المساواة. تلك النكرة في دنيا العرب.
المساواة. الحرية. العدالة. الديمقراطية. الكرامة الانسانية. المؤسسات ... نكرات في دنيا العرب . مواضيع لا تشد اهتمام القارئ العربي. وله في ذلك الحق, بعض الحق. لأن لا علاقة لها بواقعه, ولم تكن يوما فيه. ربما سمع عنها وقُدمت له مقرونة بالشتم والتكفير والمضرة: ولادتها استعمارية, ونشأتها سم بالعسل. وهدفها مريب: تدمير القيم العربية. استهداف الانظمة الثورية, التقدمية, والرجعية, والملكية والجماهرية, والمشيخية دون تمييز. تعمل بشكل خاص على ضرب الوحدة العربية. واعاقة المستقبل العربي الواعد الخطر على الاستعمار والامبريالية, وعلى احباط المشروع العربي ورسالته الطامحة لإعادة بناء الانسانية على قيم حضارية, محض حضارية.
ما معنى ان نكرس هنا سطورا لإحدى هذه النكرات , مساواة !!! (بصيغة النكرة) في منطقة باتساع المنطقة العربية طولا وعرضا, حاضرها مترد, وأفاقها مسدودة. تسود فيها الامية بأشكالها المتعددة. وينتشر الفقر المتسعة دائرته لتدخلها كل يوم شرائح جديدة لم تكن قبل استشراء الفساد بأنواعه السياسي والاقتصادي والخلقي داخل هذه الدائرة.
ماذا يعني مفهوم المساواة من وجهة النظر الفلسفية او الاخلاقية او الدينية او القانونية , لمريض لا يصل دائما للعلاج الا متأخرا, أو قبل ان يسبقه اليه الاجل "المحتوم". أو للمتقاضي المحروم من دفاع حقيقي ومن قضاء منصف. أو لمن لم يجد مدخلا طبيعيا لتعليم فيه علم وتربية وثقافة وتكوين, تتوجه شهادة جديرة باسمها, تشهد له بانه لم يضع سنوات وسنوات من عمره على مقاعد الدراسة ليخرج الى الحياة العملية بمؤهلات تعادل بعضا مما تحصّل عليها غيره في مناطق أخرى من العالم, خلال نفس السنوات الدراسية. ولنا في تصنيف العديد من الهيئات الدولية لجامعاتنا في المراتب الخلفية الخلفية على قوائم التصنيف خير شاهد ودليل.
ماذا تعني له المساواة وهو يرى قصورا تنبت بسرعة الفطور حوله, واكواخا وابنية عشوائية لا تتوفر لساكنيها ابسط المتطلبات الصحية و الشروط الانسانية, وسيارات فارهة لمسؤوليه وابنائهم تخترق كل قوانين السير وترمي قذى بعين الحسود.
ماذا تعني له المساواة وهو يرى بأم عينه الاثرياء الجدد بملايينهم من القطع النادر, ونفوذهم الذي يتخطى كل الحدود, في حين تُكسر قدم اي مواطن يقترب من حدود مزارعهم التي اصبحت الدولة كل الدولة . ويُقطع لسان من يذكرهم بسوء.
ماذا تعني المساواة لمن يقف امام موظف غالبا, ان لم يكن دائما, ما يكون اقل مستوى علمي منه, واصغر سنا وقدرا, وفاقد لكل احترام وكل احساس بالمسؤولية, وقفة من يستجدي منّة او مكرمة, يدفع من أجلها "خوة" تكشف الاصرار عليها وتقدر قيمتها نظرات "البجاحة" المتسمرة على جيب "زبونه" دون الصعود الى أعلى, الى مستوى الوجه والرأس.
ماذا تعني له المساواة اذا كان لرجل الامن ان يسوقه, مزاجيا, ويسوق والده وعائلته وكل من يمت اليه بصلة الى اماكن بعيدة لا تليق بالإنسان وجنس البشر. ويساوي بينه وبين المخلوقات غيرالناطقة.
ماذا تعني له المساواة ان كان مشكوك دائما في مواطنيته الى ان يثبت العكس. يساق سوقا للتصويت والتصديق والتصفيق, و لقب مواطن , ان استحقه, لا يعني الا الرعوية والتابعية .
ماذا تعني له المساواة وهو يعلم ان حكامه في مشارق منطقته ومغاربها يثقفون شعوبهم على ان الله كان رحيما بهم حينما انزل لهم وبينهم حكاما لا يساويهم أحد, ولا يشبههم أحد, ولا يمكن ان يخلفهم أحد ان لم يكن من صلبهم يُستخلف ويُستنسخ على معايير التشابه والمساواة مع المورّثين حين يسترد الله أمانته بعد شيخوخة هنيئة لا تعرف شيب شعر أو اضطرابات صحية او ذهنية.
ماذا تعني المساواة لفتاة تساوي نصف أخيها في احسن الحالات. ولا تساوي زوجها و لا تعادله فهو قوّام عليها وولي امرها وقاهرها. ولا تساوي شيئا اذا دارت حولها شائعات تمس بكرامتها, فتصبح محللة للذبح لغسل العار ورد الاعتبار لأهلها وقومها وعشيرتها, ولطمأنة القلوب المؤمنة بان شرع الله قد نفذ. ماذا تعني المساواة للمرأة التي لا تخرج الا بأذن من زوجها أو أبيها أو أخيها, وليس مطلقا من أختها, وان خالفت, لا تعود لبيت الزوجية ولو كانت اما "لدزينة" أولاد. ولو كانت ملفوفة عمرها بطوله, روحا وجسدا, بنقاب. أو بتهديدها بأبسط العقوبات وأقلها ايذاء: الزواج عليها بمثنى او ثلاث أو رباع.
ماذا تعني المساواة وهو, أو هي, يرى, أو ترى, مسلسلات, تكون كرامة المرأة للتسلية وللتجارة, مسلسلات تدعي تجسيد واقعها وتعالجه, أي علاج !!! فهي:
ـ تجعل من المرأة المحافظة "مسخرة" ومجرد مدبرة دسائس سطحية أو خبيثة تتردد على السحرة والدجالين للمساعدة في محبة أو أذية. متلقية, صامتة او صاخبة , لعبارات الاهانة من الزوج المستبد أو الاب أو الأخ "المرعد المزبد" في وجهها ان هي فعلت .. او فعلت ..او لم تفعل .., عبارات يترفع عن النطق بها من يحترم نفسه. ويجرون على لسانها سيل الشتائم والعبرات المحصور تداولها في اسواق بيع الهوى. كلمات وحركات تصل اسماع الرجال والنساء والاطفال من الناطقين بالعربية بفضل المحطات الفضائية المستثمرة حتى في الشتائم.
ـ و تقدم المرأة , في بحثها عن حريتها , باحثة عن العهر والاغراء "وحل الشعر" والخروج عن كل مألوف. وكأن بعض المؤلفين المستثمرين في تلك المسلسلات , والمخرجين ,والمنتجين , الباحثين بالدرجة الاولى, عن ربح رخيص, أصبحوا اصحاب اختصاص في كل شيء, أقله اعادة بناء المجتمعات وتركيبها تركيب صور ومشاهد بأنواعها. لا يقاربون التشريعات بأنواعها, ولا الاسباب السياسية والاقتصادية التي تشكل جزاء اساسيا من مأساة المرأة, ليضعوا, ولو عن غير قصد , المأساة في المرأة وتكوينها.
ماذا تعني له المساواة ان كان لا يرى مستقبله الا خارج الوطن وبعيدا عنه, في اي بلد يمكن ان يوفر له لقمة عيش شريفة وكرامة وحرية, وبعض من مساواة في القيمة مع ابناء المهجر.
كيف نريده ان يقرأ مواضيع تتعلق بالمساواة ــ دون ان يشتم الكاتب أو يصفه في أحسن الاحوال بالطوباوية ــ وهو يرى يوميا, زيادة على كل هذا, وبسبب كل هذا, أمام مداخل السفارات الاجنبية, المحصنة ضد الغزو البشري, طوابير من أمثاله من المواطنين, منذ ساعات الفجر الأولى تتوسل تأشيرة سفر نظامية. دون حساب عشرات الاف الباحثين عن تجار "passeurs" للهجرة غير الشرعية علهم وبوسائلهم يستطيعون ارسالهم الى ما يحسبونه النعيم المنشود.
المساواة الوحيدة التي يحسها ويلمسها يوميا ولا يمكنه نكرانها, هي المساواة في الخضوع. المساوة في القلق. المساواة في الخوف. المساواة في الضياع. المساواة في الامتهان. في هذا وحده تقف ملايين المستضعفين على قدم المساواة. مساواة خراف القطيع امام عصا الراعي وكلاب الحراسة.
الا يشبه الحديث عندها عن المساواة ــ ومسائل أخرى, مثل الحرية, والعدالة, والقانون ــ الحديث عن الكافيار ومذاقه لمن يحلم برغيف خبز ساخن فلا يجده دائما؟. او الحديث عن الطمأنينة, , والهدوء النفسي, والاحلام السعيدة, والمستقبل الافضل, والامان مع وجود الذئب في عين المكان؟.
ومع ذلك, ومع جدية الاعذار التي تبعد القارئ عن الكتابات في المساواة وغيرها من المبادئ, يبقى ان الانسان بطبيعته, وان صبر طويلا على اهانته فلن يتخلى الى الابد عن كرامته. ولنا في التاريخ دروس وعبر. ليست هذه موعظة منا تُقدم لمواطننا, ولا من قبيل تلاوة الحكم المحفوظة, والأقوال المأثورة, أو استحضار النصائح المحنطة بتقنية تحنيط المومياء الفرعونية. تكفيه النصائح والارشادات والمواعظ, الدينية, والحزبية, ونصائح المثقف, وكبير العشيرة, وصاحب النفوذ, وكل من له عليه "مونة" و "يُراعى خاطره", ويكفيه سوق كل مبررات الخضوع والخنوع على انها من طبيعة الأشياء.
المساواة ليست نكرة عند شعوب اخرى, مثلنا تماما في تكوينها الفيزيولوجي, في انحاء عديدة من كوكبنا. فهي مُعرفّة بكل أدوات التعريف. فاعلة, وفارضة نفسها على الجميع بقوة الدساتير والقوانين والانظمة. و مترسخة في الاذهان, وموجهة للأفعال. بفضلها تطورت تلك الشعوب, وعلى اسسها بنت أوطانها وانظمتها السياسية والثقافية والاجتماعية.
فكرة المساواة, تجد جذورها في العصور القديمة, ونحن هنا لا نؤرخ لها, تكفي الاشارة لقول زينون (335 ـ 262 قبل الميلاد) : " كل الكائنات البشرية تملك امكانية الوصول الى الحكمة. ولكن الحكماء وحدهم هم المتساوون". مع المسيحية وخاصة مع القديس بول بدأ التبشير بمساوة في القيمة الانسانية بين البشر. و مع هوبز و دوما Domat هي حقيقة طبيعية " كل البشر متساوون بفعل الطبيعة, اي متساوون في جوهرهم". اديان ومذاهب جعلت المساواة والاخوة وقف على اتباعها وحدهم دون الاخرين من ابناء البشر ممن لا ينتمون لمعتقدات مذاهبهم وطوائفهم. كما وضعت معايير نسبت وضعها الى الله, لا تتحقق في غيابها المساواة حتى بين هؤلاء الاتباع. ومنها عدم المساواة بين المؤمن القوي والمؤمن الضعيف , والمؤمن القائم بشؤون دينه والاخر القائم بها جزئيا, او هاجرها كليا . فما بالنا بمن لا يؤمن بها أصلا.
رغم الاصول القديمة لفكرة المساواة , فان مفاهيمها التي تعترف بالقيمة المتساوية لبني البشر لم تدخل التشريعات واعلانات حقوق الانسان الا حديثا نسبيا. فقد اشار اليها اعلان استقلال الولايات المتحدة عام 1776. وكرستها الثورة الفرنسية في اعلان حقوق الانسان والمواطن في 24 اوت/اب 1789 . وجاءت في مقدمة الميثاق العالمي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966. وعليها وعلى مبدأ الحرية الذي لا ينفصل عنها ترتكز الانظمة القانونية في الديمقراطيات الغربية.
ومع ذلك بقيت المساواة بين البشر افكارا مكتوبة أو تمنيات لم تغير كثيرا من واقع اللامساواة . فقد كان عدم الاعتراف الفعلي بها من اسباب الحروب الدينية الداعية لضرورة استئصال الاخر غير المشابه وغير المساوي في القيمة وفي العقيدة الدينية.
الحروب الاستعمارية بمختلف أسبابها واهدافها كانت ايضا ضد الاخر الذي لا يشبه المستعمر ولا يساويه في "الحضارة". او في اللون او العرق .. فقد عرف القرن الثامن عشر والتاسع عشر واوائل القرن العشرين التوسع الاستعماري وقمع الشعوب "المتوحشة" أو بدائية الحضارة, لينقل اليها "حضارة" تشبه حضارته, وتستأصل كل ما يختلف عنه. فكان لابد من تحويل الشعوب المستعمرة الى مستعبدين ومستغلين وادوات انتاج. وخيرات بلدانهم وثرواتها ومواردها الطبيعة الى مواد اساسية في بناء اقتصاده وصناعاته وقوته العسكرية وازدهاره المادي . أية مساواة في القيمة الانسانية !!!. واية اعلانات ودساتير بقيت معلقة قرونا !!!.
تعرض السكان الاصليون للقارة الامريكية من الهنود الحمر لمذابح ومجازر واستئصال كامل لا نهم لا يشبهون الامريكي الجديد , ولا يمكنهم بحال من الاحوال ان يتساووا معه في شيء.
اضافة الى الحروب المحلية , والأهلية عرفت البشرية حربين عالميتين كان للمفاهيم العنصرية وتفوق العرق اثر كبير في اشعالها وفي اتساع المجازر الوحشية للأبرياء من أعراق غير متكافئة او متساوية في القيمة الانسانية مع العنصريين والمهووسين بالدم النقي والتفوق العرقي.
الى تاريخ قريب جدا 1990 بقي التمييز العنصري يحصد ارواح سكان افريقيا الجنوبية, تُنتهك حقوقهم كبشر يختلفون لونا عن الاقلية العنصرية البيضاء. تساندها دول عظمى كبريطانيا والولايات المتحدة الامريكية ,والقوى التي تنص دساتيرها ومواثيقها على الحرية والمساواة بين البشر !!!.
رغم كل هذا فان نضال الانسان من أجل المساواة أدخلها بقوة في القانون الوضعي. فهي في كل اعلانات حقوق الانسان, ومواثيق المنظمات الدولية. وهذا ما يعطيها قوة المعاهدات الدولية والقواعد الدستورية.
تطور المساواة رافق تطور حقوق الانسان التي من بين اهدافها تقييد سلطة الدولة وانسنة القوة العامة. وأصبحت تعني كذلك ,وبشكل جوهري, الزام الادارة بمعاملة المواطنين دون اي تمييز. الى جانب كونها حماية من تعسف السلطة, فقد اجبرت هذه الاخيرة على توفير الحدود الدنيا من المساواة الفعلية, وخاصة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية.
المساواة, بتأكيدها للقيمة الاساسية الجوهرية المشتركة القائمة في كيان كل كائن انساني دون استثناء, تعتبر القاعدة الصلبة التي تقوم عليه مجموع الحقوق الاساسية fondamentaux.
قيمة كل انسان المساوية لكل انسان, والكرامة الانسانية غير المنفصلة عن كيانه, لا يتعارض معها التمايز الفردي بين الكائنات البشرية كالاختلاف في الجنس: رجال ونساء, واختلاف لون البشرة ولون العيون والطول .. اختلاف الثقافات, والعادات والتقاليد, والاذواق ..الاعتراف بهذا الاختلاف لا يعني ان تقوم عليه لا مساواة في القيمة الانسانية.
انتقلت المساواة من مجرد مبدأ أخلاقي وفلسفي لتدخل الدائرة القانونية وتكتسب الصفة الدستورية. فاصبح التمييز بين البشر على أساس العرق او الجنس أو الاصل او اللون أو المعتقد, جريمة يعاقب عليها القانون,
لتخرج المساوة عندنا من المجهول الى المعلوم لابد من حركة المجتمع بأكمله : المفاهيم. التربية. اعادة النظر بخاطئ المورث من عادات وتقاليد تجذرت واصبحت تفرض نفسها وكأنها مقدسة, أو قوانين طبيعة تسمو على القوانين الوضعية المتطورة. انها عميلة اعادة الانسان.
ولابد من أعادة بناء الدولة على اسس القانون والديمقراطية والمؤسسات والعدالة حيث يتساوى الجميع أمام القانون. ولا يكون الحاكم اينما كان موقعه الا موظف يمارس وظيفة منتخب لشغلها, يُقّيم على حسن الاداء ويُسأل عن سوئه.
واخيرا لا نعتقد ان وطنا, تبقى فيه المساواة نكرة, وطن يمكنه النهوض الى مصاف الاوطان المتقدمة التي يشغل الانسان فيها مكانة الانسان.
د. هايل نصر
التعليقات (0)