يحتل المسجد الأقصى مكانة سامية في قلوب المسلمين أينما كانوا، فهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وأحد الأماكن الثلاثة التي تشدّ اليها الرحال، والصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة، وفي أكنافه ترابط الطائفة المنصورة كما ورد في الأحاديث الشريفة، وارتبط بالمسجد الحرام ارتباطا وثيقا في رحلة الإسراء العظيمة التي أشار اليها القران الكريم بقوله: [ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ الى المَسجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير ] الإسراء/ 1.
لقد وضع الله جلّ وعلى بهذه الآية الكريمة وهذه الوثيقة الربانية مسؤولية رعاية هذا المسجد وحمايته في أعناق المسلمين واستأمنهم عليه، لأنهم هم وحدهم ورثة رسالات الأنبياء ويؤمنون بجميع أنبياء الله ورسله وكتبه ولا يفرقون بين أحد منهم، وصارت هذه الوثيقة آية تتلى آناء الليل وأطراف النهار في أرجاء المعمورة مذكّرة المسلمين بمسؤوليتهم العظيمة تجاه الأقصى وما حوله ومحذّرة إياهم من نسيان هذه المسؤولية.
فلا عجب أن يعيش الأقصى في شعور وضمير المسلم أينما حلّ ونزل، ولا عجب أن تكون مشكلة فلسطين ذاتها قضية كل مسلم على وجه الأرض عربيا كان أو غير عربي، ومهما حاولت قوى التآمر العالمية اختزالها وتحويلها من قضية اسلامية كبرى الى قضية عربية أو قضية إقليمية أو مجرد قضية للفلسطينيين وحدهم، فإن المسجد الأقصى سيبقى هو الرباط الذي يربط المسلمين أينما كانوا بهذه الأرض المباركة.
وقد جاء افتتاح ما يسمى بكنيس الخراب قبل فترة بالقرب من المسجد الأقصى وبما يحمله من دلالات تمهد لبناء هيكل اليهود المزعوم، ليعيد الأقصى الى ذاكرة المسلم والى واجهة الأحداث، وليؤكد من جديد النية المبيّتة لهذا الكيان الغاصب على هدم هذا الموقع المبارك وبناء (الهيكل الثالث) على أنقاضه، وليدخل الاعتداء الجديد ضمن سلسلة الاعتداءات الاسرائيلية المتواصلة على المسجد الأقصى منذ احتلاله في عام 1967 حيث بدأت الحفريات والأنفاق بحجة البحث عن آثار هيكل سليمان المزعوم.
ولعل محاولات الاعتداء والتخطيط لعمليات الحفر بدأت قبل ذلك التاريخ بكثير، لأن التخطيط لاغتصاب الحرم بدأ مع دعم بريطانيا الاستعمارية للحركة الصهيونية حال قيامها أواخر القرن التاسع عشر، وقد تولى "باركر" البريطاني عام 1911 رئاسة بعثة بريطانية لإجراء حفريات في منطقة الحرم، وفلسطين لا تزال جزءا من الدولة العثمانية، ولكن عمليات البعثة أخفقت نتيجة رد الفعل المحلي الفلسطيني، وإثارة القضية في مجلس المبعوث العثماني(1).
أما الآن والأقصى أسير بين أيديهم، وقادة العرب صامتون، ومنظمة اليونسكو تقف مكتوفة الأيدي لا حول لها ولا قوة ولا تستطيع الاعتراض كما اعترضت على هدم تماثيل بوذا، والقوة العظمى في العالم تقف خلفهم، بل ويبارك قادتها أي خطوة باتجاه هدم الأقصى وبناء الهيكل اعتمادا على عقيدتهم الفاسدة المستمدة من نبوءاتهم الدينية الزائفة الممهّدة لعودة المسيح ووقوع معركة (هرمجدّون)، فكيف لا يحاول الصهاينة فعل كل ما من شأنه التعجيل بهدم الأقصى؟ متبعين في ذلك سياسة الخطوة خطوة والنفس الطويل، فهم لا يقبلون على الخطوة التالية حتى يقوموا بقياس ردود الأفعال تجاه الخطوة التي سبقتها، فإن رأوا أن ردود الأفعال قوية يتوقفون حتى تهدأ الأمور ويخططون للخطوة المقبلة في صمت وهدوء، أما إذا رأوا أن ردود الأفعال هزيلة فإنهم يمضون في مخططاتهم حتى تحقيق أهدافهم الشيطانية.
يقال أن رئيسة وزراء اسرائيل السابقة غولدا مائير سئلت: ما أصعب يوم مرّ عليك؟ فقالت: يوم إحراق المسجد الأقصى. فسئلت: وما أسهل يوم مرّ عليك؟ فقالت: اليوم الذي بعده.. ففيما يبدو انها توقعت أن تقوم قيامة الدول العربية عند حريق المسجد الأقصى عام 1969 ويتم تجييش الجيوش وفتح باب الجهاد أمام المتطوعين! ولكنها لم تر شيئا من ذلك في اليوم التالي فكان أسهل يوم عليها. فردود الأفعال الضعيفة تدفع الصهاينة الى الاستمرار في اعتداءاتهم.
وقد أطلق العديد من المهتمين بشؤون الأقصى صيحات الإنذار من الخطر المحدق بهذا الموقع المبارك ويعتبرون أن هدمه هو مجرد مسألة وقت بسبب الأنفاق العديدة التي حفرتها قوات الاحتلال تحت أساساته، ولكن هذه الصيحات يبدو أنها صيحة في واد ونفخة في رماد ولم تجد آذانا صاغية حتى الان.
فما هي الأسباب التي تدفع الصهاينة الى اغتصاب الأقصى؟ وهل لهم حق تاريخي في هذا الموقع المقدّس؟ وما هي قصة هيكل سليمان؟ وهل المسجد الأقصى أقيم في مكان الهيكل فعلا؟..
هذه التساؤلات والإجابة عليها وعلى غيرها ستكون محور هذه السطور، ولعل الإجابة عليها تعطينا صورة الحقيقة التاريخية التي هي غائبة عن الكثيرين فيما يتعلق بهذه المسألة..
القدس في التاريخ
قبل أن نتحدث عن المسجد الأقصى وعن هيكل اليهود المزعوم لا بد من الحديث أولا عن مدينة القدس ذاتها ومؤسسيها أول مرة وسكانها الأوائل والمراحل التاريخية التي مرت بها..
لا شك أنه لم تحظ مدينة في العالم قديما وحديثا بالمكانة والأهمية التي حظيت بها القدس، فهي بالإضافة الى موقعها الجغرافي المتميز الذي يمثل حلقة الوصل والتواصل بين ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وأفريقيا وهي قارات العالم القديمة، تمثل فوق ذلك مهبط الوحي الإلهي ومهد الرسالات السماوية وأرض الأنبياء، وهي المدينة المقدسة لدى أتباع الديانات السماوية الثلاث.
فلا عجب بعد ذلك أن تكون المدينة محط أنظار القوى العالمية في مختلف العصور. ونتيجة لذلك تعاقبت عليها الحضارات والدول والأمم، وتم تدميرها وإعادة بنائها ثماني عشرة مرة في التاريخ!، ومع هذا فقد بقيت المدينة المقدسة صلبة قوية وقاومت عوادي الزمن حتى وصل بها الحال الى هذا اليوم الذي أصبحت فيه أسيرة بيد أشرّ خلق الله وهم اليهود الصهاينة.
هذا وبالغور في أعماق التاريخ يتبين لنا أن مدينة القدس بناها اليبوسيون كما اتفق على ذلك جميع المؤرخين من غير اليهود، واليبوسيون هم فرع من الكنعانيين، وقد جاء هؤلاء مع القبائل الكنعانية الأخرى من الجزيرة العربية واستقروا في أنحاء فلسطين، ومن المعلوم تاريخيا أن الكنعانيين هم عرب أقحاح هاجروا من الجزيرة العربية تحت وطأة الجوع والجفاف وعوامل أخرى. يقول المؤرخ بريستيد: "إن الكنعانيين من القبائل العربية التي استوطنت فلسطين منذ عام 2500 ق.م"(2).
والكنعانيون كانوا يتألفون من عدة قبائل استوطنت كل واحدة منها في منطقة من مناطق فلسطين، وكان نصيب اليبوسيين المناطق التي بنوا عليها فيما بعد مدينة القدس.
وقد حدثت تلك الهجرات في الفترة الواقعة بين عامي (3000 ق.م) و(2500 ق.م) حسب اختلاف أقوال المؤرخين، وهناك آراء تشير الى أن الهجرة حدثت حوالي عام (4000 ق.م) وبالتالي فإن مدينة القدس بنيت في تلك الفترة(3).
وحينما هاجر إليها ابراهيم (عليه السلام) حوالي القرن السابع عشر قبل الميلاد كان يحكمها ملك يبوسي موحّد هو (ملكي صادق) الذي تصفه التوراة بأنه كاهن لله العلي، واستقر ابراهيم فيها ومن بعده ذريته الذين شاركوا اليبوسيين سكنى المدينة مع بقاء السلطة الفعلية في أيدي اليبوسيين، ولذلك كانت تسمى (يبوس) أو (مدينة اليبوسيين)، وقد حاولت قبيلة يهوذا - وهي سبط من الأسباط الإثني عشر لبني اسرائيل - طرد اليبوسيين من المدينة دون أن يتمكنوا من ذلك، وتقول التوراة عن ذلك في سفر يشوع: (وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم الى هذا اليوم).
وظلت القدس في أيدي اليبوسيين حتى عهد داود (عليه السلام) الذي استطاع أن يتغلب عليهم ويدخل المدينة حوالي عام (1000 ق.م) منتصرا بعد قتله لجالوت، وآتاه الله تعالى الملك والحكمة فأصبح ملكا على بني اسرائيل، ومع هذا ظل اليبوسيون يسكنون المدينة الى جانب بني اسرائيل، حتى ان الموقع الذي بنى فيه سليمان (عليه السلام) المسجد الأقصى - لا الهيكل كما يزعم اليهود - كان ملكا لفلاح فلسطيني يبوسي اسمه (آرونا) أو (أورنان) الذي جعله مربضا لماشيته، وقد اشتراه منه داود ودفع له ثمنه(4).
وبعد وفاة سليمان انقسمت مملكته الى قسمين (يهوذا) و(اسرائيل)، ثم تعاقب على حكم القدس البابليون والفرس واليونان والرومان وحدثت فيها حروب ومنازعات كثيرة بين هذه الإمبراطوريات الى أن فتحها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، واستمر الحكم الاسلامي للمدينة – باستثناء فترة الاحتلال الصليبي - الى أن احتلها الصهاينة عام 1967.
فالقدس إذن كانت مدينة عربية بنيت بأيدي العرب المهاجرين إليها، وكان سكانها الأوائل من العرب الذين بنوا في هذه المناطق حضارة عريقة هي الحضارة الكنعانية، ولم ينقطع الوجود العربي عن المدينة في جميع العصور التاريخية التي مرت بها حتى بعد أن دخلها بنو اسرائيل.
ولا شك أن هذه الحقائق التاريخية هي مما تزعج اليهود وتربك حساباتهم ويحاولون التهرب منها كونها لا تخدم مزاعمهم في أحقية ملكيتهم للأرض التي احتلوها وبنوا عليها كيانهم الغاصب، فالتاريخ إذن يدحض مزاعم اليهود ويسلب منهم كل حجة يتمسكون بها ويتخذونها ذريعة للإحتلال.
وحتى علم الآثار يهدم الأساطير والادعاءات التي يروجها اليهود والتي تظهر القدس على أنها كانت مدينة مزدهرة في عهودهم في العصر الحديدي (1150 – 586 ق.م)، وتبين اكتشافات علم الآثار زيف ادعاءات التوراة حول ذلك، تقول عالمة الآثار الهولندية (مارغريت شتاينر) في كتابها (القدس في العصر الحديدي) الذي جمعت فيه محصلة اكتشافاتها الأثرية: (في أثناء الحفريات الكثيرة التي جرت في القدس وحولها، لم يعُثر على أي أثر لمدينة محصنة: لا أسوار كبيرة ولا بيوت ولا حتى أي قطع من أوان فخارية سائبة.. يبدو أنه لا يمكنني إلا الاستنتاج أنه لم تقم أي "مدينة" في القدس في أثناء فترة (رسائل العمارنة)(5). ومن الناحية الأثرية، لم تكن القدس، ببساطة، مأهولة في أثناء العصر البرونزي المتأخر(6). يبدو لي هذا واحدًا من الأمثلة الكثيرة التي يبدو فيها أن النصوص التوراتية وعلم الآثار يناقض واحدهما الآخر)(7).
وبعد التنقيبات العديدة التي أجريت في القدس فإنها فشلت في تزويد دليل هام على أن المدينة كانت آهلة بالسكان في القرن العاشر قبل الميلاد، هناك فقدان لأي بناء معماري تذكاري، وأكثر التقييمات تفاؤلا لهذا الفقدان لأي دليل عن آثار تعود للقرن العاشر هو أن أورشليم (القدس) لم تكن في تلك الفترة أكثر من مجرد قرية مرتفعات نمطية صغيرة(8).
وأيا تكن النتائج التي توصل إليها علم الأثار وبغض النظر عن مدى صحتها، فإن اليهود وإن كانوا في فترة من الفترات يسكنون القدس فإن ذلك لا يعطيهم أي حق تاريخي في فلسطين والقدس، لأن هذه الأرض سكنها أقوام آخرون قبلهم بعشرات القرون، وإن كانوا يتمسكون بالوعد الإلهي لإبراهيم (عليه السلام) بأن يعطي هذه الأرض لنسله ويجعلها إرثا لهم، فإن العرب هم أيضا من نسل ابراهيم عن طريق ابنه اسماعيل (عليه السلام)، فبأي منطق يكون العرب غير مشمولين بهذه الوراثة وتكون خاصة باليهود؟.
ثم لو افترضنا أنهم وحدهم مشمولون بهذا الوعد الإلهي، فهل يهود اليوم هم جميعا من نسل بني اسرائيل الذين سكنوا القدس؟ إن الدراسات الحديثة تقول ان أكثر من تسعين بالمئة من يهود اليوم لا يرجعون بنسبهم الى أسباط بني اسرائيل الإثني عشر وبالتالي ليسوا من الجنس السامي الذي يعتزون به ويفخرون به على الأقوام الأخرى ويستعملونه سلاحا لابتزاز الآخرين. إن معظم يهود اليوم هم امتداد لقبائل مغولية وتركية وسلافية كانت قد أسست مملكة في أواسط آسيا في القرن السابع الميلادي فيما عرف بمملكة الخزر التي اعتنق ملكها اليهودية فتبعه قومه في ذلك وأصبحوا يهودا بالديانة، وبعد سقوط مملكتهم تفرّق هؤلاء في مناطق أوروبا الشرقية ومنها هاجروا الى أمريكا والمناطق الأخرى. يقول المؤرخ الانجليزي آرثر كيستلر:"في أوائل القرن الثامن أُستقطب العالم بين قوتين عظيمتين تمثلان المسيحية والاسلام.. ومثلت امبراطورية الخزر قوة ثالثة حيث أثبتت انها تعادل أيا من القوتين العظيمتين سواء كانت خصما أم حليفا الا ان سبيلها الوحيد للاحتفاظ باستقلالها انحصر في ألا تتخذ المسيحية أو الاسلام دينا لها لأن اعتناقها احدى هاتين الديانتين كان معناه خضوعها بطريقة آلية إما لسلطان الامبراطور الروماني أو لسلطان خليفة بغداد"(9). ومن هنا وتجنبا للخضوع للخلافة العباسية أو الامبراطورية الرومانية، اعتنق الخزر اليهودية. يقول بنيامين فريدمان: "ان الحقائق المحققة التي لا تقبل الجدل ولا الاعتراض، تزودنا ببرهان لا شك فيه على صحة الحقيقة التاريخية بأن من يزعمون أنفسهم يهودا من ذوي الأرومة الاوروبية الشرقية في كل مكان من عالم اليوم، هم تاريخيا يتحدرون، على نحو لا يرقى اليه الشك ولا نزاع فيه، من سلالة الخزر.."(10).
وحسب فريدمان فإن أكثر مشاهير العالم وعلماء علم الانسان وعلماء الآثار وعلماء اللاهوت والمؤرخون والعلماء عامة يؤيدون الحقائق والأرقام التي تظهر ان ما لا يقل عن 92 بالمئة من جميع من يزعمون أنفسهم يهودا في العالم اليوم، يتحدرون من سلالة الخزر(11).
فكيف يدعي يهود اليوم ان لهم حقا في القدس وأرض فلسطين بصورة عامة؟!..
وأيا يكن فإن الوعد الإلهي بوراثة هذه الأرض كان مشروطا بمدى تمسك نسل ابراهيم بالأوامر الإلهية واتباعهم طريق الاسلام والايمان، فهذه الوراثة هي وراثة إيمانية وليست وراثة نسب، فالمسلمون إذن هم الموعودون بوراثة هذه الأرض المقدسة لأنهم وحدهم أتباع ابراهيم (عليه السلام) الحقيقيون، وابراهيم وجميع الأنبياء الآخرين كانوا مسلمين وجاؤوا بدين واحد هو الاسلام، والقران الكريم يخاطب أهل الكتاب بقوله: [ يا أهلَ الكتابِ لِمَ تُحاجُّونَ في إبراهيمَ ومَا أُنزِلَت التوراةُ والإنجيلُ إلاّ مِنْ بَعدِهِ أفَلا تَعْقِلُون، ها أَنتُمْ هؤلاء حاجَجْتُمْ فيما لَكُمْ بهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُم بِه عِلْمٌ واللهُ يَعْلَمُ وأنتُم لا تَعْلَمُون، ما كان إبراهيمُ يَهُودياً ولا نَصرانياً ولكن كان حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كان مِنَ المُشْرِكين، إنَّ أَولى النَّاسِ بإبراهيمَ للّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهذا النبيَّ والَّذين آمنُوا واللهُ وَلِيُّ المُتَّقِين ] آل عمران/ 65 – 68.
قصة الهيكل عند اليهود
يأخذ الحديث عن الهيكل مساحة كبيرة في تراث اليهود وأدبياتهم قديما وحديثا، فقد تمسك اليهود بالهيكل وأحاطوه بإطار واسع وهالة كبيرة من التقديس، وحصروا جل اهتمامهم به، ووضعوا حوله من نسج خيالهم قصصا وحكايات وأساطير كثيرة استمدوها من توراتهم المحرفة، ورأوا أن عليهم واجبا دينيا لا مناص من إنجازه وهو إعادة بناء هذا الهيكل في الموضع الذي يقوم عليه المسجد الأقصى.
ولما هدم الهيكل في سنة 70م ولم يستطع اليهود إعادة بنائه ابتدعوا جملة من الأساطير جعلوها عقائد وطقوس لهم، منها أنه لا بد من ذكر الهيكل المهدوم عند الميلاد والموت، وعند الزواج يحطّم أمام العروسين كوب فارغ لتذكيرهم بهدم الهيكل وقد ينثر بعض الرماد على جبهة العريس لتذكيره بهدم الهيكل. وجاء في الادب اليهودي أن اليهودي في الماضي كان اذا طلى بيته أمره الحاخامات ان يترك مربعا صغيرا في منزله دون طلاء ليتذكر واقعة هدم الهيكل. ويصوم اليهود اليوم في كل عام يوم التاسع من آب، اغسطس احتفالا بذكرى هدم الهيكل لأنه هدم في ذلك اليوم، وجاء في الأساطير اليهودية أن الحائط نفسه يذرف الدموع في هذا اليوم، ويزعم التلمود الكتاب المقدس عند اليهود أن الإله نفسه ينوح ويبكي وهو يقول تبًّا لي لقد سمحت بهدم بيتي وتشريد أولادي، ولهم صلاة خاصة في منتصف الليل حتى يعجّل الاله بإعادة بناء الهيكل(10).
ونظرا لأهمية الهيكل المزعوم عند اليهود تعتبر منطقة الحرم القدسي خطا أحمر حتى بالنسبة للسياسيين الإسرائيليين متدينين كانوا أو علمانيين في كل مفاوضات تجري بينهم وبين الفلسطينيين، ومما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي (إيهود باراك) للرئيس الفلسطيني الراحل (ياسر عرفات): "إن أي رئيس وزراء اسرائيلي لن يوقع وثيقة أو اتفاقا ينقل السيادة على جبل الهيكل - يقصد بيت المقدس - الى الفلسطينين او الى أي هيئة اسلامية"، وقال له ايضا: "ان هيكل سليمان يوجد تحت المسجدين - الاقصى وقبة الصخرة - ومن أجل ذلك لن تسمح اسرائيل بالتنازل عنهما عن السيادة للفلسطيينين".
والهيكل في العبرية "بيت همقداش"، أي بيت المقدس أو "هيخال" وهي تعني البيت الكبير في كثير من اللغات السامية، ويقصد به مسكن الإله.
وترجع قصة الهيكل عند اليهود إلى أزمنة قديمة، إذ كان بنو اسرائيل بعد خروجهم من مصر مع النبي موسى (عليه السلام) هربا من فرعون يحملون تابوت العهد الذي كان يحوي التوراة المكتوبة في الألواح والذي كان يوضع في خيمة الشهادة أو الاجتماع، ومع دخولهم الى القدس واستقرارهم فيها قدَّموا الضحايا والقرابين للآلهة في هيكل محلي أو مذبح متواضع مبني على تلّ عال.
أما عن قصة بناء الهيكل المزعوم فقد جاء في التوراة أن داود كان يريد أن يبني هيكلا للرب في أورشليم، لكن الرب أبلغه عن طريق النبي (ناتان) بأن يترك هذا العمل لإبنه سليمان لأنه سفك دماءا كثيرة في حروبه، فأخبر داود سليمان برغبته تلك وأمر الرب له بأن يترك هذا الأمر لولده.
ومع أن داود لم يقم بالبناء إلا أنه أراد قبل موته أن يسجل معاونته الفعالة لإبنه في إقامة الهيكل، فأخذ يجهز المواد اللازمة للبناء، وكان اليهود في عصره ما يزالون في بداوة بدائية يندر فيهم من يعرف أصول حرفة أو صناعة أو علم من علوم الدنيا، فكان الاعتماد على الفنيين الأجانب هو الحل الوحيد الممكن أمام داود وسليمان حتى يرتفع هيكل الرب(10).
وتمضي التوراة في رواية قصة البناء وتهييئة آلاف الكيلوغرامات من الذهب والفضة والنحاس، وآلاف الأطنان من الحجارة والأخشاب، وعشرات الآلاف من العمال والمهندسين والصناعيين، واستمرت عمليات البناء سبع سنين في الفترة ما بين (960 - 953 ق.م).
وبقي هذا الهيكل حتى سنة (586 ق.م) حيث هدمه (نبوخذ نصر) البابلي فمحا أثره محوا تاما وسبى اليهود الى بابل فيما عرف بالسبي البابلي الثاني، وبقوا هناك سبعين سنة الى أن نجح الامبراطور الفارسي (كورش) في احتلال العراق وإسقاط الدولة البابلية، وسمح بالتالي لليهود أن يعودوا الى فلسطين. وبعد العودة قام اليهود بإعادة بناء الهيكل بصورة أقل فخامة، ولعل ذلك من فرط إعجابهم الخيالي بهيكل سليمان فقط(11).
وبعد ذلك توالى على حكم فلسطين اليونان بقيادة الإسكندر المقدوني والسلوقيون بقيادة ملك سوريا (أنطيوخوس) ثم زحف عليها الرومان بقيادة القيصر (بومبي) سنة 66 أو 63 ق.م، ومن الحكام الرومانيين الذين حكموا القدس (هيرودس) الذي ولد عيسى (عليه السلام) في عهده، وقد قام هيرودس هذا بتعميرات للهيكل.
ونتيجة للمشاغبات والمشاكل التي كان اليهود يثيرونها - كما هو ديدنهم في كل وقت - للدولة الرومانية قرر الإمبراطور (فسبازيان) أن يقضي عليهم ويطردهم من فلسطين والقدس، فأرسل ابنه (تيتوس) على رأس جيش كبير والذي استولى على القدس وخرّب الهيكل الثاني تماما سنة (70م) وطرد اليهود منها.
وبقيت القدس في أيدي الرومان حتى الفتح الاسلامي لها عندما حاصرتها جيوش خالد بن الوليد (رضي الله عنه) وطلب أهلها أن يأتي الخليفة بنفسه ليتسلم مفاتيح المدينة، فدخلها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سنة 637م.
بعد طرد اليهود من فلسطين على أيدي الرومان بدأت مرحلة الشتات (الدياسبورا) لهؤلاء والتي استمرت حتى عام 1948 حين تمكن الصهاينة بمعاونة الإمبريالية العالمية من إقامة دولتهم الغاصبة على أرض فلسطين، ومع هذا فقد بقيت القدس بجزئها الشرقي الذي يضم المسجد الأقصى في أيدي المسلمين حيث كانت تحت سيطرة الجيش الأردني حتى هزيمة 1967 حين استطاعت اسرائيل أن تستولي على القدس الشرقية وتعلن عن خطة توحيد القدس بشقيها الغربي والشرقي لتبدأ من هذه النقطة الخطوات الاسرائيلية الفعلية الهادفة الى هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث المزعوم على أنقاضه.
هذه هي قصة الهيكل عند اليهود، وهذه هي الرؤية اليهودية الصهيونية للبناء الذي بناه سليمان (عليه السلام).. فما هي الرؤية الاسلامية لهذه القضية؟ وهل بنى سليمان هيكلا بالفعل؟ أم ان ما بناه هذا النبي الكريم هو المسجد الأقصى ذاته؟ وإذا كان قد بنى هيكلا كما يزعم اليهود فأين هي آثار هذا الهيكل؟ ولِمَ لم ينجح الصهاينة في العثور على أي دليل حتى الان لوجوده؟..
الهيكل بين الحقيقة والوهم
عرفنا مما سبق أن اليهود يزعمون ضمن سلسلة ادعاءاتهم الكاذبة ومبرراتهم الواهية لاحتلال فلسطين، أن سليمان (عليه السلام) بنى الهيكل في الموضع الذي يقوم عليه المسجد الأقصى وأن المسلمين هم المعتدون لأنهم بنوا المسجد على أنقاض الهيكل المهدّم، وعلى هذا الأساس يدّعون لأنفسهم الحق في هدم المسجد وبناء الهيكل المزعوم.
ولكن ما مدى صحة هذه الإدعاءات؟..
من الثابت تاريخيا أن سليمان (عليه السلام) قد بنى بناءا بالفعل على جبل المقدس واتخذه مكانا وبيتا لعبادة الله تعالى، فهذا مما لاشك فيه ولا يمكن إنكاره، ولكن هذا البناء لم يكن هيكلا على عادة الوثنيين، ولم يكن معبدا على طريقة الكنعانيين سكان فلسطين الأوائل والذين كانوا وثنيين حينها. بل ان البناء الذي بناه سليمان كان مغايرا لما كان موجودا آنذاك، لقد كان ذلك البناء هو نفسه المسجد الأقصى، وكان عمل سليمان في الحقيقة هو مجرد إعادة بناء لهذا البيت الذي كان قد بني واتُّخذ مكانا لعبادة الله الواحد قبله بآلاف السنين.
فمن المعلوم أن المسجد الأقصى هو ثاني مسجد بني في الأرض بعد المسجد الحرام كما ورد في الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري ومسلم عن الأعمش عن إبراهيم التميمي عن أبيه عن أبي ذر (رضي الله عنه) قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى، قال: قلت كم بينهما؟ قال: أربعون سنة فأينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد.
واستنادا الى هذا الحديث يتوقف تحديد شخصية أول من بنى المسجد الأقصى الى حد كبير على معرفة أول من بنى المسجد الحرام، لأن بينهما أربعين سنة وبالتالي قد يكون بانيهما هو شخص واحد، والى هذا يذهب معظم الباحثين.
وقد اختلفت الآراء في تحديد باني المسجدين، فقد قال البعض ان ابراهيم (عليه السلام) هو الذي بناهما لأن بنائه للمسجد الحرام قد ثبت في القران الكريم في قوله تعالى: [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] البقرة/ 127، ويعني ذلك أن بناء المسجد الأقصى قد تم في عهده فيكون هو أول من بناه. ويذهب البعض الآخر الى أن آدم (عليه السلام) هو الذي بنى المسجد الحرام وليس ابراهيم، لأن الآية تبين أن ابراهيم وابنه اسماعيل (عليهما السلام) كان عملهما رفع القواعد والأساسات فقط وذلك بالزيادة عليها في البناء، ويكون مفهوم الآية أن القواعد والأساسات كانت موجودة قبلهما، وهذه القواعد ترجع الى عهد سيدنا آدم فيكون هو الذي بنى المسجد الحرام وبنى بعده المسجد الأقصى بأربعين سنة.
ونظرا لأن الحديث السابق ذكره لم يحدد باني المسجدين ولم يحدد الفترة التي تم بنائهما فيها فإن كلا الرأيين يحتمل الصواب ويصعب ترجيح أحدهما على الآخر، وما يهمنا هنا هو أن المسجد الأقصى قد بني قبل سليمان (عليه السلام) إلا انه تهدّم بمرور الزمن، ولكن الموقع ظل مقدسا وكان يحوي الصخرة الشريفة التي كانت قبلة ومصلى لأنبياء الله تعالى وهي الصخرة نفسها التي عرج عليها خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وسلم) الى السماء في رحلة الإسراء والمعراج العظيمة.
فدور سليمان إذن كان إعادة بناء هذا البيت العتيق واتخاذه مسجدا لله تعالى، وبالتالي لم يكن ما بناه هيكلا كما يدعي اليهود، وقد وردت أحاديث نبوية بهذا الشأن، منها الحديث الذي رواه النسائي بإسناد صحيح عن أبي إدريس الخولاني عن ابن الديلمى عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالا ثلاثة، سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأويته، وسأل الله عز وجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه.
ويورد السيوطي في كتابه (إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى) أثرا عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: لما أمر الله تعالى داود عليه السلام أن يبني مسجد القدس، قال: يا رب وأين أبنيه؟ قال: حيث ترى الملك شاهرا سيفه. قال: فرآه داود في ذلك المكان، فأخذ داود وأسس قواعده ورفع حائطه، فلما ارتفع انهدم. فقال داود عليه السلام: يارب أمرتني أن أبني لك بيتا فلما ارتفع هدمته. فقال: يا داود إنما جعلتك خليفة في خلقي، فلِمَ أخذت المكان من صاحبه بغير ثمن؟ إنه سيبنيه رجل من ولدك. فأوصى سليمان عليه السلام ببنائه فبناه وأتمه(12).
كما يورد ابن كثير في تفسيره عددا من الأحاديث بهذا الشأن منها حديث رواه الطبراني عن رافع بن عمير قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: ((قال الله عز وجل لداود عليه الصلاة والسلام: ابن لي بيتا في الأرض، فبنى داود بيتا لنفسه قبل البيت الذي أمر به، فأوحى الله اليه: يا داود نصبت بيتك قبل بيتي؟ قال يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر، ثم أخذ في بناء المسجد، فلما تمّ السور سقط ثلاثا فشكا ذلك الى الله عز وجل، فقال يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتا، قال: ولِمَ يا رب؟ قال: لما جرى على يديك من الدماء، قال: يا رب أو ما كان ذلك في محبتك وهواك؟ قال بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم، فشق ذلك عليه، فأوحى الله إليه لا تحزن فإني سأقضي بنائه على يدي ابنك سليمان، فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه، ولما تم قرب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني اسرائيل فأوحى الله إليه قد أرى سرورك ببنيان بيتي فسلني أعطك، قال: أسألك ثلاث خصال، حكما يصادف حكمك، وملكا لاينبغي لأحد من بعدي، ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): أما الثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة))(13).
يتبين لنا إذن من هذه الأحاديث الشريفة أن البناء الذي بناه سليمان (عليه السلام) قد ورد بلفظ المسجد، فهو نفسه المسجد الأقصى ولم يكن هيكلا، وقد بناه لعبادة الله الذي هو رب جميع الأقوام والأجناس والألوان لا لعبادة (يهوه) فقط الإله المزعوم لبني اسرائيل.
ولكن البناء الذي بناه سليمان للمسجد الأقصى قد دمر فيما بعد، ثم أعيد بنائه عدة مرات، وكان في بعض هذه المرات قد أعيد بنائه على شكل معبد أو هيكل، لأن بني اسرائيل كانوا قد ارتدوا عن دينهم وتأثروا بالبابليين وديانتهم، وكان نبوخذ نصر الملك البابلي قد سيطر على القدس بعد موت سيدنا سليمان عليه السلام وانقسام مملكته من بعده ودمر المسجد سنة (587) ق.م تقريبا، وأخذ الأسرى من بني اسرائيل الى بابل ومكثوا هناك فترة من الزمن، الى أن جاء الفرس واحتلوا بابل فسيطروا على القدس وأعادوا لها الأسرى الإسرائيليين، وبما أنهم قد تأثروا بديانة البابليين فقد بنوا مكان المسجد الذي بناه سيدنا سليمان عليه السلام معبدا أو هيكلا في عام (515)ق.م تقريبا(14).
وحتى لو سلمنا بأن ما بناه سليمان كان شيئا آخر غير المسجد الأقصى وكان هيكلا كما يدعي اليهود، فإن ذلك لا يعطي اليهود أي حق بملكية هذا المكان، لأن الأقصى باعتباره ثاني مسجد في الأرض يكون قد بني قبل الهيكل بحوالي ألف سنة اذا افترضنا أن المسجد بناه ابراهيم (عليه السلام)، أما اذا افترضنا أن باني المسجد هو آدم (عليه السلام) فإن المدة الزمنية بين بناء المسجد الأقصى وبين هيكل اليهود المزعوم تزداد امتدادا وتوسعا الى آلاف السنين، وبالتالي فإننا إذا سايرنا اليهود في مزاعمهم فإن الهيكل هو الذي قد بني مكان المسجد الأقصى وليس العكس.
ولو سلمنا مرة أخرى بأن ما بناه سليمان هو الهيكل وليس المسجد، فإن اليهود يختلفون فيما بينهم اختلافا كبيرا في تحديد الموضع الذي بني فيه هذا الهيكل المزعوم، تقول الكاتبة والصحفية الأمريكية الراحلة (غريس هالسل) في كتابها الشهير (النبوءة والسياسة) الذي فضحت فيه الحركة الصهيونية المسيحية وعقائدها الفاسدة: ((أجريت في القدس مقابلة مع عالم الآثار الأمريكي غوردن فرانز - من نيوجرسي - الذي أمضى عامين في أعمال الحفريات مقيما في (معهد الأرض المقدسة) في القدس. عندما زرته في غربي القدس كان برفقته مجسم للقدس القديمة في عهد المسيح، أو كما يقول الاسرائيليون في عهد الهيكل الثاني. وفيما كنا نتفرج على المجسم، الذي يحتل مساحة غرفة كبيرة، سألته: هل هناك أية دلائل على أن الهيكل كان قائما حيث يضعه المصمِّم في هذا المجسَّم؟ أي في الموقع الذي يقع فيه المسجد الأقصى وقبة الصخرة؟.. أجابني: "لا توجد دلائل على أن الهيكل كان هناك أو أنه لم يكن هناك. إن بعض الناس يعتقد أنه كان هناك". وسألته: هل يعني بذلك (إيغي يوناه) اليهودي الاسرائيلي الذي صمَّم المجسم؟ فردّ قائلا: "هناك عدة نظريات حول الهيكل. كثيرون يقولون: إنه يقع حيث تقع قبة الصخرة اليوم، ولذلك يقول الصهيونيون يجب إزالة المسجد. ويقولون: إن إرادة الله، مثل هزة أرضية سوف تدمره، أو أن شخصا ما سيقوم بنسفه بالديناميت. إن كبير الحاخامين الإشكناز الحاخام غوردن يعتقد أن الهيكل كان يقع الى الشمال قليلا من قبة الصخرة. وثمة نظرية ثالثة تقول: إن الهيكل كان يقع على الجانب الشمالي من الساحة. وهم يعتقدون أن قدس الأقداس(15) يقع قرب قبة الروح القدس. والرأي الرابع أن الهيكل قد سبق أن تم بنائه على شكل كنيس ضخم في شارع جورج الخامس في غرب القدس، والذين يتمسكون بهذه النظرية يستشهدون بقول إسحاق عندما سأل: أين بيتي؟ ويفسرون هذا النص بأنه يعني أن الهيكل لم يكن فوق الأرض الاسلامية اليوم، ولكنه كان في مكان آخر".
وعدت الى السؤال: أين كان موقع الهيكل قبل 2000 سنة كما تعتقد؟ فردّ قائلا: إني لا أعرف. لا أحد يعرف. كل ما نعرفه هو أن كل أولئك الذين يقولون انهم يريدون الهيكل، يريدون في الدرجة الأولى تدمير المسجد. ليس لدي أية فكرة كيف سيتم التدمير، ولكنه سيحدث.. إنهم سيبنون هيكلا هنا، كيف ومن ومتى وأين؟ لا تسأليني!))(16).
وتنقل هالسل في كتابها تأكيدات إسرائيلي يهودي مهاجر من إسكوتلندا ويدعى (أشر كوفمان) وهو أستاذ للفيزياء في الجامعة العبرية، أن لديه أدلة ثابتة بأن المعبد الهيكل اليهودي لم يكن قائما في الموقع الحالي لقبة الصخرة إنما الى الجنوب منه، وقد كتب كوفمان مقالا مطولا حول هذا الموضوع نشر في مجلة الآثار التوراتية.
ويذكر الدكتور حسن ظاظا في كتابه القيم (أبحاث في الفكر اليهودي) أمرا يستحق الانتباه، وهو أن الحرم الاسلامي الشريف مستطيل، واتجاهه من الشمال الى الجنوب (في اتجاه القبلة بمكة المكرمة)، أما معبد سليمان فهو - على ما يزعم اليهود - مستطيل لكن اتجاهه من الغرب الى الشرق (نحو الشمس) وهو الاتجاه العام في المعابد القديمة في بابل أو مصر أو غيرهما من أقطار الشرق الأدنى والأوسط. إذن فلا يمكن التسليم بسذاجة برأي من يدّعون أن الحرم يقوم تماما على ما كان سابقا يسمى هيكل سليمان، حتى لو سلمنا أن الهيكل كان في هذا الركن بالذات من الجبل، وهذا لا دليل عليه إلا العنعنات التي اتخذت في نفوس البعض منزلة مقدسة لتكرارها عبر الأجيال(17).
هذا ويذهب اليهود السامريون - وهم طائفة من اليهود اشتق اسمهم من السامرة عاصمة مملكة إسرائيل القديمة التي كانت تقع إلى الشمال من شكيم "نابلس" وتوجد بينهم وبين بقية اليهود اختلافات دينية عميقة وهم لا يؤمنون إلا بالأسفار الخمسة الأولى من التوراة - الى أبعد من كل ذلك الذي ذكرناه، فهم يعتقدون أن الهيكل كان يقع على جبل (جرزيم) في شمال نابلس وهو الجبل الذي كان داود قد اتخذه قاعدة لحكمه قبل أن ينتقل الى جبل صهيون في القدس، فالهيكل في نظرهم يجب أن يعاد بنائه على جبل جرزيم لا جبل القدس.
وهكذا نلحظ تناقضا كبيرا واختلافا شديدا في آراء طوائف اليهود وحاخاماتهم ومؤرخيهم في تحديد مكان هيكلهم المزعوم، وهذا الخبط الذي وقعوا فيه لهو دليل على بطلان ادعاءاتهم وزيفها. ومما زاد موقفهم ضعفا وهزالة عدم العثور على أية آثار حتى الان تدل على الهيكل، فرغم الحفريات الكثيرة التي بدأتها سلطات الآثار الاسرائيلية ووزارة الأديان منذ احتلال القدس الشرقية عام 1967، ورغم الأنفاق العديدة التي تم حفرها تحت أساسات المسجد الأقصى، فإن كل تلك الجهود التي صرفت فيها ملايين الدولارات لم تسفر عن إيجاد أي دليل يتمسك به الاسرائيليون على أن الهيكل كان موجودا في تلك البقعة. بل ان الحفريات الأثرية الاسرائيلية تحت المسجد والتي جرت على عشر مراحل حتى الان، لم تسفر إلا عن إلقاء الضوء على آثار من العهود الأموية والعباسية والأيوبية والعثمانية وأخرى من العهود الرومانية(18).
وعلماء الآثار الذين قاموا بهذه الحفريات ليسوا من العرب أو المسلمين حتى يقال انهم متحيزون، إنما هم من الاسرائليين والأوروبيين والأمريكيين، فمنذ العام 1967 اعترف العديد من علماء الآثار اليهود بعدم عثورهم على أي أثر للهيكل، ومن هؤلاء: (جدعون أفني)، (روني رايخ)، (يائير زاكوبتش)، (إسرائيل فنكلشتين)، (طوبية سادوم).. وقد اعترفت المسؤولة الاسرائيلية عن الحفريات (إيلات مازار) المتخصصة بالبحث عن الهيكل بقولها: إننا لا نعرف عن مكان الهيكل شيئا ولم نصل إلى ذلك بتاتا.
سرقة التاريخ!
ولما لم يجد اليهود ضالتهم مع كل تلك المحاولات لم يتوانوا عن ارتكاب جريمة كبرى بحق التاريخ والحضارة الانسانية وهي جريمة تزييف الآثار، فالحفريات تحت المسجد اتخذت اتجاها يهدف الى تغيير المعالم وقلب الاسماء وخلق تاريخ مزور، والتاريخ اليهودي في هذا الموقع تتم صناعته بالمعاول والآلات والحفارات وعلى جماجم وهياكل التاريخ الاسلامي العريق، فتراهم يدّعون أنهم وجدوا كنيسا يهوديا أو أماكن قديمة للعبادة تحت أساسات المسجد، بينما الحقيقة أن معاولهم هي بطلة هذا السيناريو المزيف. أو ترى العديد من علماء الآثار المأجورين يدّعون انهم عثروا على آثار تعود للهيكل الأول بزعمهم وأن الأحجار التي تستخرج من الأنفاق هي من نفس حجارة الهيكل، "وقد أوقفت الشرطة الاسرائلية عام 2000 عالم آثار بعد محاضرة له في جامعة تل أبيب عن (مكتشفات هيكل سليمان)، إذ ثبت أن القطع المعروضة كمكتشفات هي مسروقة من مواقع أثرية أخرى"(19).
وقد تناقلت الأنباء أواخر عام 2004 نبأ برنامج وثائقي بريطاني يكشف أكبر عملية تزييف آثار في اسرائيل. فقد عرض التلفزيون البريطاني برنامجاً وثائقياً كُشف فيه النقاب عن عملية تزوير معقدة أبطالها بعض الخبراء وتجّار التحف في إسرائيل. لكن خطورة محاولة التزوير هذه, والتي خدعت كبار المؤرخين والباحثين في الدراسات التوراتية, أنها تستخدم لتثبيت المزاعم بأحقية اليهود التاريخية بأرض فلسطين. وجاء في تفاصيل العملية أنه في اجتماع سري في العام 2001 عُرض على عدد من علماء الآثار الاسرائيليين البارزين, لوح آثاري مذهل. كان هذا لوحاً حجرياً يرقى على ما يبدو الى عام ألف قبل الميلاد, وعلى صفحته الأمامية كتابة تتحدث عن ترميمات أُجريت على معبد الملك سليمان. وإذا صح ذلك, فإن هذا يُعتبر اول دليل آثاري ظهر حتى الآن حول هذا المعبد الاسطوري. وأثارت هذه "اللقية" ضجّة واهتماماً.
لأجل الوثوق في صحته, نُقل اللوح الى الدائرة الجيولوجية في اسرائيل. وبعد اجراء العديد من الفحوصات لتحديد زمنه, أعلن العلماء رسمياً ان الحجر حقيقي (غير زائف). وقد كشف الفحص ايضاً عن وجود جسيمات ذهبية صغيرة جداً في الطبقة الخارجية من الحجر. ويُفترض ان هذه الجسيمات الذهبية هي ما تخلّف عن الحريق الذي تعرض له المعبد بعد ان سبى البابليون أورشليم في 586 ق.م.
ثم عُرض اللوح الحجري على المتحف الاسرائيلي لشرائه. وقيل ان السعر الذي طُرح كان عشرة ملايين دولار. بيد ان المتحف أراد ان يعرف من اين جاء الحجر, لأن حامله كان انساناً يدعو الى الشبهات. ثم سرعان ما اختفى اللوح.. وبعد البحث الذي استغرق تسعة أشهر, تعرفت السلطات الاسرائيلية على مخْبر خاص استؤجر من قبل جامع آثار قديمة يدعى (أوديد غولان). ولدى استجواب هذا الأخير, أفاد بأنه كان واجهة لجامع آثار آخر. بيد أن السلطات لم تصدقه وفتشت منزله فوجدوا الحجر الغريب. وتقرر هذه المرة إخضاع هذا الأثر للفحص الدقيق لمعرفة حقيقته.
لدى الدراسة اللغوية لنص الحجر المكتوب بلغة عبرية قديمة, توصل علماء اللسانيات إلى أن هناك عيباً لغوياً فيه. فهناك عبارة باللغة العبرية تعني الآن "تم ترميمه" لكنها في العبرية القديمة تعني عكس ذلك تماماً: "تم تدميره". فاستنتج العلماء بأن هذه الكتابة دُونت الآن من قبل انسان معاصر يجهل المعنى القديم لهذه العبارة.
أما جيولوجياً, فقد أُحيل الحجر إلى (يوفال غورين) العالم في جيولوجيا الآثار رئيس المعهد الآثاري في جامعة تل أبيب. وسرعان ما اكتشف ان هناك فريقاً من المزيّفين البارعين الذين ضلّلوا الخبراء السابقين الذين فحصوا الحجر. واتضح ان "الباتينا" Patina, أو غشاء العِتق (الغشاء الذي يكسو مادة ما بأثر القدم وغالباً ما يكون أخضر اللون) صُنع حديثاً. وان جسيمات الفحم الكاربوني التي قُدّمت دليلاً على التاريخ الكاربوني الشعاعي أُضيفت إلى الحجر, وإن الأجواء الذهبية كانت إضافة حديثة بارعة أيضاً. وبذلك توصل المسؤولون إلى أن اللوح الحجري كان زائفا.
واتضح فيما بعد أن الحجر أخذ من قلعة بُنيت في أيام الصليبيين, وتوصل العالم الجيولوجي أيضاً إلى العملية التي تم بواسطتها صنع الباتينا (غشاء العِتق) والمواد التي استُعملت, كما توصل إلى أن من بين المزيفين كان خبراء في أمور كثيرة.
وعندما ألقى البوليس القبض على أوديد غولان وفتشوا شقته, عثروا على ورشة (مشغـل) مع عـدد غـير قليـل من الأدوات والمواد و"اللقى الآثارية" التي كانت في طريقها إلى الإنجاز. فكان هذا دليلاً على أن العملية كانت تجري على نطاق أوسع مما توقعوا.
وتوصل المحققون إلى أن جامعي الآثار في العالم دفعوا مئات الآلاف من الدولارات على لُقى مزيفة وصلت إليهم من طريق وكلاء أوديد غولان. وتم فحص العشرات من هذه المواد على يد الدكتور يوفال غورن, فاتضح أنها كانت زائفة كلها, فدعا هذا البوليس إلى الاعتقاد بأن اللُقى التي تم صنعها على أيدي فريق المزيفين نفسه وجدت طريقها إلى متاحف مهمة في العالم.
ويعتقد الآن بعض علماء الآثار ان كل ما وصل إلى السوق في السنوات العشرين الأخيرة من مصدر غير محدد ينبغي اعتباره زائفاً. وان الكثير من هذه المواد, مثل اللوح الحجري الذي تم الكشف عن بطلانه, يأتي في اطار الرغبة لدى جامعي الآثار في البرهنة على أن ما ورد في الكتاب المقدس من روايات تاريخية, لا سيما تلك التي ترقى الى المرحلة الأقدم, حقيقة تاريخية(20).
وقد كشفت صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية عام 2004 عن وجود هذه الشبكة الإسرائيلية التي تعمل في تزييف المكتشفات الأثرية منذ 15 عاما، يشارك فيها متخصصون في علم الآثار. وأوضح مسؤولون في إدارة الآثار الإسرائيلية لصحيفة (هاآرتس) في عددها الصادر بتاريخ 26/3/2004 أن (رمّانة العاج) - وهي الاكتشاف الأثري الذي تدعي إسرائيل أن تاريخه يعود إلى عهد "الهيكل الأول" المزعوم - عبارة عن أكذوبة وعملية تزييف للآثار، معربين عن تخوفهم من أن يؤثر هذا الأمر على علم الآثار بإسرائيل.
ويرأس هذه الشبكة بحسب الصحيفة (عوديد غولان) السابق ذكره وصفته هاآرتس بأنه "جامع مكتشفات أثرية"، بالإضافة إلى وسطاء وأشخاص أقاموا شركات وهمية لبيع الآثار.
وتوضح هاآرتس أن المكتشف الأثري المزيّف (رمّانة العاج) يحمل كتابة قديمة كأنها مأخوذة من التوراة، حيث يزعم علماء آثار إسرائيليون - إضافة إلى عالم آثار فرنسي يدعى أندريه ليمر- أن هذا المكتشف كان يستخدمه كهنة "الهيكل الأول"، وأنه اكتشف وجوده لدى تاجر مكتشفات أثرية في القدس في مطلع الثمانينيات حيث عرض عام 1985 في متحف "جراند باليه" الفرنسي في باريس ثم اقتناه متحف إسرائيل عام 1988 بعد أن قال علماء آثار إسرائيليون بأنه مكتشف أصلي.
وأشارت الصحيفة إلى أن المسؤولين في إدارة الآثار أعربوا عن تخوفهم من نتيجة اكتشاف أعمال التزييف، موضحين أن ذلك سيسبب مشكلة لا تقدر بثمن لعلم الآثار، إذ إن هناك عددا كبيرا من الأبحاث والنظريات في علم الآثار التي استندت إلى المكتشفات المزيفة. وقد أعاد طاقم من علماء الآثار الإسرائيليين العاملين في إدارة الآثار - بحسب الصحيفة - فحص (رمّانة العاج) والعديد من الآثار وأقروا بأنها مزيفة(21).
حائط البراق
لكي يبقى لليهود رابط روحي ديني يربطهم بالقدس، فقد ابتدع حاخاماتهم الصلاة والبكاء عند جزء من سور الحائط الغربي للمسجد الأقصى والذي يسميه اليهود (حائط المبكى)، وهو حائط البراق عند المسلمين لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد ربط البراق بحلقة في هذا الحائط في رحلة الإسراء والمعراج، فهو جزء لايتجزأ من المسجد الأقصى.
ويدعي اليهود أن هذا الحائط هو الجزء الباقي الوحيد من الهيكل الأول الذي بناه سليمان، ولذلك يحيطونه بهالة كبيرة من التقديس والتعظيم. لكن ادعاءهم هذا لا يستند الى أي دليل تاريخي أو أثري، إنما هو أسطورة ابتدعوها لما لم يجدوا أي شيء آخر يتمسكون به لإثبات حقوقهم التاريخية المزيفة.
ومن المعلوم أن البناء الذي بناه سليمان تهدّم بالكامل ولم يبق منه حجر على حجر على يد نبوخذ نصر البابلي، وأنه تعاقب على هذا الموقع أبنية عديدة بنيت في العهود والمراحل التاريخية المختلفة التي مرت بها مدينة القدس، فمن المستحيل أن يبقى ذلك الجزء من "هيكل" سليمان سليما معافى طيلة تلك المدة، بل ان التعميرات التي جرت على الهيكل في عهد هيرودس طالت كل أساسات البناء القديم. يؤكد عالم الآثار الأمريكي (وليم ف. أولبريت) - وهو عالم أمريكي كبير كان مديراً للهيئة المدرسية الأمريكية للبحوث الشرقية في القدس. ورئيساً لعدة بعثات أثرية، وعضواً في عدة أكاديميات عالمية - في كتابه (آثار فلسطين): أن ابنة هيرودس في أورشليم قد محت محواً تاماً كل أثر للمباني السابقة لها، لدرجة لم يستطيع معها الأثريون العثور على أية معالم مؤكدة من هيكل سليمان.
ويضيف هذا العالم الأمريكي أنه من المؤكد أن هيكل سليمان لم يُصمَّم ليكون مركزاً لحج حشود من الناس، وأنه لم يكن هناك ثمة داع في عهد سليمان لإقامة مبنى ضخم كما كان الحال في عهد هيردوس، وأن بنّائي هيرودس قد نزلوا حتى الصخر الطبيعي ليكون لهم الأساس الذي يتحمل ثقلاً جباراً(22).
ويرجع اهتمام اليهود الديني بهذا الجدار الى عهود متأخرة وكان نتيجة لتسامح السلاطين العثمانيين معهم بعد أن تم طردهم من اسبانيا (الأندلس) في القرن السادس عشر. تذكر المؤلفة الأمريكية (كارين أرمسترونج) في كتابها (القدس مدينة واحدة عقائد ثلاث) أن اليهود لم يظهروا في الماضي أي اهتمام بذلك الجزء من الحائط، وأن المكان في عهد هيرودس بعد أن أعيد بناء الهيكل للمرة الثانية عام 40 ق.م كان جزءاً من مركز تجاري ولم تكن له أهمية دينية، وأن اليهود كانوا يتجمعون للصلاة على جبل الزيتون وعند بوابات الحرم، وأنهم عندما منعوا من دخول المدينة أثناء الفترة الصليبية كانوا يصلون عند الحائط الشرقي للحرم. وتضيف المؤلفة الأمريكية أن السلطان العثماني سليمان القانوني هو الذي أصدر فرمانا يسمح بمكان لليهود للصلاة عند الحائط الغربي(23).
كما أنه لم يكن هناك أي اهتمام بهذا الجدار في الأدبيات الصهيونية منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، ولم يذكره ثيودور هرتزل في كتابه (الدولة اليهودية)، ولم تشر الموسوعة اليهودية التي نشرت عام 1901 من قريب أو من بعيد إلى أي مادة تتعلق بالحائط المذكور مع اسمه اليهودي حائط المبكى.
وبعد انتفاضة البراق عام 1929 التي اندلعت نتيجة تمادي اليهود في مراسيمهم التعبدية في المكان وقيامهم بمظاهرة يطالبون فيها بفرض ملكيتهم على الحائط والتي واجهها الفلسطينيون بمظاهرة كبيرة أدت الى انتفاضة عارمة على اليهود والاحتلال البريطاني، شكّلت حكومة الانتداب البريطاني هيئة تحقيق وأرسلتها الى فلسطين للتحقيق في أسباب الإنتفاضة والإضطرابات بين اليهود والفلسطينيين وترأسها (ولتر شو)، وكان من توصيات الهيئة تشكيل لجنة دولية لتحديد الحقوق والادعاءات بشأن الحائط، وترأس هذه اللجنة وزير الخارجية السويدي السابق لوفغرين والمستر بارد من سويسرا والمستر فان كيمبين من هولندا، وعقدت اللجنة (23) جلسة استمعت خلالها إلى شهادة 52 شاهداً من بينهم 21 من اليهود و 30 من المسلمين، وشاهد واحد بريطاني. وقدم الطرفان إلى اللجنة 61 وثيقة منها خمس وثلاثون مقدمة من اليهود وست وعشرون وثيقة مقدمة من المسلمين. وبعد أكثر من خمسة أشهر من بدء جلساتها عقدت اللجنة جلستها الختامية في باريس من 28 نوفمبر إلى 1 ديسمبر 1930 حيث انتهت بالإجماع الى قرارها الذي استهلته بالفقرة التالية، وهي التي تهمنا في هذا المقام: "للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من مساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف، وللمسلمين أيضاً تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط لكونه موقوفاً حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير"(24).
عقيدة هدم المسجد وبناء الهيكل
(لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس إلا بالهيكل) عبارة نطق بها ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل ليعبر بها عن العقيدة الصهيونية التي ترى أنه لا مناص من هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث مكانه لإقامة شعائر العبادة اليهودية وتقديم القرابين فيه، ولم يتزحزح مسؤول اسرائيلي واحد عن هذه الآيديولوجية منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897.
وقد أقام اليهود جميع الاستعدادات اللازمة لهذا الهدف الشيطاني المتمثل بهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل، وأعدوا الخرائط والمخططات الهندسية للبناء، وصنعوا مجسما معماريا للهيكل يحتل مساحة غرفة كبيرة كما مرّ معنا، ويعملون جهدهم من أجل إيجاد بقرة حمراء ليضحوا بها ويطهروا برمادها الموقع قبل البدء بأعمال البناء، فهم على استعداد تام - كما يعلنون - للخطوة الأخيرة بالبدء ببناء الهيكل بعد هدم المسجد. تتحدث (غريس هالسل) في كتابها (يد الله) عن الرحلة التي نظمها القس (جيري فولويل) عام 1983 للحجاج المسيحيين للأراضي الفلسطينية وكانت هي من بين المشاركين في هذه الرحلة، ومن الأماكن التي زاروها المسجد الأقصى، وعندما وقفوا مقابل الحائط الغربي للمسجد والذي يسميه اليهود حائط المبكى تقول هالسل: قال لنا مرشدنا السياحي وهو يشير الى القبة والصخرة والمسجد الأقصى: ((هناك سنبني الهيكل الثالث. لقد أعددنا كل الخطط اللازمة للهيكل حتى أن مواد البناء أصبحت جاهزة أيضا، إنها محفوظة في مكان سري. هناك عدد من المحلات التي يعمل فيها الإسرائيليون لإعداد اللوازم التي سنستخدمها في الهيكل الجديد. ويقوم أحد الإسرائيليين بنسج قطعة من الكتان الصافي لاستخدامها في ملابس كهنة الهيكل)).
وبعد صمت قليل، أضاف يقول: ((في مدرسة دينية تدعى ياشيفا أتيريت كوهانيم (تاج الكهنة) وتقع بالقري من مكان وقوفنا، يقوم الحاخامات بتعليم الشبان كيف يؤدون مناسك التضحية بالحيوان))(25).
ونشرت صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر في 27 ديسمبر 1998 أن القس كلايد لوت راعي كنيسة العنصرة يعمل على إنتاج بقر أحمر غير مبرقع يمكن التضحية به لإنتاج رماد لاستخدامه في القداس في الهيكل المقبل. ومن أجل أن يحدث هذا الأمر فإن على الصروح الاسلامية، مثل قبة الصخرة، أن تزال. ويثق لوت أن الله سيتولى ذلك في الوقت المناسب(26).
وتتحدث هالسل في كتابيها (النبوءة والسياسة) و(يد الله) عن وقائع عديدة من الجهود المبذولة لهدم المسجد الأقصى وقبة الصخرة سواء من قبل الصهاينة اليهود أو الصهاينة المسيحيين المنتمين الى المذهب الإنجيلي البيوريتاني، وقد يكون أتباع الصهيونية المسيحية أشد تحمسا من أتباع نظيرتها اليهودية لإعادة بناء الهيكل، فعقيدتهم الدينية المستندة الى نبوءات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد تقوم على فكرة أن اليهود هم شعب الله المختار وأنهم الأمة المفضلة على جميع الأمم، وأن هناك ميثاقا إلهيا يربط اليهود بالأرض المقدسة فلسطين، وأن العودة الثانية للمسيح مرتبطة بقيام دولة صهيون وإعادة تجميع اليهود في فلسطين، ومن شروط قيام هذه الدولة إعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، وبعدها تتعرض اسرائيل الى هجوم كبير من المسلمين وحلفائهم الروس وتقع معركة هرمجدّون النووية التي تسبب في كارثة بيئية ضخمة ويقتل فيها ثلثا اليهود ويتحول الباقون الى المسيحية، ينزل إثرها المسيح ويقتل أعداءه ويحكم العالم لمدة ألف عام بعدل وسلام.
ويعتبر القس الإنجيلي (هال ليندسي) في كتابه (آخر أعظم كرة أرضية) الذي صدرعام 1970 وبيع منه أكثر من 18 مليون نسخة، أنه لم يبق سوى حدث واحد ليكتمل المسرح تماما أمام دور اسرائيل في المشهد العظيم الأخير من مأساتها التاريخية، وهو إعادة بناء الهيكل القديم في موقعه القديم.
هذا وتذكر هالسل محاولتين لتدمير المسجد ونسفه من قبل المتطرفين الصهاينة اليهود والمسيحيين، أولاهما كانت عام 1979 عندما خططت مجموعة من هؤلاء المتطرفين لعملية هجوم مسلحة بالقنابل والديناميت والأسلحة الرشاشة ولكنهم اعتقلوا قبل أن ينفذوا مخططهم، وبعد اعتقالهم عوملوا كأبطال واستبدلت الأحكام الخفيفة التي صدرت ضدهم بغرامات مالية ساهم في جمعها (تيري ريزنهوفر) المسيحي الصهيوني الأمريكي الذي يتزعم (مؤسسة هيكل القدس). أما المحاولة الثانية فكانت عام 1999 حينما اعتقلت الشرطة الاسرائيلية مجموعة من القدريين الأمريكيين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم المسيحيين المهتمين، وقد خططوا لتدمير المسجد الأقصى بهدف تسريع العودة الثانية للمسيح، ويرى هؤلاء أن القيام بذلك هو القدر المكتوب وأن الله يريد ذلك وينبغي تنفيذ إرادة الله.
وهناك محاولات واعتداءات أخرى عديدة استهدفت المسجد الأقصى نفذتها المنظمات والجماعات المعنية بهدم المسجد، فقد تعرض الحرم الشريف منذ احتلاله عام 1967 الى عشرات الاعتداءات الصهيونية، لكن أشنعها وأفظعها كان حريق المسجد الأقصى في 21/8/1969 حينما اقتحم سائح استرالي بروتستانتي ساحات الحرم وتمكن من الوصول إلى المحراب وإضرام النار فيه وفي الحائط الجنوبي الشرقي في محاولة لتدمير المسجد، وقد أتت النيران على مساحة واسعة من المسجد واحترق منبر صلاح الدين بالكامل، إلا أن الفلسطينيين تمكنوا من إخماد الحريق، وزعمت السلطات الإسرائيلية أن الشخص الذي قام بذلك العمل مختل عقليا وتم ترحيله الى بلده استراليا.
هل من استفاقة قبل الأوان؟
وهكذا يمضي الصهاينة في سياساتهم لتحقيق حلمهم ببناء الهيكل الثالث على أنقاض الحرم القدسي الشريف، ويواصلون محاولاتهم عاما بعد عام، ويخطون خطوات وئيدة لتحقيق هدفهم، ويبقى الفلسطينيون لوحدهم في ساحة المواجهة متحملين عبء الدفاع عن المقدسات..
فهل من استفاقة قبل الأوان؟..
لقد كانت الأمة الاسلامية في فترة الحروب الصليبية تعيش حالا شبيهة بما هي عليها اليوم من تفرق وتنازع وتقاعس عن الجهاد، فهيأ الله لها قائدا مسلما كُرديا هو الناصر (صلاح الدين الأيوبي)، الذي أكمل مسيرة المجاهد العظيم الملك العادل (نورالدين زنكي) ووحد صفوف المسلمين ولمّ شملهم وقادهم في ملاحم الجهاد الكبرى ضد الصليبيين بعد استغاثة شجية جاءته من شاعر على لسان الأقصى السليب تقول:
يــا أيـها المــلك الــذي لمـعـالـم الصُـلـبـان نكّـسْ
جـاءت إليــك ظلامةٌ تشكو من البيت المقدّسْ
كل المســاجد طُهّـرت وأنــا علــى شـرفي أُدنّـسْ
فلم يهنأ رحمه الله بنوم لا راحة ولا طعام حتى حرر القدس وأعادها الى جسد الأمة.. وكم من استغاثة تنطلق اليوم على لسان المسجد الأسير، ومن أفواه النساء الثكالى والأطفال اليتّم والشيوخ الركّع في فلسطين، فلا أحد يستجيب لها..
رُبّ وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتّـمِ
لامسـت أسمـاعهـم لكنها لم تلامس نخوة المعتصمِ
الهوامش:
1- محاولة اغتصاب الأقصى.. الجذور والأسباب/ د. أحمد صدقي الدجاني/ اسلام اون لاين نت 17/12/2000.
2- تاريخ فلسطين القديم، ظفر الاسلام خان، ص 27. دار النفائس.
3- الصراع الديني حول القدس ومخططات الصهيونية العالمية/ عبد الرحمن مصطفى نصار، ص 25.
4- أبحاث في الفكر اليهودي/ الدكتور حسن ظاظا، ص47.
5- رسائل العمارنة هي وثائق دبلوماسية اكتشفت في منطقة تل العمارنة في محافظة أسيوط بمصر أوائل القرن العشرين، وهي (350) رسالة مكتوبة تبادلها حكام القدس مع فرعون مصر أمنوفيس الثالث وابنه أخناتون يطلبون فيها الدعم من المصريين لصد هجمات العبريين على القدس.
6- العصر البرونزي المتأخر يبدأ من 1550 وحتى 1150 ق.م.
7- نقلا من موقع (عرب 48) على شبكة الانترنيت.
8- التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها/ ص 178، د.اسرائيل فنكلشتاين، نيل أشر سيلبرمان، ترجمة: سعد رستم.
9- القبيلة الثالثة عشرة ويهود اليوم، آرثر كيستلر، ص61، الهيئة المصرية العامة للكتب 1991.
10- يهود اليوم ليسوا يهودا، بنيامين فريدمان، ص12، دار النفائس 1988.
11- المصدر السابق، ص43.
9- المزاعم الصهيونية حول الهيكل الثالث/ د.صالح حسين سليمان الرقب/ اسلام اون لاين، حوارات حية 13/11/2000.
10- أبحاث في الفكر اليهودي/ ص 46.
11- المصدر السابق/ ص 33.
الهوامش:
12- نقلا عن كتاب (الصراع الديني حول القدس ومخططات الصهيونية العالمية)، عبد الرحمن مصطفى نصار، ص 77.
13- تفسير ابن كثير/ ج4، ص38.
14- الصراع الديني حول القدس/ ص 77 – 78.
15- قدس الأقداس كان إحدى غرف المسجد (الهيكل حسب زعم اليهود) وأهم جزء فيه، القسم الداخلي من الغرفة كان يحوي تابوت العهد أي الصندوق الذي وضعت فيه التوراة المكتوبة في الألواح، أما القسم المفتوح فكان يحتوي على المذبح الذهبي للقرابين.
16- النبوءة والسياسة الإنجيليون العسكريون في الطريق الى الحرب النووية/ غريس هالسل، ترجمة محمد السماك، ص 127- 128.
17- أبحاث في الفكر اليهودي/ ص 49 - 50.
18- النبوءة والسياسة/ ص 126.
19- من موقع قناة المنار اللبنانية.
20- شبكة فلسطين اليوم - 25/11/2004.
21- إسلام أون لاين.نت، أخبار وتحليلات - 27/3/2004.
22- حائط البراق وليس حائط المبكى/ دراسة للدكتور (عادل حسن غنيم) أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة عين شمس، والدراسة منشورة في مجلة (رؤية) الشهرية البحثية المتخصصة على موقع الهيئة العامة للإستعلامات للسلطة الوطنية الفلسطينية (SIS).
23، 24- المصدر السابق.
25- يد الله/ غريس هالسل، ترجمة محمد السماك، ص 78.
26- المصدر السابق، ص 89.
التعليقات (0)