المسرح والدعوة إلى التجديد(4) :
تجديد النقد المسرحي :
لكل مدرسة نقدية في مجال المسرح ظروفها الخاصة التاريخية والعملية التي تفرض على المسرحيين ممارستها بحيث يندمج العمل النقدي في هذه الممارسة بالحاجة العملية فتصبح وجها أولياً من أوجه العلاقة بين النقد المسرحي وبين مختلف الفاعلين في العمل المسرحي. ولقد استفاد النقد المسرحي في تطوير مناهجه من المنهجيات الحديثة في العلوم الإنسانية خاصة منها البنيوية والسيميائية والألسنية والتفكيكية، وأصبح أكثر تخصصاً من ذي قبل متجاوزاً المناهج الانطباعية والنفسية والاجتماعية والتاريخية، فإن ذلك قد انعكس بشكل كبير على مجمل التصورات لفن المسرح .
إن الكثير من الآراء المسرحية في عالمنا العربي مازالت عاجزة عن إيصال صوتها والتأثير في المبدع المسرحي والمهتم بشأنه. وإن أغلب هؤلاء مازال يرى على أن كل القراءات النقدية والآراء الفكرية التي تؤسس للعمل المسرحي مجرد أفكار لا تغير من قناعاتهم حول المسرح وكيفية التعاطي معه .
ولذلك نرى أن كل الاجتهادات والآراء النقدية التي تعرض للإبداع المسرحي وتنقد المسرحيات المعروضة على خشبة المسرح أو المنشورة في كتب تواجه بلامبالاة ظاهرة للعيان. وهذه الحقيقة لاتمنعنا من القول بأن الأغلبية من مبدعينا المسرحيين صاروا قاصرين معرفيا عن استيعاب الفكر النقدي والعرض النظري الذي يهم المسرح، وبالتالي يمكننا الحديث عن جهل متعمد لأدوات العمل المسرحي بصفة عامة .
إن الهروب إلى الأمام الذي يمارسه المسرحيون اليوم يعني أنهم أصبحوا عاجزين عن متابعة الجديد في مجال النقد المسرحي وعن فهم مغزاه وتجلياته. فلا يعقل أن نجد المسرحيٌ لا يهتم بما يكتب عن مسرحيته، فيتمادى في إبداع نفس النص رغم التحذير الذي يتعرض له من طرف النقاد سواء في الأسلوب أو في الحوار أو في الموضوع... وهذا ما يقود إلى الاستمرار في إنتاج الرداءة المسرحية وخلق الفوضى في مجال المسرح التي تجذب المتطفلين إليه. فالنقد المسرحي والعرض النقدي للعمل المسرحي يشكلان علامة أساسية وضرورية في النهوض بالمسرح وتطويره. ولذلك يجب على كل المهتمين بالمسرح من مبدعين ومخرجين ومنتجين أن يهتموا بهذا الأمر، ويعودوا كلما لزم الأمر إلى ما جدٌ في عالم النقد المسرحي ليستفيدوا منه قبل إنتاج أي مسرحية جديدة .
إن النقد المسرحي بكل تجلياته هو أسلوب جديد للتعاطي مع المسرح إبداعيا وإنتاجا، وهو موقف إيجابي يحاول وضع سكة المسرح على الطريق الصحيح، وإبعاده عن الحدود الوهمية التي وضعها له العديد من الكتاب المتطفلين على المسرح لأنهم يهدفون إلى تدميره لا إلى تطويره وخدمة الإبداع عامة. فالإبداع المسرحي يحتاج إلى رؤية نقدية تنور له الطريق لا إلى تقزيم وسلطة فكرية وإبداعية تمارس عليه الخطر وتحدد له حدودا غير شرعية في عرف الإبداع عموما. فتجديد المسرح لابد أن يمر عبر قراءة نقدية جديدة تطور من أسلوبها ومن أدواتها النقدية مستغلة كل الأفكار الجديدة والتقنيات الحديثة والأساليب الإبداعية الجديدة أيضا. وهذا لن يتأتى إلا بأقلام نقاد كبار وكتاب مجددين ومبدعين غير مشبوعين يهدفون إلى تدمير المسرح وجعله مجرد قضية تافهة في عصرنا الحالي. وفي الإطار نفسه يقول عبدالكريم برشيد: "إن كل الكتابات التي تنطلق من حسابات ظرفية وضيقة لابد أن تنتهي إلى الباب المسدود، وأن كل الكتابات الموسمية لايمكن أن تعمر طويلا، وبذلك اختفت اليوم أقلام كثيرة..."، فعبدالكريم برشيد هنا قد لخص القضية ككل في هذه الكلمات القليلة لأن أغلب النقاد والكتاب الذين نظروا للمسرح بمختلف أجناسه قد تراجعوا في النهاية واستكانوا وأفل نجمهم وهذا يدل على أن كتاباتهم تلك كانت تعاني من الصدقية والاستمرارية والتأثير .
فالنقد الحقيقي هو الذي ينبني على قوة الإقناع بالرأي لا البحث عن أمور تافهة للركوب عليها ومناقشتها بعيدا عن الجوهر في العمل المسرحي. وهذا ما ينبغي الإشارة إليه عند كل عمل نقدي يعرض لأبداع مسرحي ما .
ومن هنا يكون الدخول إلى النص هو مسعى لقلب السحر على الساحر لأنه كشف للحقيقة، وهذه هي إشكالية النقد المسرحي الذي لا يكشف فقط ولكنه يغطي أيضا. إنه يسعى إلى مداهمة النص وقلب موازينه، ومن ثم البحث عن ما يخفيه النص من خلال ما يغيبه ويطمسه. فالقراءة النقدية للنص المسرحي هي عمل مضاد لفعل الكتابة. إذ إن ما تغيبه هذه تكشفه تلك، وكل ما يكشفه النقد يلغيه النص. إنها مسعى حثيث ودائب لقتل أفكار الكاتب الجاهزة ودعاويه وادعاءاته في نصه المسرحي...
عزيز العرباوي
كاتب وباحث
التعليقات (0)