" المستشرقون والقرآن الكريم "
كتبه
د/ إسحاق بن عبد الله السعدي
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة
قسم الثقافة الإسلامية
الرياض
10 شوال 1427هـ
" المستشرقون والقرآن الكريم "
تناول كثيرٌ من المستشرقين القرآن الكريم بدراساتٍ متخصصة في تاريخه وتدوينه ومختلف علومه وأحكامه وأساليبه وتشريعاته ، وبدراسات عامَّة يأتي الحديث فيها عن القرآن الكريم في سياق تاريخي أو وصفي ، لموضوعاتٍ أخرى.
ومهما يكن الأمر فإن القرآن الكريم كان مركزاً جوهرياًً لكثير من الدراسات الاستشراقية التي بدأت بترجمته لأهدافٍ دينية معادية مكشوفة ومعلنة مثل ترجمته الأولى إلى اللغة اللاتينية التي أشرف عليها (بيتروس فينيرا بيليس ) الملقب بـ (بطرس المبجل) رئيس دير (كلوني) وكلَّف بها اثنين من طلابه صرفهما عن دراسة علم الفلك إلى ترجمة القرآن الكريم باللغة اللاتينية وأتمَّاها عام 1143م، وهما ( روبرت أوف كيتون الإنجليزي ) و(هرمان الألماني ) وقد استعانا باثنين من العرب في أسبانيا ، وأظهر تحقيق بعض الباحثين ، أن الذي قام بهذه الترجمة هو اليهودي المتنصر (اوبيدرو الفونسي أو العبري أو الطليطلي) المذكور في مقدمة تلك الترجمة وكان قصد (بطرس المبجل) من هذه الترجمة
" حتى يستطيع دحضه "(1).
كذلك الدراسات التي انطلقت لدراسة الشرق بعامة وانتهت إلى التركيز على الإسلام واللغة العربية باعتبار الإسلام مصدر عزة الشرق وقوته المعنوية والحسية "ولأن الإسلام هو صلب الشرق فإذا وهن الإسلام وهن الشرق كله"(2).
وبالجملة فإن الأهداف المعلنة والخفية لدراسة القرآن الكريم كانت دينية وسياسية موجهة، ولا يعني ذلك انتفاء الهدف العلمي بل تمخضت الحركة الاستشراقية عن هذا الهدف وأصبح من الحقائق المعترف بها لدى سائر من توافر على دراسة الاستشراق بعامة والدراسات القرآنية لدى المستشرقين بخاصة على اختلافٍ بين الباحثين والمفكرين في اعتباره الباعث الأساس أو الثانوي من الدراسات الاستشراقية ، ولكن بالنظر والتحليل والمقارنة والاستنتاج يتبين ضعف ذلك الدافع وأنَّه انحصر في أشخاص معدودين ... أمَّا المسار العام للحركة الاستشراقية فإنها اصطبغت بالخروج عن البحث العلمي ومقتضيات المنهجيَّة والموضوعيَّة وبخاصة فيما يتعلق بمصدر القرآن الكريم فمعظم تلك الدراسات تنفي أن يكون القرآن الكريم من عند الله وتزعم أنَّه من لدن المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وإذا كانت تراجم القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينيَّة ثمَّ إلى مختلف اللغات الأوروبية الأخرى من أهم الحقول العلميَّة التي نشطت فيها جهود المستشرقين فإنَّها انطلقت من هذه الفرية وللمثال على ذلك ما ورد في ترجمة (جورج سيل) التي أنجزها عام (1736م) وصدَّرها بمقدمة مسهبة زَعَمَ فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم مؤلف القرآن الكريم ؛ إذ يقول " أمَّا أنَّ محمداً كان في الحقيقة مؤلف القرآن الكريم والمخترع الرئيس له فهذا أمر لا يقبل الجدل ، وإن كان من المرجح ـ مع ذلك ـ أنَّ المعاونة التي حصل عليها في خطته هذه لم تكن معاونة يسيرة ، وهذا واضح في أن مواطنيه لم يتركوا الاعتراض عليه بذلك )(3).
وللعلم فإنَّ هذه هي الترجمة الأولى باللغة الإنجليزية ولا يعني أنه لا توجد بينها وبين الترجمة باللاتينية المذكورة أعلاه تراجم أخرى بل هناك عدَّة تراجم ولكنها جميعاً تعد في الأوساط الاستشراقية غير علميَّة وأنها ذات أهداف دينيَّة كنسيَّة تعمل على الرد على الإسلام بالتشكيك في القرآن الكريم وتفنيده ودحضه، بيد أنَّ ترجمة (جورج سيل) تعد هي العلميَّة في الأوساط الاستشراقية وباتت أنموذجاً يحتذى لما جاء بعدها من تراجم بالإنجليزية والفرنسية وغيرهما فاتخذت مقدمة ترجمته مقدمة لتلك التراجم بما انطوت عليه من نسبة القرآن الكريم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبذلك يتضح أنَّ فرية تأليف القرآن الكريم من لدن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أُصلت في الأعمال الاستشراقية وأصبحت في حكم المسلمات في الفكر الغربي من خلال التراجم ودوائر المعارف والمؤلفات المتنوعة ولم يند عن ذلك إلاَّ القليل.
ولأنَّ القرآن الكريم جاء بعلوم ومعارف وقصص وأحكام وقضايا وقيم تفوق قدرة النبي صلى الله عليه وسلم بل تفوق علم البشرية قاطبة لذلك التمسوا مصادر أخرى للقرآن الكريم وتلمسوا لذلك المسوغات والمبررات إمَّا باطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم على الكتاب المقدس ودراسته له ونقله عنه أوبتتلمذه على بعض النصارى وخصص بعضهم (الراهب بحيرى) لملاقاة الرسول صلى الله عليه وسلم له في رحلاته إلى الشام ومنهم من عوَّل كثيراً على مجاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود في المدينة وأنَّه أخذ عنهم العقائد والعبادات والآداب والحلال والحرام وأخذ من أهل الكتاب بعامة القصص ونحو ذلك من الشبهات ودعاوى التأثر والاقتباس المتنوعة.
كل ذلك مردود جملة وتفصيلاً وأدلة الرد على ذلك دامغة من نصوص الكتاب والسنة ومن وقائع التاريخ فإنَّ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القصص – على سبيل المثال - يفوق ما يعرفه اليهود والنصارى والعرب مجتمعة ويختلف عنها أسلوباً ومنطلقاً وغاية واستقلَّ كذلك بقصص لا يعرفها العرب ولا اليهود ولا النصارى وجانب القصص في القرآن الكريم معجز وهو من دلائل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم كذلك العبادات والعقائد والتشريعات والآداب والحلال والحرام لا يمكن أن تدل على اقتباس الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود أو النصارى وإنَّما الدليل فيما يتفق معهم مقلوبٌ عليهم ؛ ذلك أن مصدر الدين واحد وحينما يتفق الإسلام مع التوراة والإنجيل فإنَّ ذلك من الأدلة الواضحة على وحدة المصدر وهو الله سبحانه وتعالى وهذا ممَّا يقدح في منهجية المستشرقين الذين يحتجون بالتشابه فلماذا لا يكون التشابه حجة لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وقدراً مشتركاً بين العباد لعبادة الرب جل وعلا ودليل صدق على أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنَّما جاء بالقرآن الكريم من عند الله مصدقاً لما بين يديه من الكتاب !؟ لكن خلل المنهج الاستشراقي في الدراسات القرآنية يتضح من خلال إثارة تلك الشبهات دون مناقشتها ونقدها وتحليلها وصولاً لما تفضي إليه المنهجيَّة المعتبرة ؛ للمثال على ذلك فإنَّ (جورج سيل) احتجَّ في زعمه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم مؤلف القرآن الكريم والمخترع الرئيس له وأنه حصل على معونة غير يسيرة في خطته تلك بمعارضة قومه له واحتجاجهم عليه وجعل من مجرد المعارضة دليلاً كافياً لصحة ما ذهب إليه وما قرره وزعمه!؟ والمنهج العلمي يلزم (سيل) أن يستقصي هذا الاعتراض ليوضح لقارئه نهاية الدعوى التي أشار إليها وبنى عليها استنتاجاته ولكنه كما وصفه أحد الباحثين ووصف مَنْ نهج نهجه من المستشرقين بأنهم : ( يضعون الفكرة أولاً ثمَّ يبحثون عن أدلة تؤيدها مهما كانت واهية ، ويلجأون إلى الاعتماد على أسلوب المغالطات واقتطاع النصوص والحوادث التاريخية وفقاً لأهوائهم ونزعاتهم ، وهذا عكس المنهج العلمي في الاستدلال) (4) ، ولو أنَّ (سيل) التزم بالمنهج العلمي لذكر رد القرآن الكريم على مشركي مكة ولكنه يعرف بعمق كيف يؤثر القرآن الكريم بقوة حجته وبيانه وجلائه للحق فترك هذا الجانب وهذا يجافي المنهج العلمي الصحيح في الاستدلال ، وما ذهب إليه من الاحتجاج باعتراض قوم الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر فيه افتيئات على الحقيقة التاريخية في هذه الدعوى التي أثارها وكانت نهايتها التاريخية ظهور الحق وعلو كلمة الله ، ودخول الناس في دين الله أفواجا ، ونزول قول الحق تبارك وتعالى : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) فقد نزلت هذه الآية بعد أن ثبت للأمَّة بأسرها بأنَّ القرآن الكريم كلام الله أوحاه إلى نبي الرحمة والهدى وبأن اعتراضات مشركي مكة ودعاواهم قد تهافتت، فنَّدها القرآن الكريم بالحجة والدليل والبرهان ، وكذبتها الوقائع التاريخية.
أمَّا المنهجية في الرد على شبهات المستشرقين فإنَّها مؤصلة في الكتاب والسنَّة ومؤصلة فيما ألفه علماء الأُمَّة في تاريخها القديم والحديث ولا يمكن الإلمام بها هنا ولكن يمكن الإشارة لركيزة منهجيَّة طبقها علماء الأُمَّة الإسلامية في الاحتجاج على الطوائف التي أثارت بعض الشبهات على عقائد الإسلام فقد كانوا يردون على بعضهم بما قال بعضهم الآخر ويحتجون بما تورده طائفة من الحق أو ما هو أقرب إليه على الطائفة الأخرى ؛ حتى تضيق دائرة الخلاف ويُجْتلى الحق من خلال تحرير محل النزاع.
إنَّ هذه الركيزة من أهم الركائز المنهجية في سياق الحوار مع المستشرقين فيرد على بعضهم بما قال بعضهم الآخر وفيما رُدَّ به على المستشرقين من غيرهم مع الاهتمام بآداب الحوار ومنطلقاته وأدواته وإدراك التحولات في المسارات الاستشراقية والعناية بالمنصفين منهم والإشادة بهم والتحلي بالحكمة والحلم والرويَّة والتقيد التَّام بالمنهج العلمي.
والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل ،،،
الحاشية :
- قاسم السامرائي : الاستشراق بين الموضوعية والافتعال ، ص 22، 23 .
- عمرو فروخ التبشير والاستعمار ، ص 7.
نقلاً عن إبراهيم اللبان : المستشرقون والإسلام ، ملحق مجلة الأزهر ، عدد صفر 1390هـ ، ص 24 . وزقزوق : الاستشراق ، ص83.
- حبنكة : أجنحة المكر ، ص 147.
التعليقات (0)