هذه المرة لتصفية حساباته الإجرامية.. غير أنه سرعان ما سيقتل هو أيضا (ككلب حقير) بخمس رصاصات غادرة، على حد تعبير ابنه رؤوف أوفقير، والذي وصف الحادث رسميا على أنه انتحار تلقائي، حسب بلاغ وزارة الداخلية آنذاك (17 غشت 1972).
الجنرال المذبوح إذن وضع بيضه كاملا في سلة (فاسدة) و(متهورة) فكان ما كان.. والأخطر من كل ذلك، لم يباشر اتصالاته برفاقه الاتحاديين القدامى، الذين كانوا ينتظرون منه هذه المبادرة، بل لقد كانوا يبشرون بها بين أنصارهم.

فهل الاستيلاء على مقاليد الحكم في البلاد آنذاك كان لا يستحق عناء التنسيق مع اليسار وقتئذ؟
وهل مجرد إصدار التعليمات بإطلاق سراح (170) مناضلا اتحاديا من سجن بولمهارز بمراكش وتلكؤ العامل عن تنفيذ هذه التعليمات، هل كان ذلك كافيا لحماية وتطوير ودعم الحركة الانقلابية الجديدة؟

 

- ماذا تقول عن الموت المبكر للجنرال المذبوح؟
+ لقد أخبرني بعض الضباط الذين شاركوا ضمن هذه التجربة المريرة، وأفلتوا من جحيم (تازمامرت)، بأن تأخر وصول تلامذة (أهرمومو) ومدربيهم إلى قصر الصخيرات في الوقت المحدد، قد وتر أعصاب المذبوح، وجعل الشكوك تراوده بخصوص احتمال قيام اعبابو بالوشاية به إلى الملك، لذلك سارع إلى إرسال شخصين لمقابلة اعبابو (وهو لا يزال في طريقه إلى القصر) لتبليغه أمر التأجيل، وضرورة متابعة طريقه نحو ابن سليمان لتنفيذ المناورة وكأن شيئا لم يكن، مؤكدا له: لقد تجاوزت التوقيت الزمني المتفق بشأنه ومن الأفضل تأجيل العملية إلى وقت آخر.


غير أن اعبابو بدوره – والذي قضى الأيام الأخيرة بلياليها في التحضير لهذه العملية – فاض به الكأس، إذ لم تمر سوى بضعة أسابيع على تأجيل العملية السابقة ليوم 14 ماي 1971، والتي كان قد حشد لها 15 كوماندو مسلح.. قد شك بدوره في أن يكون المذبوح قد وشى به، فقرر متابعة التنفيذ مهما كلف الأمر.

- ما هي التعليمات الأصلية التي أوصلها الجنرال المذبوح إلى اعبابو قبل بعث توصيات التخلي عن المحاولة؟
+ كانت تعليمات الجنرال المذبوح إلى اعبابو تنص بدقة على ما يلي:

- الحرص على الوصول إلى البوابة الغربية لقصر الصخيرات على الساعة الواحدة زوالا (أي قبل الشروع في وجبة الغذاء).
- الحرص على عدم إطلاق النار.
- الشروع بمجرد تطويق القصر في اعتقال كافة الحاضرين، مع الاستعانة بمكبرات الصوت لدعوة الجميع إلى رفع الأيدي عاليا والاستسلام بدون قيد أو شرط.


- مباشرة عملية فرز الأشخاص المعتقلين ، لتقسيمهم إلى ثلاثة مجموعات:


أ‌- المجموعة الأولى (والتي ينبغي إعدامها فور الاتفاق في عين المكان بين المذبوح واعبابو) وتتألف من: - الملك الحسن الثاني – ولي العهد – الأمير مولاي عبد الله – الجنرال الغرباوي – الكولونيل أحمد الدليمي – إدريس السلاوي مدير الديوان الملكي – الجنرال البوهالي الماجور العام للقوات المسلحة الملكية.


ب‌- المجموعة الثانية: وتتألف من جميع أعضاء الحكومة والجنرالات الحاضرين، وهؤلاء يتم سوقهم إلى هيئة الأركان العامة بالرباط لتحديد مصيرهم لاحقا.. واحدا.. واحدا.


ج - المجموعة الثالثة: وتتألف من باقي المدعوين، مغاربة وأجانب، والذين سيجري الإفراج عنهم بعد تنفيذ ما سبق ذكره.
.. وهكذا ما كاد أن يتقابل الرجلان – المذبوح واعبابو – حتى بدأ هذا الأخير يصرخ عاليا: وَافَايْن هُوّا (...) وسير خرّجُو لعندي.. وأنا راه غادي نبيع جلدي غالي.. إلخ (علامة على تدهور عنصر الثقة بين الرجلين)!


وبينما كان المذبوح، يذهب ويجيء بين مكان وجود الملك واعبابو، عسى أن يحل الإشكال بطريقة أو بأخرى، كان عبابو يزداد هياجا، وسط إطلاق الرصاص والرمانات اليدوية لمجموعاته، وكان يصيح:


- اقتلوا الخونة.. اقتلوا الخونة.. وعاش الملك!!؟
في هذه الأثناء، رفض الملك الخروج وطالب المذبوح بإحضار عبابو أمامه لاستفساره عما يطلب، كما رفض اعبابو التوجه لمقابلة الملك بدون رجاله وفيهم مساعده العملاق عقا.. وبينما كان الدكتور بنيعيش – الطبيب الخاص للملك – يقوم بإحضار رشاشة حربية للملك من غرف النوم، وكانت قد أهديت له قبل ذلك من طرف إحدى الشخصيات الأجنبية، شك اعبابو في الأمر وطالب بنيعيش بتسليم السلاح فورا، غير أن بنيعيش كان قد دخل في حوار مع الجنرال المذبوح، وهنا جاءت صلية من الرصاص (Rafale) على يد أحد التلاميذ ـ الضباط في اتجاه كل من المذبوح وبنيعيش ليسقطا معا.. أمام أنظار اعبابو والقبطان الشلاط والمساعد الأول عقا، وهنا توجه اعبابو نحو جثة المذبوح معلقا بالفرنسية:


Oh, Mon oncle, C es dommage pour vous, général Medboh))، ويضيف المقدم محمد عبابو في محضر استنطاقه بعد اعتقاله: (... ولقد علمت من خلال ضابط الصف الذي هرب معي بأن المذبوح مات أمام أعين الجميع، ذلك أنه لحظة قيام امحمد اعبابو بإعطاء الأمر لأحد تلاميذه بإطلاق النار على الدكتور بنيعيش، كان هذا الأخير وقتها يتناقش مع المذبوح وهو ملتصق به.. فأصيبا معا برصاصات قاتلة).


وحيث أن القائد العام للعملية الانقلابية الجنرال المذبوح قد قتل منذ الساعة الأولى للانقلاب، اتجه اعبابو باحثا عن الكولونيل الشلواطي لتكليفه بقيادة الحركة الانقلابية من خلال إقناع باقي الجنرالات بالانضمام إليها.. وهو ما سيباشره فعلا لدى التحاقه بالقيادة العامة للجيش.
غير أن طريقة التراشق بالنيران في القيادة العامة، ما بين الجنرال البوهالي والمقدم اعبابو كانت على شاكلة تراشق سراق المواشي (الكاوبوي) على الطريقة الأمريكية..، حيث أدى ذلك إلى مصرعهما في الحال ثم استسلام حوالي مائتين من تلامذة المدرسة، ليلا بالقرب من الإذاعة، وما أعقبه بعد ذلك من إطلاق النار عليهم بعد تسليم أسلحتهم، مما سيؤدي إلى مقتل حوالي 113 تلميذا فورا.. كل ذلك، أدخل الحركة الانقلابية في عنق الزجاجة كما يقولون وأغرقها في الدماء التي لا مبرر لها، إذ تكد تنتصف ليلة هذا اليوم الأغبر في تاريخ المغرب المعاصر، حتى كان باقي الانقلابيين الأحياء يبحثون عن التخلص من أسلحتهم وملابسهم العسكرية، بحثا عن ملاذ آمن بعد كل الذي شاهدوه من مناظر فظيعة، وما ينتظرهم من مصيرمظلم.

 

- في ضوء تجربتك السابقة، واحتكاكك المباشر بعدد من التجارب الانقلابية في المشرق العربي، كيف تنظر لأحداث 10 يوليوز 1971؟
+ في تقديري، ما حدث بالصخيرات ثم الرباط طوال يوم 10 يوليوز 1971 لا يمكن أن يرقى إلى مجرد مناورة عسكرية بسيطة من طرف أحد جيوش البلدان المتخلفة كجمهورية إفريقيا الوسطى أو النيجر على سبيل المثال.. أؤكد لكم أن ما حدث هنا لا يرقى لمجرد مناورة عسكرية بسيطة، نظرا لهمجيته، وبدائيته وتهوره وافتقاده إلى الحد الأدنى من التنظيم، بكلمة واحدة، هو عمل "رعاع" لا أقل ولا أكثر.


فكما هو معلوم، تميزت الفترة التاريخية من 1965 إلى 1975 بظهور عدد من الانقلابات العسكرية، سيما في أقطار أمريكا اللاتينية وإفريقيا، حيث الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكثر سوءا وتأزما.. كان ذلك هو الإطار العام لهذه الانقلابات.
لكن يجب التقرير هنا بأن بعض هذه الحركات الانقلابية كان ذا طابع تقدمي، باعتبار ما حصلت عليه من دعم جماهيري عريض آنذاك.. بينما كان بعضها الآخر – وهو الأغلب – ذا طابع (أوليغارشي) عسكري ضيق، لا يروم في الحقيقة سوى الاستيلاء على السلطة بحد ذاتها.. بمنافعها..وامتيازاتها.. ولم تكن السلطة عند (ثوارها) أداة محورية لمباشرة التحولات العامة التي كان يستدعيها بإلحاح تصحيح أوضاع هذه الأقطار.


فأن تلجأ حفنة من الأشخاص لا تتعدى أصابع اليد الواحدة إلى التآمر، في بلد كالمغرب، حيث النسيج السياسي والنقابي والتربوي أكثر متانة بالقياس مع كل الأقطار الإفريقية والعربية المجاورة، أن تلجأ هذه الحفنة إلى استخدام أكثر من (1400) جندي وضابط دون مصارحتهم مطلقا بطبيعة (المهمة) ولا أن يتم تأطيرهم جيدا لتنفيذها، ولا أن يضبطوا بينهم المهام تفاديا للالتباس والخلط وسوء النية.. إلخ.. أن يجري كل ذلك، بهذه الدرجة من التهور والشراسة والجهل والرعونة، لهو عمل في منتهى الحماقة والوحشية!


فحتى ساعة وصول القوات المهاجمة إلى بلدة (بوقنادل) كانت المهمة الرئيسية المحددة في أذهان الجميع هي المشاركة في مناورة بالذخيرة الحية في منطقة ابن سليمان، هذه المهمة التي كان من المفروض أن يقوم بها أحد أفضل ألوية القوات المسلحة، ولكن المقدم اعبابو (كما أكد لتلامذته وضباطه في الجمع العام التحضيري ليلة 9/07/ 1971) استطاع أن يقنع القيادة العليا للجيش بأن مدرسته تستطيع أن تقوم بذلك على نفس الدرجة من القوة والاقتدار والنجاح.. كما صرح بذلك وأكد.


وعندما توقفت القوات المهاجمة في بوقنادل لاستجماع القوى، وتحديد المهام على أيدي من أسماهم المقدم اعبابو بالقيادة الميدانية (المتقدمة)، تأكد في ما بعد بأن هؤلاء الضباط الذين أحضرهم إلى بوقنادل بلباس مدني، إنما أحضرهم لمعاينة ضيعة فلاحية يعتزم شراءها هناك! وأن يطلب نصيحتهم.. على أن يتجهوا بعد ذلك لحضور حفلات القصر الملكي بالصخيرات!!


خلال هذا اللقاء، سينقل المقدم اعبابو خطابه إلى السرعة القصوى في مخاطبة ضيوفه وضباط مجموعاته المسلحة، إذ لأول مرة سيستعمل عبارات جديدة ذات علاقة بالشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لم تكن لتجري على لسانه قبل ذلك على الاطلاق.
لقد "تحايل" على الجميع، ليجمعهم هنا في بوقنادل وهو يخطب فيهم خطبة أشبه بخطبة طارق بن زياد، وبين أيديهم قوة نار هائلة مع خواء فكري فظيع وارتباك وفوضى قياسيين.

 

- ماذا قال اعبابو في بوقنادل؟
+ قال : (.. لقد جرى اختياركم من طرف القيادة العليا للجيش للمشاركة في مهمة خطيرة، وقد وقع عليكم الاختيار لأنكم بالفعل تستحقونه، إنكم تعلمون جميعا الوضعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية لبلادكم.. يجب إنقاذ هذه البلاد.. لقد آن الوقت لذلك.. يتوجب علينا جميعا الهجوم على قصر الصخيرات هذا اليوم ما بين الساعة 13 و 14 .. وستشارك قوات عسكرية أخرى في تنفيذ هذه المهمة!! وبالتالي نحن لسنا لوحدنا!! ولن نكون كذلك... إن هناك عناصر متمردة تهدد سلامة صاحب الجلالة ويتوجب علينا القضاء عليها بدون تردد...).


ثم أمسك بقضيب خشبي ليرسم أمام الضباط المتحلقين حوله مخططا عاما للمعركة المقبلة، محددا بدقة بنايتين رئيسيتين داخل القصر، رسم بينهما خطوطا حربية معروفة لدى العسكريين، مؤكدا أن المعركة قد بدأت وعلى الجميع الالتحاق بوحداتهم ورفع أغطية الشاحنات وتلقيم الأسلحة بمختلف عياراتها والتحرك منذ تلك اللحظة على أساس أن القوات أصبحت ضمن وسط معاد يتوجب اتخاذ أقصى الاحتياطات تجاهه، وبالتالي فإن إطلاق النار ستصبح عملية تلقائية منذ تلك اللحظة، لا تحتاج إلى تذكير أو تجديد الأوامر..
أما بخصوص الضباط (بلباس مدني) الذين أحضرهم عبابو لبوقنادل، فقد فعل ذلك تبعا لتعليمات الجنرال المدبوح، حتى يشجع أكثر تلامذة أهرمومو وضباطهم، فقد كان هؤلاء (الضيوف) يمثلون مختلف قطاعات الجيش، وبالتالي فإن إحضارهم كان بمثابة عملية ذات مغزى كبير. وهؤلاء الضباط هم المقدم القادري والكوماندان المالطي والكوماندان المنور والكوماندان بريكي والكوماندان رياني (صهر المذبوح) والكوماندان حريشي والكوماندان ميلس.


ومما تقدم، أستطيع التأكيد لكم بأن ما حدث لا يخرج عن نطاق حركة (الرعاع) التي لا يجمعها جامع، غير الرباط الحديدي الذي ربى عليه المقدم امحمد عبابو تلامذته وضباطه على حد سواء، والذي وصل حد الطاعة العمياء، فتحول الأمر خلال ساعات قلائل إلى إعصار مدمر، فتك بأرواح أكثر من مائتين وخمسين شخصا وتسبب في جرح وإصابة المئات وإلحاق أفدح الأضرار بالممتلكات الخصوصية والعمومية.


فما كنت أظن أن الجنرال محمد المذبوح ستصل به السذاجة السياسية والتهور العسكري إلى هذا الحد، ومهما حصل فقد كان المسؤول الأول والأخير عن كل هذه المأساة، وكان من قبيل المستحيلات أن تمر هذه القوة الكبرى عبر تراب عدة أقاليم، بسلاحها الكامل وذخيرتها ووقودها وتغذيتها دون موافقته الشخصية، باعتباره رئيسا للديوان العسكري لصاحب الجلالة، وسيكتب له أن يكون من أول ضحايا هذا التهور لتبقى جثته ثلاثة أيام في عز الصيف بدون دفن قبل القيام بإحراقها، ثم ليحرم من مجرد قبر كباقي المسلمين.

 

- وماذا عن الموقف الليبي الرسمي من هذه الأحداث؟
+ لقد جاءت هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة لتؤكد طبيعة التوجه السياسي العام لنظام العقيد القدافي، والذي كثيرا ما أبلغ قادتنا في التنظيم السري للاتحاد الوطني للقوات الشعبية منذ انقلابه الشهير في فاتح سبتمبر 1969، بأنه لا يثق مطلقا في قدرة الحركة التقدمية المغربية على إسقاط النظام الملكي وإبداله بنظام جمهوري على الطريقة الناصرية، وكان ينصح قادتنا بالاعتماد على قوات الجيش النظامي المغربي إذا هم أرادوا الحصول على نتائج طيبة.


والغريب أن نظام العقيد القدافي حتى بعد أن صار يدعمنا، بتخصيص برنامج إذاعي دائم، كان عبد الرحمان اليوسفي يكتب افتتاحياته بانتظام، وحتى بعد أن فتح في وجوهنا معسكرات التدريب على السلاح وبعد أن أصبح يقدم لقادتنا الأموال والأسلحة، كان دائما ينصحهم بالتعاون مع الجيش المغربي في الداخل مهما كانت عقليته وتركيبته وميوله، إن هم أرادوا نتائج إيجابية!


فمنذ الساعات الأولى للمحاولة الانقلابية الفاشلة لـ 10 يوليوز 1971 انطلقت الإذاعة الليبية في بث بلاغات التهنئة والتبريك، بل لقد أجرى العقيد القدافي - حسب ما نشرته وثائق الخارجية الأمريكية والبريطانية مؤخرا، وحسب ما ذكره الملك الحسن الثاني نفسه في كتابه (ذاكرة ملك)، أجرى القدافي اتصالا هاتفيا بالرئيس الجزائري هواري بومدين طالبا السماح لقواته الجوية والبرية باستعمال الأراضي والأجواء الجزائرية للمرور إلى المغرب لدعم الانقلابيين.. وهكذا أرسل ضابط المخابرات الليبية الرائد عوض علي حمزة، إلى الجزائر على جناح السرعة، لمتابعة تنسيق هذه العمليات، غير أن الرفض القاطع للهواري بومدين أفشل مسعى إرسال حوالي (12) ألف جندي ليبي إلى المغرب لدعم الانقلاب.


ورغم إعلان فشل الانقلاب ظلت الإذاعة الليبية تواصل بث بلاغاتها الداعمة للانقلابين، بينما
المغرب الرسمي من جهته رد بتطويق مقر السفارة الليبية في الرباط ثم وضع كافة العاملين بها في الإقامة الإجبارية، واضطر في وقت لاحق إلى قطع كل الاتصالات الهاتفية عن السفارة.


وهذا ما كشفته وثائق الخارجية البريطانية المنشورة حديثا، بعد مرور أمد التقادم القانوني ضمن الملف رقم (FCO 39 - 884)، والذي تضمن الكثير من الوثائق الدامغة في هذا الاتجاه.

وسيقترح الجنرال محمد أوفقير من موقعه الجديد كوزير للدفاع، بعد إخماد فتنة الصخيرات، على الملك الحسن الثاني في أكادير، فكرة القيام بإسقاط طائرة العقيد القدافي انتقاما من تورطه في دعم الانقلابيين لصيف 1971.. وسيتذكر الملك هذا الاقتراح باستغراب شديد.. مباشرة بعد تورط الجنرال أوفقير في محاولة إسقاط طائرته مساء يوم 16 غشت 1972!!؟

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات